تهامة الجنديصفحات الثقافة

ذاكرتي مثقوبة ولا أرى البعيد/ تهامة الجندي

“الحياة معركة، علينا أن نخوضها بشرف”. وفي ساحة النزال، نحارب ونهادن على قدر الموازين، من نعتبرهم خصوما وأعداء، أو ربما منافسين. صراع خارجي، على ضراوته من طبيعة الوجود وطبائعه. ومن ضرورات الاصطفاء، تفعيل الذهن وحس المبادرة، والمضي نحو الأمام، إن احتدم على مستوى الفكر واللّسان، ولم يتجاوز الحدّ إلى العنف الجسدي. وعند المواجهة لا يكون الكائن وحيدا، بل يتحرك ضمن شبكة من الداعمين والانتماءات، بحسب ما يملك من قناعات ومؤهلات وقابليات.

أما معركة الذات فهي شأن آخر، الساحة فيك، وأنت تقبع وحيدا أمام مسلماتك، ذاكرتك، خزين معارفك، رغباتك، أقنعتك الاجتماعية وأناك الخاصة… تتهكم، تدين، تتعذب، تطلق رصاصك وتتلقى المدافع، تشهد تصدعات قلبك، الانفجارات في عقلك، تتحسس نزيفك، وتسمع عويلك، كأنك تمشي في كربلاء… هي ذاتها المعركة التي أخوض، منذ فجر الثورة السورية، فجر أرّخت به ميلادي الفعلي، حين وجدتني أخرج سعيدة من شرنقة الموت إلى قلب الحياة، وربما فعل مثلي كل سوري حر، ترعرع وعاش في “مزرعة الرعب”.

لم تكن أدواتي كافية لخوض معركتي مع النظام: فم أخرس، يدان خاويتان، قلب ينهشه الوجع وتستوطنه المرارة، ذاكرة مثقوبة ومشتتة، يفيض منها الفشل، عقل تثقله كل أفكار الحداثة، جسد مريض، يعيش كل تبكيت الجهل والتخلف، وعزلتي قاتلة… كنت أجاهر بتأييدي للثورة، ولم أجرؤ على الذهاب إلى الميدان… أغفو وأصبح أمام شاشة التلفزيون والكومبيوتر، أغني مع المتظاهرين، وأبكي الضحايا… الخوف سلبني اللحظة التي انتظرتها مدى حياتي، أن أفتح صفحتي البيضاء، ولم يبق لي سوى الحرب ضد ذاتي.

قبل ذلك، كنت بنيت تجربتي في المناطق التي اعتبرها نبيلة، أقف إلى صف الفقير والمظلوم والمعارض، لا أعاشر الأثرياء، لا أصافح الظالم، لا أتزلّف إلى المسؤولين… إنها خطوطي الحمراء، وما عداها أكره مبدأ “العين بالعين، والسن بالسن”، الحب ديني، والتسامح إيماني. أحفر الصخر بيديّ، حتى أعيش، لا أشتكي، ولا أطلب العون. لا أذكر أني تسببت بأذية أي مخلوق عن قصد، أو خضت معركة مع أحد، كنت أتجاهل خصمي وعدوي، أدير خدي الأيمن والأيسر لمن يستهويه الصفّع، أسقط وحدي، وأنهض وحدي من رمادي. كنت المسّلمة السنّية التي تشعل شموعها لمريم العذراء، وتميل لأفكار المسيح: “من قال للظالم سلاما، فقد اشترك معه في الظلم”، “أن يدخل الجمل من خرم الإبرة، أسهل من أن يدخل الغني باب الجنة”.

على المستوى الشخصي، لم يكن لدي أية مشكلة أو إشكال، عشت زاهدة بالحياة في قوقعتي مثل السلحفاة، أكدّ مثل النمل، أكره المظاهر، اكتفي بالقليل، وأنام بضمير مستريح، لكن على المستوى العام كانت تشغلني وتقلقني القضايا الكبرى، وأشعر بالعجز، كنت أهجس بمشاريع الحداثة والتقدم، علمنة الحياة، العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، المسألة القومية وقضية فلسطين، وكنت أتلقّف الهزيمة بعد الأخرى، أشجب واستنكر بحذر بالغ، فقد شذبت لغتي حالة الطوارئ منذ عقود.

في تلك القوقعة المخّملية من المثل العليا والأحلام، نسيت أنوثتي، ذبحت جسدي على مسلخ الاستقلال واحترام الذات، جلدت نفسي وقمعتها أكثر مما تطيق… كنت أتجرع الاستبداد، وأفرغه في داخلي، وأنا أتشدق بحرية زائفة، وأتحدى الجميع بمظهري الفاضح. لم أشكك يوما بمبادئي العرجاء، قلمي الأكتع ومسلماتي الخرساء؟! كنت أشك بمن تخلّى عن تاريخ النضال. لم أتساءل، من هم أولئك الذين أناصرهم، أو أناصبهم العداء؟ لماذا لا أعرفهم ولا يعرفونني، وهل يستحقون مني فعلا هذا الفرز؟ أين أنا من كل هؤلاء، ماذا أريد، وبماذا أرغب، ولماذا لا أخوض معركتي، وأكتفي بمحاكمة نفسي والآخرين، وأنا أمد ساقي وأعب لفافتي؟ لم أنتبه، لماذا أخاف الحب، وأحارب عاطفتي؟ لم ألحظ الشقاء الذي يرشح من أطرافي، ولم أكترث بالزمن الذي يتسرب في غفلة مني، حتى لجأت إلى بيروت.

في بيروت، الأفكار تمشي على الأرض، والرغبات تطير بك إلى السماء السابعة. كل ما تراه ساحر، ومتاح إن رغبت، عليك فقط أن تفكر كيف، وأن تجتهد كي تصل، لا مكان للكسل والسهولة والعطايا في هذه الجنة الخضراء، هي الأقرب إلى نمط الحياة الغربية بكل أطياف جمالها وتوحشها، وهي النموذج الرأسمالي الأول الذي أحتك فيه، فقد اقتصرت تجارب عيشي على الدول الاشتراكية.

وأنا أهيم مفتونة، أبحث عن إحداثيات جديدة، ونقاط ارتكاز، اجتاحني الزلزال، وبدأت ثورتي. أنا ابنة مفارقات الحياة والمصادفات الغريبة، ثمرة الغواية والعشق الحرام، وُلدت بجوار البحر، في ليلة القدر، من العام الأخير للوحدة بين سورية ومصر، رضعت العروبة مع حليبي، ورفعت وجه عبد الناصر في أولى أيقوناتي. تكلمت الفرنسية في المغرب السعيد قبل لغتي، تناولت خبز الفقراء في دير الراهبات، ريثما يعود والديّ من السفر، انتقلت من مدينة لأخرى مثل الغجر، ولم أستقر في أي منها أكثر من عقد.

بدايتي سعيدة، وفي السادسة من عمري، كنت الابنة المدللة لأب يشغل منصب رئيس اتحاد نقابات العمال، يوم كان للحركة النقابية وزنها ومعناها في سوريا، ويوم كان المنصب يوازي منصب رئاسة الجمهورية، في أول عهد دولة بعث الشباطيين، حينها أُمضيت الصف الأول في مدرسة الفرنسيسكان الخاصة، وكان أبي مشغولا أغلب الوقت، كنت أزوره في مكتبه، أتابع خطبه الحماسية على التلفاز بشغف بالغ، ولا أفقه تماما ما يقول، لكن شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، حفرت عميقا في وجداني، وما لبثت أن أهدتني إحساسي الغامض الأول بالهزيمة، في الخامس من حزيران 1967.

جيش الصهاينة على أعتاب دمشق، تسرّبت الشائعات، وأختفى المسؤولون من العاصمة، أبي لم يغادر مقرّه، حشد حوله الكتائب العمالية المسلحة، وقال: إن استطاعوا فليدخلوها على جثث العمال السوريين. بعد النكسة استقال من منصبه ومن حزب البعث، وطالب بفتح تحقيق حول حقيقة ما جرى، ثم غاب في زنزانته المنفردة. لم أعِ الملابسات، ولماذا نقلتنا أمي إلى مسقط رأسي في اللاذقية، ودخلت مدارس الحكومة، لكني بدأت أعي جيدا أني فقدت امتيازات أبناء السلطة، على ضآلتها ذاك الحين، ولازمتني لعنة أولاد المعارضين.

أين أبي، متى أراه؟ ولا أحد يفسر لي سر الغياب الجارح، وبعد عام وعدتني أمي، أن نذهب لزيارته أول أيام العيد، وفي الطريق، كان يقفز قلبي من الشوق والفرح، لم يكن عندي أدنى تصوّر عن معنى السجن، وبدأت أتعرّف عليه، مذ أن اعترضنا أول حاجز لحفظ الأمن، عاملونا بخشونة، فتشونا جيدا، نكشوا أكياس الطعام، فتحوا أقراص الكبّة والحلوى… لم أكترث، ما إن انتهوا، حتى ركضت كالملسوعة باتجاه باحة السجن، أفتش عن حبيبي… لن أنسى خيبتي وألمي، كان وجهه بالكاد يرى من خلف قضّبان الحديد، وراحتي الصغيرة تمتد، علّها تستطيع لمسه، ولا تصل… لم أعانق أبي، ولم يضمّني، كما حلمت، تبادلنا النظرات وبعض الجمل مثل الغرباء، وانتهى موعد الزيارة، من يومها كرهت كل الأعياد، وارتفعت في داخلي جدران الزنزانة.

ثلاثة أعوام، لم يكن أمامي غير وجه الله، أصلي وأصوم وابتهل إليه، أذهب إلى مزارات الأولياء، أطلب عونهم، ولم يخرج أبي من سجنه، حتى فاجأ حافظ الأسد الجميع بحركته التصحيحية، أطلق سراحه، واعتقل رفاقه السابقين. امتلأ بيتنا لشهر أو أكثر بالمهنئين، من كل المناطق وكل المشارب، وبدأت أعي لحد ما معنى “شخصية بمواصفات جماهيرية”، بعدها طاش صواب أبي الملحد، حين رآني أتعبّد، ومضت أربع سنين، ونحن نتشاجر حول وجود الرب، وفي كل مرة يقول: كيف تؤمنين بمن ظلمك، أجاز ضرّبك وجلّدك ورجّمك حتى الموت لأتفه الأسباب، ولم اقتنع، لكنه حين قارن ذاك العنف بقول المسيح “من كان بلا خطيئة فليرجمها” هجرت عبادتي، والتحقت بماركس الذي جعل مني مقياسا لتطور المجتمعات، ومنحني كامل حقوقي المغتصبة أسوة بالرجال.

عدت حبيبة والدي، ورفيقة مشواريه، نذهب إلى المسرح والسينما، نرتاد مقاهي الرصيف وملاهي السهر، ومن خلاله تعرفت في مراهقتي على أهم رموز الثقافة والسياسة في بلدي، كنت الصغيرة وسط كبار، أغنوا مداركي بتجاربهم وسعة اطلاعهم وحسهم الثوري، فصار الكتاب عالمي وغايتي، حتى ألحق بهم، وكنت أقلد أبي، أدوّن المقاطع والجمل التي تروق لي في دفتر خاص، يقول الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال: “جدارة الإنسان ماثلة في الفكر”، والبير بان “افتح معجما بسيطا، تجد أن الفكر الحر مشايع للبحث الحر، واعلم أن من حق الإنسان في الفكر الحر، أن يفحص جميع الآراء وينتقدها، وأن يناقش جميع المسائل، دون أن يستطيع شيء من الأشياء عرقلة هذا الحق، أو وضع حد له”.

قرأت شكسبير، سارتر وفرنسوا ساغان وسيمون دي بوفوار، و”السأم” لألبرتو مورافيا… تأثرت بالوجودية، أعياني الاكتئاب والعبث، وألهبتني جرأة البوح وحرية الجسد. قرأت مسرحيات بريخت، “العقب الحديدية”، “درب الآلام”، “الأم”… غسلني ماء المثل، لبسني ورد الأحلام، على جدراني علّقتُ صور ماركس، انجلز، لينين، على رفوفي جمعّتُ الكتب الحمراء، عشقّتُ غيفارا، غنّيتُ للشيخ إمام “شرّفت يا نيكسون بابا/ يا بتاع الوترغيت/ عملولك قيمة وشيمة/ سلاطين الفول والزيت…”.

قرأت “البيان الشيوعي”، وتحمسّت لفكرة دكتاتورية الطبقة العاملة، وأن البشر هم من يصنعون أقدارهم بالمواجهة، وأن الاستغلال والاغتراب سمتان ملازمتان للمجتمعات الطبقية، وكلاهما يعنيان أن يُعامل الإنسان كسلعة، لا كقيمة وجوهر. قرأت أطروحة لينين حول “القضية القومية”، واقتنعت أن انقسام الأمم إلى أمم مضّطهِدة وأخرى مضّطهَدة، هو جوهر الإمبريالية وماهيتها، وأن حل المسألة، لا يستوي إلا في سياق نضال الشعوب ضد الاستعمار والإلحاق، بارتباط وثيق بين إنجاز الثورة الديموقراطية والثورة الاشتراكية، وفي ظل جبهة عريضة للتضامن الأممي. وراقتني رؤية بليخانوف لدور النخب المثقفة في عملية التغيير، ولم أكن وحدي من تؤمن بالماركسية واللينينية، كان أكثر من نصف مثقفي العالم، يقفون إلى صفي.

وفي بلدي، لم أكن الوحيدة، معظم جيلي كان مولعا بالكتاب، متحمسا لليسار، وكانت مدينتي الساحلية، الوادعة، تحضن سكانها بحب من كل الأديان والطوائف، وتفتح عقلها على تيارات الحداثة… كنا نتابع نادي السينما، نحتفل برأس السنة، لم نكن نلحظ الحجاب، إلا ما ندر، وباستثناء الجوامع والمدارس، كانت جلساتنا مختلطة، وكانت الفتيات والنساء يرتدين لباس البحر على الشاطئ، والأثواب القصيرة في الأماكن العامة، بينما كانت خلايا رابطة العمل الشيوعي، تتشكل بالسر، و”الراية الحمراء” يقرأها الشباب… كانت اللاذقية تشهد حراكا فكريا وسياسيا على غاية من الأهمية، سوف ينطفئ بعد حين. ولم يكن الحراك يقتصر عليها فقط، بل يشمل أغلب المناطق السورية، التي بدأت تتململ من حركة التصحيح، بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان.

اندلعت الاحتجاجات الشعبية في أغلب المدن السورية، الواحدة تلو الأخرى، وأُخمدت عن بكرة أبيها، بعنف لم يعرفه السوريون حتى ذاك التاريخ، وتعتيم إعلامي كامل… امتلأت السجون بالمعتقلين من كافة الأطياف والانتماءات السياسية، المنتمين والمشتبه بانتمائهم، انتشر مسلسل التفجيرات والاغتيالات، ارتُكبت المجازر، دُمرت أحياء بكاملها، وكانت مدينة حماه الخاتمة الأكثر دموية في المشهد الحزين. وحتى اليوم ما من أحد يعلم حقيقة ما جرى بالتفصيل، كم بلغ عدد الضحايا والمفقودين، كم بلغت تكاليف الخراب…؟ أُتلفت ملفات المجزّرة، أُعيد بناء وترقيع الأحياء المتضرّرة، وأعيدت كتابة التاريخ. حينها تجرّعت هزيمتي الثانية، تراجع اليسار السوري والعلمانيون، وصعد الإسلام المعّتدل، ثم المتشدّد بالتدريج.

قبل خاتمة العلّقم، كانت مدينتي قد نالت نصيبها من حظر التجوال والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات عام 1979، وأمام عيون الساكنين، هدمت الجرافات حي الشغب “الشيخ الضاهر”. فرغت المقاهي والملاهي ومنتديات الثقافة من روادها، وأضحت اللاذقية أشبه بالثكنة العسكرية، حواجز الأمن في كل مكان، وعلى أبواب الدوائر الحكومية وهيئات التعليم، تفتش الجميع، وتسجن من تشاء. سيارات الشبيحة، من أقرباء العائلة الحاكمة وأتباعهم، تتسابق في الشوارع، تخّرق الأنظمة وقوانين الدولة، تتحرش بمن يعجبها من الجميلات، ولا أحد يجرؤ على الكلام.

[مقطع من نص طويل قيد الكتابة

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى