صفحات الثقافة

ذكرى رحيل محمد الماغوط العاشرة -مجموعة مقالات-

 

الماغوط و«شعر»: توقير وتصغير!/ صبحي حديدي

في سنة 1959 أصدرت منشورات مجلة «شعر» مجموعة شعرية أولى بعنوان «حزن في ضوء القمر»، لشاعر سوري شاب اسمه محمد الماغوط. كان في الخامسة والعشرين، مغموراً نسبياً بالقياس إلى «نجوم» المجلة و»أهل السلطة» فيها، حسب تعبير رياض الريس. نصّ الإعلان التجاري الترويجي لهذه المجموعة، والذي واظبت المجلة على نشره باعتبارها الناشر، جاء فيه: «هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي». في المقابل، لم يكن «الأداء» الشعري هو الخصيصة التي توقف عندها التحرير في إطراء مجموعات شعرية أخرى صدرت عن الدار ذاتها، واعتمدت أيضاً شكل قصيدة النثر. الأمر الذي كان بمثابة إقرار مبكّر بأنّ للماغوط أسلوبيته المنفردة المميّزة، ذات الصلة بما يتولاه النصّ الشعري، وليس الشكل وحده، من وظائف أدائية. يُراد بها أساساً تلك العلاقة الإشكالية مع شرائح القراءة العريضة ـ والتي كانت شبه غائبة، وربما غير مولودة بعدُ، أو متعسرة الولادة ـ بين قصيدة النثر والقارىء العريض.

هذه الواقعة، وسواها كثير في الواقع، كانت علامة بيّنة على المكانة الرفيعة التي حظيت بها قصيدة الماغوط منذ أطوارها الأبكر. ليس في صفّ شعراء قصيدة النثر إجمالاً، وحركة مجلة «شعر» بصفة خاصة، فحسب، بل كذلك، وهو الأهمّ والجوهري، على صعيد الذائقة العامّة، في تلك المراحل الحافلة بالتعطّش إلى التجديد، وبالتبدّلات القلقة في الحساسيات والأساليب والموضوعات والأشكال، وبالصعود الخاطف مثل الأفول السريع لحداثات متلاطمة متصارعة، بعضها أصيل ومعظمها زائف. بيد أنه توفّرت مواقف أخرى، داخل صفّ «شعر» تحديداً، وضعت قصيدة الماغوط ضمن سلسلة من الإشكاليات التعبيرية واللغوية والجمالية، وحتى الفكرية، الثقافية، التي تدنيها، في قليل أو كثير، عن سوية القصائد التي كان يكتبها «النجوم»، أمثال أدونيس والحاج والخال، فضلاً عن توفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة…

وعلى سبيل المثال، في عام 1959 وعلى صفحات مجلة «شعر» اللبنانية دون سواها، كانت خزامى صبري (التي سيتضح، فيما بعد، أنها الاسم المستعار للناقدة السورية خالدة سعيد)، قد كتبت مراجعة لمجموعة الماغوط «حزن في ضوء القمر». وتلك وثيقة تظلّ ذا مغزى اليوم أيضاً، ليس لأنّ صبري/ سعيد كانت سبّاقة إلى استكشاف النصّ الماغوطي وتسجيل إشارات نقدية مبكرة ولامعة تماماً حول خصائص شعره، فحسب، بل، كذلك، لأنّها امتدحت فيه كلّ خصيصة… ما عدا الشعرية! وبعد أن اعتبرت «هذا النثر الشعري شعراً»، استقرّت دون إبطاء على أنّ قصيدة الماغوط «عقد من الصور، ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين»، وأنّ «الصورة قوام التعبير الشعري عند محمد الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من المجموعة»، وأنّ الشاعر «يعرف جيداً من أين يغرف مادة صورته (أو لعله لا يعرف)»، وأنّ «صوره لا تكشف غالباً عن علائق جديدة تتخطى العلائق الشكلية»، وهي «تبقى باردة» لأنها إنما «تنقل الواقع أو العلاقات الحسية المنطقية»…

كذلك فإنّ الصورة الماغوطية هذه «مسطحة لا عمق لها، لأنّ العمق أو البعد الثالث في الصورة ينبع من العلاقة المعنوية التي توحي بما هو أبعد من الأشكال المحسوسة التي تمرّ في خيال القارىء ساحبة وراءها نهراً من الرؤى والخواطر والمواقف». وتضيف صبري/سعيد، في ما يشبه تجريد الماغوط من صفة الشاعر، بعد منحه صفة المصوّر السطحي: «ولو كان محمد الماغوط متمكناً من فنّ الشعر لاستفاد كثيراً وحوّل هذا التخلخل إلى أسلوب خاصّ»، ثمّ تذهب أبعد فتقول: «إنّ شعر الماغوط يفتقر إلى الحركة الداخلية، لأنّ الصوت في القصيدة يكاد يقتصر على النداءات والأوصاف. الانفعالات في القصيدة تتموّج تموّجاً خفيفاً يكاد لا يبدو، مما يضفي عليها صفة الرتابة والتكرار، لأنه مهما كان الانفعال متوتراً عالياً سينتهي في نفس القارىء إلى البرود إذا لم يتموّج بعنف مماثل».

صحيح أنّ الزمن، والتطوّرات الكبرى في النظرية النقدية حول البنية الشعورية للصورة الشعرية والصوت والهوية والحركة الداخلية في القصيدة، قد تكفّلت بتصويب أحكام صبري/ سعيد، القاسية المغلوطة تلك. إلا أنّ عدداً من السمات التي اعتبرتها الناقدة بين مثالب النصّ الشعري الماغوطي كانت للمفارقة! ـتتصدّر الأسباب التي أكسبت شعره كلّ تلك الشعبية في تلك الحقبة. إنها، أيضاً، اعتبارات سوسيولوجية قرائية، جعلته شاعر مجموعة «شعر» الذي حظي بمقدار الإجماع الأعلى على شعريته الفريدة، وبدرجة الاستقبال الأفضل عند القارىء العادي والقارىء النخبوي معاً، وبانتشار كان الأوسع خارج الدائرة الشامية، اللبنانية، السورية.

إلى هذا، من المعروف أنّ الماغوط انسحب من مجلة «شعر»، أواخر العام 1961، بل شنّ على المجموعة هجوماً عنيفاً، ذا مضمون جمالي وسياسي في آن معاً، بلغ حدّ التنازل الطوعي عن أية ميّزات شعرية منحتها له المجلة أو شعراؤها. لكنّ هذه العلاقة، في وجهتَيْ التوقير والتصغير معاً، كانت محطة كبرى، ونوعية، في حياة شاعر كبير. مرّت، يوم أمس، ذكرى رحيله العاشرة.

القدس العربي

 

 

 

محمد الماغوط: البدويّ المشعّث/ خالدة سعيد

محمد الماغوط، «البدوي المشعّث»، كما وصف نفسه، والغاضب، الحنون، «الحاجبُ القديم على باب الحزن»، شاعرٌ التقط صور البؤس والكلمات المُهمَلة التي نزلت إلى الأزقّة، وجعلها بسحر موسيقاه وصورِه المفاجئة، قصائدَ ترتعش بالدّهشة. إنه الشاعر الذي تُبكيه القصيدة ويُبكيه «ضوء القمر ورائحةُ الأطفال»، ويبكيه ذِكْرُ شام وسلافة.

من الأطراف جاء، «من حدود البادية» كما كان يحبّ أن يؤكّد باستمرار. جاء يحمل في روحه وحساسيته الامتدادَ وعشقَ الحريّة وكراهيةَ الجدران. لكنّ السجون والجدران الضيّقة ـ التي بدت له «ملايين الجدران» ـ قد ظفرت به وتركت في خياله أثر مخالبها، فلم يجد ما ينقذه منها إلا فسحة الشعر. وكان ما كتبه شعراً يمتزج فيه الحزن والحنان، الانكسار ومرارة السخرية. كان الشعر ثأره من تلك الجدران ومن حضارة الجدران ونُظُمِها، بكل معانيها؛ كان حريتَه الوحيدة وانتماءه الحقيقيّ.

■ ■ ■

ولد الماغوط عام 1934 في بلدة السّلميّة من محافظة حماه في سوريا. أدّى الخدمة العسكرية الإلزامية عام 1955. في أثناء خدمته العسكرية سُجن مراراً لأسباب سياسية حزبية لم تكن له فيها أي مسؤولية غير مسؤولية الانتماء إلى حزب مُرَخَّص. هذا السجن ترك آثار مخالبه في شعره وفي نفسه. فانبثق شعره جديداً خارج المعايير المألوفة. خرج من تراث اللغة الأنيقة، وظلّ نبيلاً خارج الموضوعات «النبيلة» بالمعنى التقليديّ.

ذات مساء في أواخر عام 1957 جاء بصحبة أدونيس إلى البيت. كان قد خرج لتوّه من السجن العسكري في دمشق، وتوجّه فوراً إلى بيروت. وجهه حائر، ملابسه لا تزال ملابس السجن: نصف عسكرية نصف مدنية.

أدونيس قال لي: «أعدّي عشاءً لائقاً. ضيفنا شاعر مهمّ جدّاً».

وكانا قد التقيا في السجن وقرأ أدونيس بعض قصائده وأعجب بها.

وفي اليوم التالي قرأ أدونيس قصائد من شعر هذا الشاعر في جلسة «خميس مجلة شعر»، وأحدث شعره تلك الدهشة المفاجئة المعروفة، التي تكرر الكلام حولها. وكانت تلك انطلاقته الصاعدة.

■ ■ ■

اخترق الماغوط، حين كتب، تقاليد الشعر العربي جميعها. بل اخترق تقاليد الشعر المألوفة. عديدون قبله كتبوا الشعر بلا أوزان وحتى بلا إيقاع. بينهم شاعر من المنطقة التي ينتمي إليها الماغوط، والواقعة على حدود البادية. وهو الشاعر السوريّ سليمان عوّاد. وقد كرر الماغوط امتداح شعره واعتبره رائداً.

وكانت هناك نصوص نثرية مؤثرة، تستدعي الإعجاب، لكنها لم تبلغ ما بلغه الماغوط من السحر والمفاجأة. لم تكن خصوصية الماغوط في التخلّي عن الوزن والموضوعات المألوفة أو الموضوعات النبيلة والبلاغة الموروثة وحسب، بل تخلّى عن سلّم القيم التقليدية وعن المفردات والعناصر المألوفة في الشعر. تخلّى عن الصور المُصَعَّدة والعبارات المنمّقة المكثّفة والمعايير الجمالية والبلاغة الكُتُبيّة. اعتمد صوراً ناهضة من عناصر يومية مألوفة. اعتمد لهجةً متنازِلة ومؤالفاتٍ مفاجئة، تُفارِق الفخامة والفصاحة وتبتعد عن موروث المثاليات. فجاءت لغته جديدة تستمدّ قيمتها ونبلها العفوي والمنكسِر، وصورَها الساحرة من شوارع التشرد وأزقّة الجوع، ومن أحلام الجموع البائسة والشخصيات الهامشية، دون أي وقوع في الإسفاف.

شَعْرَنَ الماغوط أزقّة البؤس وغمَر بالحنان صور البائسات. استدعى أوصافاً ودلالات من خارج الموروث والمألوف. لعب على التضاد بحدّة لم تجرح الحنان. تُفاجئنا عنده وداعةُ الإيقاع وانسيابه وطول أنفاسه، مع حنان اللهجة، لتقديم وحشية الصور وصدمة البؤس وكآبة الساقطات والساقطين في الشوارع الخلفيّة والأحياء الرثّة.

لم يكتفِ الماغوط بالخروج بشعره من القصور ومن تاريخ الشعر وتاريخ مفرداته، بل خرج من جغرافيا الصور والمعاني والألفاظ. استدعى صوراً ورموزاً وإشارات من ثقافة محليّة غير مرئية أو خارج المعايير الشعرية. خرج من التأنّق والتصعيد ومن المبالغات المثالية. يتحرك شعر الماغوط كأنه طالعٌ من قاع المجتمع بعيداً عن كل نخبة. كأنه يتشبّث بالانكسار ولا يشيح نظره عن الخطب والعناوين الحضارية والإنسانية التي اكتشف خواءها. يمزّق بيارق التفاؤل ويسخر من أصوات النّفير، ويعلن الهزيمة المسبقة. وذلك بلا وقوع في التهافت بل في أناقة ولألأةٍ تستدعيان الدهشة.

يخاطب دمشق بهذا النداء:

«دمشق يا عربةَ السبايا الورديّة،

وأنا راقدٌ في غرفتي

أكتب وأحلم وأرنو إلى المارّة

ومن قلب السماء العالية

أسمع وجيبَ لحمك العاري.

التقط صور البؤس

والكلمات المُهمَلة، وجعلها بسحر موسيقاه وصورِه المفاجئة قصائدَ ترتعش بالدّهشة

عشرون عاماً ونحن ندقّ أبوابك الصلدة

والمطرُ يتساقط على ثيابنا وأطفالنا

ووجوهُنا المختنِقةُ بالسعال الجارح

تبدو حزينةً كالوداع صفراءَ كالسلّ

ورياحُ البراري الموحشة

تنقل نواحَنا

إلى الأزقّة وباعة الخبز والجواسيس

ونحن نعدو كالخيول الوحشيّة على صفحات التاريخ».

(حزن في ضوء القمر)

هكذا بدا في شعره صوتاً وحيداً منهزماً يتمسك بعزلته وهزيمته. لم يكتف الماغوط، في شعره، بالخروج من الحدائق وقضايا العشاق أو المناضلين ولا من مرتفعات التأمل الفلسفيّ. خرج من أدبيات التعالي والفخر المموَّه. خرج من قمم اليوتوبيا التي أقام الشعر فيها مهما تبدلت مواصفاتها. ومنذ البداية، جاء شعره ـ ويا للرسالة الكاشفة ـ مشهديّاً تصويريّاً، تغلب فيه المرئيات والأحوال، والمؤالفات المتضادّة، وهو ما سيتمثّل في مرحلة نتاجه المسرحيّ، منذ سبعينيات القرن الماضي. شعره لم يُغنّ الأنبل والأجمل، بل ذهب يصطاد النبالة في صور الآلام، في الأزقّة، ليرسم تراجيديا الأجساد النسوية والرجولات البائسة، ويغنّي الأرصفة القذرة بجمال عفويّ حارّ فاتن. ويرسم لوحات كأنها من زمن العبودية والانكسار.

«وبكيتُ أنا مزمار الشتاء البارد

ووردةُ العار الكبيرة

وتدفّق الحزنُ حول ياقتي كالنّبيذ».

(حزن في ضوء القمر)

وهو في هذا الانكسار قد ناقض مرايا المألوف في الشعر، وجعل البؤس ترجمانَ النبالة. النبرة المثالية الوطنية، نبرة الاحتجاج والغضب، تدثّرت هنا بفلسفة حزينة الغَضَب ـ إذا صحّ هذا الجمع ـ تُحدّق في تناقضات الواقع ومآسيه، بلغة خرجت من جميع المرجعيات الشعرية والفلسفية والسياسية.

هكذا حضرت في شعره الأجساد النسوية البائسة، في تراجيديا غرائبية ساحرة، حيث الحبّ والهوان، الحبّ والجوع؛ حيث البغايا ضحايا قدّيسات وساقطات. التقط إشارات النّبل حيث لا أوسمة ولا عناوين. وصوّر هذا العالم السفليّ وجماله المطعون غير المرئيّ، بحنان وعفوية. رسم لهذا العالم لوحات ساحرة في جمالها الحزين، مكوّنة من مشاهد يومية مبتذلة، وأحياناً رثّة، وعلاقات حنون، واستدعاءات غريبة عن الموروث، تتمازج جميعها في موكب حزن تاريخيّ:

«أظنُّها من الوطن

هذه السّحابةُ المقبلةُ كعينين مسيحيّتين».

(حزن في ضوء القمر، قصيدة «جنازة النّسر»)

«كعينين مسيحيتين» تستحضر ملكوت الآلام وموروث الأيقونات وصور العذراء وثقافة الحزن، حيث لا صعود إلا بالموت. تحضر هذه الصور الغريبة النبيلة إلى جانب البيارق المنكَّسة وأنهار الشوك والبائسات. لا مجردات، لا ممنوعات، ولا يوتوبيا ومآثر: العالم اليومي المباشر بتفاصيله وجزئياته النافلة، ينهض إلى «ملكوت» الحيارى والمتوحِّدين البائسين. هذا كلّه جاء مفاجئاً لزمن كانت تعلو فيه قصائد الالتزام الوطني والحماسة، من جهة، أو قصائد مشبعة بمناخ اليوتوبيا والفلسفة وأساطير الفداء والموت والانبعاث من جهة ثانية. وكانت هذه الرياح جميعها تهزّ أعمدة التراث وعماده الأول، الشعر.

الصورة في هذا الشعر، وإن كانت مفاجئة فهي، على الرغم من حكائيتها ومشهديتها، وتصويرها الحنون للوحات البؤس، تبقى كاشفة مدهشة تمتح من حقول غير مطروقة، تبتعد عن التجريد والتصعيد، وتستثمر جماليّة التعارض والجمع بين المتنافرات، جمالية المفاجأة والبناء على المفارقات. وفي ذلك يكون الماغوط واحداً ممن قبضوا على تناقضات الحضارة العربية الراهنة وتناقضات العصر، واتّهموا خواء المظاهر وادّعاءات النهوض.

 

■ ■ ■

الإيقاع، في شعر محمد الماغوط، انسيابيّ هادئ وحتى منكسر وأحياناً رثائيّ مموّه. كأنّ الشاعر وصل ما بعد الهزيمة. أو كأنه يستبق هزيمة 1967 والهزائم التي تلَتْ، بعشر سنوات بل بعشرات السنين. لكنها هزيمة من لا يحارب، ويعلن اليأس من كل حرب. إنه نقد أشدّ من أي نقد مباشر.

هذه ليست الرومنسية المعروفة. كما أنها لا تقترب من غموض النصّ الشعريّ الحديث. والجِدّة هنا، تكمن في الخرق والمفاجأة والمشهديّة ومفارقة المألوف، في القيم وفي جماليات الشعر ومفرداته، وفي اكتشاف الجمال في زوايا البائسين. الجدة هنا تكمن في السياق المتنازل، الرثائيّ، الذي يبدو كأنه صوت التاريخ، أو كأنّ البؤس المزمن هو لون بشرتنا وشكل حضورنا. وهي جدَّةٌ تجيء في سياق عفوي، بلا تهويل أو تعظيم. إنّه هجاء/ حزين، إذا صحّ هذا التلاقي. هجاءٌ مُبتَدَع لمدينة «مزيّفة» أو مدنيّة مزيّفة، لضجيج بلا فعل. أو هي مقلوب يوتوبيا، وهجاء حنون، كاشف لمجتمعات يأخذها البريق بينما يغمر فيها الظلامُ المحرومين. وعبر هذا الجمال المنكسر الكاشف والتمرد الصامت يتمّ بناء الحنان وإرسال شعاع الوعي.

* خصّتنا الناقدة خالدة سعيد بهذه الشهادة عن الماغوط في ذكراه العاشرة، وهي مقاطع مجتزأة من فصل في كتاب لها بعنوان «أفق المعنى» سيصدر عن «دار الساقي».

كلمات

العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

(ملحق كلمات) العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

 

 

 

السلالة الماغوطية/ حسين بن حمزة

نستعيد محمد الماغوط في ذكراه العاشرة (1934 – 2006) ونحن نعرف أن شعره لا يزال بيننا. لا نحتاج إلى إحضاره من زمنٍ بعيد ذاع فيه صيته، فهذا الشاعر الذي نبت على حدة في الشعرية العربية الحديثة، ظل محتفظاً بصيته في زمنه وفي الأزمنة التي جاءت بعده أيضاً.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن القصيدة الماغوطية هي التي قُيِّضَ لها أن تحضر في أغلب ما كُتب من قصائد النثر العربية. وإذا انطلقنا من مبدأ أنه كانت هناك ريادتان لـ «قصيدة النثر العربية»، ريادة أنسي الحاج في ديوانه «لن» (1960)، وريادة الماغوط في ديوانه «حزن في ضوء القمر» (1959)، فإن «النموذج الماغوطي» هو الذي عاش واستمر أكثر، من دون أن يعني ذلك أفضلية ساذجة لأحد الشاعرين على الآخر. ما نقوله هنا هو مجرد توصيف إجرائي يأخذ مصداقيته مما كُتب ويُكتب حتى اليوم.

نشر الماغوط ثلاث مجموعات شعرية، وتوقف بعد مجموعته الثالثة «الفرح ليس مهنتي» (1970). وحين عاد إلى الشعر بعد تجربة طويلة في المقال الصحافي والمسرح، بدا أنه لا يُضيف جديداً إلى قديمه الذي ظل طازجاً أكثر من جديده. صحيح أن نبرته الخشنة والهجومية حضرت في نصوصه الجديدة، ولكن ذلك لم يُحضر معه تلك الدهشة التي التصقت بصوره الغريزية وحزنه الفطري وصوته الطالع من حضيض الحياة الواقعية ومشهدياتها وكلامها المتخفف من البلاغة والفصاحة. ظلت تجربة الماغوط محفوظة في مجموعاته الثلاث. ومن هناك، وجد شعره حياةً أخرى في تجارب وأسماء ظهرت في السبعينات أولاً، وخصوصاً لدى مجموعة من الشعراء السوريين الذين وجدوا في الماغوط «أفقاً» شعرياً مختلفاً عما كان يكتبه الشعراء الستينيون قبلهم. ظهر ذلك في تجارب رياض الصالح الحسين ومنذر مصري وعادل محمود وفي جزء من أعمال بندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش. وترافق ذلك مع تسميات «القصيدة اليومية»، أو «الشفوية»، أو «قصيدة التفاصيل» التي أُطلقت على هذا النوع من الشعر. استحوذ الماغوط على هذه التسميات بمفعول رجعي، فباتت قصيدته جذراً لما هو يومي وشفوي وتفصيلي. ورغم أن قصائد هؤلاء لم تكن ماغوطية صرفة، إذْ تسربت إليها تأثيرات من ريتسوس، ومن الترجمات عموماً، ومن تجارب عربية وسورية ابتعدت عن التهويم والإيديولوجيا والإيقاع العالي، إلا أنهم بدوا مثل «سلالة ماغوطية» حسب تعبير قديم لعباس بيضون. سلالة لن تقتصر على السبعينيات وحدها، بل ستتطور وتتنقح في طبعات متعددة في الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى الوقت الراهن. لم يأخذ كل الشعراء الشبان من الماغوط مباشرةً. بعضهم أخذ من تجارب وسيطة ومُحدّثة، وبعضهم مزج ماغوطيته مع سركون بولص وعباس بيضون ووديع سعادة، ومع تفعيلة سعدي يوسف الأقرب إلى شعرية التفاصيل والمشهديات اليومية. وبعضهم بدأ أصلاً من هذا المزيج كما فعل أمجد ناصر ونوري الجراح وبسام حجار في سعيهم إلى خلق أصواتهم الخاصة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نتحدث عن أثر الماغوط الخفيّ في أي شعر مكتوب بلغة محددة وملموسة يُستخرج فيها الشعر من العادي والمهمل والسيرة الواقعية والنظرة الفردية المتواضعة إلى العالم. ويمكننا هنا، على سبيل المثال والحصر، أن نُعيد جزءاً كبيراً من ازدهار قصيدة النثر المصرية في التسعينيات إلى الأثر الماغوطي، وإن كان ممزوجاً مع تأثيرات وسيطة وقريبة أكثر لسركون بولص ووديع سعادة مثلاً. النصوص الوسيطة والمجاورة جعلت الماغوط أباً بعيداً وباهتاً أحياناً، بل إن البعض تسرعوا في تطويب تجربة رياض الصالح الحسين بوصفها الأقوى حضوراً في سياق شعرية «اليومي» و«التفاصيل»، متناسين أن رياض كان الأكثر تأثراً بالماغوط بين أقرانه السوريين. ربما الرحيل المفجع والمبكر لصاحب «وعل في الغابة» ساهم في هذا التطويب، ولكن ما نستخلصه من كل ذلك أن الماغوط لم يعد مختصراً في كونه «أباً» للشعر اليومي والشفوي، بل في كونه «أفقاً» ممتداً وواسعاً لهذا الشعر المستمر بطبعات تتجاوز الماغوط نفسه، ولكن من دون أن تقطع معه نهائياً.

كلمات

العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

(ملحق كلمات) العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

 

 

محمد الماغوط… النبرة الخشنة في الشعر العربي الحديث/ خليل صويلح

أودع محمد الماغوط (1934- 2006) جيل الانتفاضات العربية التي هبّت رياحها بعد رحيله، كل ما يحتاجه هذا الجيل لجهة الغضب والسخط والتمرّد، وبدا كأن ما كتبه طوال نصف قرن، فاتورة مسبقة الدفع، ووصفة جاهزة لحساء الحرية المشتهاة، ومعجماً كاملاً في توصيف أحوال الكرامة المهدورة، وعسف الطغاة، وآلام المحزونين.

فعبارة مثل «الطغاة كالأرقام القياسية، لا بد أن تتحطّم في يومٍ من الأيام» أتت كمعجزة أرضيّة، تلقفها فرسان الميديا الجديدة على صفحاتهم، بوصفها قنبلة موقوتة ستنفجر على بعد شارعين من الثورة الموعودة، لكن هؤلاء لم ينتبهوا جيّداً إلى أن نفير صاحب «غرفة بملايين الجدران» لم يخدش حياء طاغية يوماً، ولم يترك ندبة في جبين حارس سجن، أو في ضمير لصّ، فهو كان يحرث في أرض اللغة وحدها، ويبحر في سفينة مثقوبة من الحبر الجّاف. ليس هذا التوصيف انقلاباً على منجز هذا الشاعر العظيم، بقدر ما هو محاولة لقراءة التأثيرات الجانبية لقدرة الشعر على إحداث البراكين، سواء في حياة أو غياب صاحبه، إذ لطالما سعى صاحب «سأخون وطني» خلال حياته إلى ضخ نصوصه بجرعات عالية من الرفض وكتابة الضّد، بقصد ترميم كسور وطنٍ جريح، وبشرٍ مخذولين، وعجلات تاريخ معطّل، لكن وطنه بقيّ وهميّاً، بلا تضاريس ملموسة، وهو ما أفسح المجال أمام نصوصه كي تعبر مخافر الحدود من دون رضوضٍ جانبية، مكتفياً بصناعة المفارقة المبتكرة التي لا تؤرّق رقيباً بعينه، وفي الوقت نفسه لا تتخلى عن إحداث الدهشة، أو الصدمة اللغوية، كما في الحكاية المشهورة التي رواها مراراً عن «صوبيا» الحزب القومي، فهي تقع في باب الكوميديا السوداء أكثر منها تراجيديا معاشة فعلاً، وحين خفتَ تأثيرها، أضاف إليها اعترافاً آخر، وهو أنه كُلف بجمع اشتراكات للحزب ثم صرف ما جمعه من الرفاق في شراء بنطلون، ولم يطرق باب مقرّ الحزب ثانيةً. براعة الماغوط إذاً، تتجسد في إنشاء مدوّنة ضخمة من المانشيتات المثيرة التي قد لا يعنيها تماماً، أو لا تتطابق مع رأيه الجدّي حيالها، كأن يقول: «لدي أغنية «كيفك أنت» لفيروز أهم من شعر البحتري»، أو «أكره الضجر والشيوعيين»، كما أنه سيسخر من أعضاء جماعة «مجلة شعر» بعد مغادرته الخيمة التي رفع أعمدتها يوسف الخال في العراء، بقوله: «قل لأحدهم ثلاث مرات «المتنبي» يسقط مغمى عليه، بينما قل له «جاك بريفير» فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض». هذه المواقف سيناقضها في أماكن وأزمنة أخرى بسرديات مضادة، فالمهم أنها أدت مقاصدها في حينها. أدرك صاحب «سيّاف الزهور» نفاد ذخيرته الشعرية باكراً، فهو أنجز ثلاث مجموعات شعرية، خلال فترة قصيرة نسبيّاً (1959- 1970) مشحونة بأقصى طاقة اللغة على ابتكار الصورة الشعرية المغايرة، ولكن من دون نتوءات بين تجربةٍ وأخرى، فنحن لن نجد فرقاً واضحاً بين قصائده الأولى وقصائده الأخيرة، لجهة قوة السبك، وكثافة المعنى، وعمق الصرخة. وسوف يعوّض خسائره في الشعر بهجنة نصيّة هي مزيج من الخلائط الشعرية والبلاغية من جهة، ومفردات السخط، ومظالم الكائن البشري المسحوق في عيشه وتطلعاته وصبواته، من دون أن يبيعه الأمل يوماً، من جهةٍ ثانية. كان رصيده الشعري النفيس إذاً، رافعة ثقيلة لكل ما كتبه لاحقاً في حقولٍ إبداعية أخرى. هكذا اقتحم المشهد مثل حصان طروادة شعرياً، ليزعزع طمأنينة الأصدقاء قبل الخصوم، بقصيدة غارقة في وحل الشوارع، وأمراض الوحشة، والتسكّع، والذعر. قصيدة دنيويّة لم تخرج من مختبر سوزان برنار، أو عزرا باوند، أو إليوت، وفقاً لتطلعات أباطرة الحداثة، فهذا «رامبو» قروي، تشقّقت قدماه من التشرّد والجوع والرعب، اختزل المسافات بقفزةٍ واحدة، من «السلميّة» مسقط رأسه، إلى «سجن المزّة» الذي شهد كتابة أولى قصائده على ورق السجائر، إلى بيروت الستينيات.

في هذه المدينة الصاخبة، سيكتشف معنى الحرية، اختصاصه الوحيد، كما يقول، وسيأخذ التسكّع مسلكاً آخر، يغذّي مغامرته الشعرية من الداخل بكيمياء بلاغية مدهشة، من دون أن يلتفت جديّاً إلى هوية قصيدته، ولمن تنتمي، فقد كانت الغريزة والعاطفة لا العقل، هما من يتحكّم بمجراها الأصلي. وسوف يجد في حطام بشري آخر هو بدر شاكر السيّاب الذي التقاه بالمصادفة، صديقاً حميماً دون سواه، يذكّره بجانبٍ من سيرته في البؤس، وسيرثيه لاحقاً بواحدة من أجمل قصائده، كما لو كان يرثي نفسه «أيها التعس في حياته وموته/ قبرك البطيء كالسلحفاة/ لن يبلغ الجّنة أبداً/ الجّنة للعدائين وراكبي الدراجات». بمغادرته بيروت أواخر ستينيات القرن المنصرم عائداً إلى دمشق، انطفأ الماغوط شعرياً. كأنه فقد الشريان الحيوي لقصيدته المضادة، فبعد «الفرح ليس مهنتي» (1970) طوى دفاتره الشعرية، واتجه إلى كتابة المقال الصحافي، من دون أن يتخلّى عن نبرته الشعرية الخشنة والغاضبة. ازدادت جرعة السخرية مستلهماً أفكاره من وقائع محنٍ عربية متوالدة على الدوام، ومن أوطانٍ محتضرة، وعولمة متوحّشة، من دون أن «يتورّط» في فحص التضاريس المحليّة لبلاده عن كثب. نصوص غائمة تتهم الجميع، بلا تسميات دامغة، محمولة على بسالة لفظيّة في المقام الأول. كما سينخرط في أعمالٍ مسرحية «شعبيّة» تفترق جذريّاً عن مناخاته في»العصفور الأحدب» و»المهرّج»، فأحسّ لأول مرّة في حياته بطمأنينة العيش والاستقرار والشهرة، بعد طول تشرّد، ولم يعد معقولاً أن يستعيد صورة متسكّع الأرصفة الأبدي التي بنى عليها عمارته الشعرية الشاهقة، مستبدلاً ذلك بسخريات مرّة من «شعراء الهبوط والإقلاع وقاعات الترانزيت». هكذا وجد في مراودة اليومي بأطيافه المتعدّدة «المادة الخام» لتطريز نصوصه بمفارقات لا تنتهي، ومشاكسات مرحة. لكن جرأته في الاشتباك مع القضايا الكونيّة الساخنة والمرعبة والمستبدة، كانت تثير الرضا أكثر مما تثير الغضب الرسمي. وفي المقابل لم يرفض الأوسمة والنياشين والجوائز، في أواخر حياته، معتبراً إياها مكافأة نهاية الخدمة وحسب. لكنه سيبقى «شعرياً» حطّاب الأشجار العالية بفأسه الحادة وصراخه البرّي، وحرمانه الطويل، فهذا الحطّاب اللغوي لم يكتفِ ببضعة أغصانٍ يابسة لإشعال موقده، بل أراد إحراق الغابة كلها، وإذا به يؤسطر صبوات الفرد المهزوم والأعزل والمهمّش، من دون أقنعة، أو محسنات بديعية، أو مساومة. شاعر حطّم أصابع البيانو واستبدلها بعويل القصب. هذه الفرادة المدهشة في اصطياد العادي ومنحه بريقاً خاصاً، أوقع شعراء الأجيال اللاحقة في فخاخه من دون أن يتجاوزوا معجمه النفيس، أو اكتشاف سرّ عناصر خلطته الشعرية، ونكهة مفرداته، فطوبوه بالإجماع أباً شعرياً لقصيدة النثر بامتياز، تلك التي تُلمس باليد مثل ثمرةٍ ناضجة، فهو لم يكن يوماً، أسير نظرية شعرية، أو حبيس أسطورة، أو ميتافيزيقياً، وحتى حين كتب نصوصاً طليقة ظلّت عصيةً على التجنيس، من دون أن يتخلّى عن عكازيه الشعريين «واو العطف»، و»كاف التشبيه» كقوله: «أخذوا سيفي كمحارب/ وقلمي كشاعر/ وريشتي كرسّام/ وقيثارتي كغجري/ وأعادوا لي كل شيء وأنا في الطريق إلى المقبرة/ ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة».

في أيامه الأخيرة، واجه «البدوي الأحمر» خيانات الجسد، وحيداً، وزاهداً، وضجراً. لا يغادر أريكته الزرقاء إلا على كرسيٍ متحرّك، يتأمل صوره المرسومة على الجدار المقابل، وأغلفة مجلة «الكواكب» القديمة التي أمر بتعليقها على حائطٍ آخر، مستعيداً زمن فاتن حمامة، وسعاد حسني، وأخريات. ينصت إلى العتابا بحناجر مغنيي البادية برفقة الربابة وحدها، كأنه يطلب الغفران من الأرض التي غادرها باكراً، وها هو يستعد للعودة الأبدية إليها، بما يشبه بروفة أوليّة للموت. الموت الذي سيخطفه مطلع الربيع (3 نيسان/ إبريل)، ليشيّع في جنازة حاشدة.

مرجعية الشعر اليومي

لا يوجد شاعر سوري ممن اتجه إلى قصيدة النثر، في سبعينيات القرن المنصرم وما تلاها، لم تصبه لعنة محمد الماغوط بجرحٍ بليغ في الركبة، أو ندبة في الجبين، أو بلطخة حبر في الأصابع.

بثلاث مجموعات شعرية استولى على أرض شاسعة وأحاطها بمفردات مدهشة رغم بساطتها الخادعة. وكان على شعراء جيل السبعينيات على نحوٍ خاص تمهيد الأرض وحراثة التضاريس لإقامة مشتل آخر من بذار هذا الشاعر بعد تهجينها وإعادة تقليب التربة بما يتواءم مع هواء قصيدة طليعية تحتفي باليومي و العادي والمهمل. هكذا أداروا أكتافهم لنزار قباني وأدونيس كمرجعيتين شعريتين، من دون آلام تُذكر، ليعتنوا بحقل الماغوط وحده، ويزرعوا بحذر أعشاباً طرية في شقوق صخوره، وفي ظلال شوكياته بطعمها المرّ، لذلك بدت تجارب شعراء مثل بندر عبد الحميد» احتفالات»، ونزيه أبوعفش» أيها الزمان الضيق، أيتها الأرض الواسعة» ، ومنذر مصري «بشر وتواريخ وأمكنة» كأنها حصيلة للعمل الشاق الذي أنجزه الماغوط، وإن اختلفت النبرة لجهة الإيقاع الخافت، والاعتناء بتفاصيل محسوسة أكثر، والذهاب أبعد في مراودة الشفوي، أو ما يبدو للوهلة الأولى «ما ليس شعراً»، على أن من أعاد صلة النسب إلى الماغوط بوضوح أكبر، هو الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين في «خراب الدورة الدموية» بالإضافة إلى مجموعاته اللاحقة، عبر هتاف فردي جامح ينهض على تكنيك «الأب المؤسس» نابشاً بمهارة محتويات الصندوق الأسود للماغوط، خصوصاً ما يتعلّق بـ «كاف التشبيه» ليغلق القوس على معجم الغضب.

ستبقى ظلال الماغوط حاضرة في ديوان الشعر السوري بدرجات متفاوتة بالنسبة لجيل الثمانينيات والتسعينيات الذي وجد نفسه أمام فخاخٍ كثيرة، فلم يعد هذا الشاعر وحده مرجعيته المركزية، إذ لفحت تجارب جيل السبعينيات المغامرة الحائرة لهؤلاء بوجود آباء كثيرين من قارات مختلفة، مثل سليم بركات، وسعدي يوسف، وبسّام حجّار، ولاحقاً سركون بولص، ووديع سعادة، كما سيقع على كنوز الشعر المترجم التي ستهزّ أركان النص بنبرة هجينة، وبات شعراء مثل جاك بريفير، وريتسوس، وولت ويتمان، ولوركا، ونيرودا، حديقة خلفيّة لنصوص هؤلاء. وسوف يعاد اكتشاف الماغوط اليوم بشذرات متناثرة يلتقطها قرّاء مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها ثماراً محرّمة بطعم السفرجل.

كلمات

العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

(ملحق كلمات) العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

 

 

 

عشر سنوات عشناها بلا محمد الماغوط/ مازن أكثم سليمان

تمرُّ في هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل المبدع السوري الكبير محمّد الماغوط (1934 – 2006)، الذي وصَفَ يوسف الخال ظهوره في الحياة الثقافية العربية بوجهٍ عام، وفي أجواء مجلة شعر بوجهٍ خاص بقوله: “هبط علينا محمّد الماغوط كآلهة اليونان”، وهو الذي رفض أن يُلقَّب برامبو العرب أو برنارد شو العرب، وقال في مقابلته الشهيرة في مجلة الناقد عام 1991 (حاوره يوسف بزي ويحيى جابر): “أنا المنجل العربي”.

تعرفت لأول مرة على اسم الماغوط في طفولتي مثل معظم السوريين عبر مسرحياته السياسية الشهيرة مع دريد لحام، والتي كان يبثّها التلفزيون السوري في الأعياد على نحوٍ دائم، ولا مجال هنا للخوض في مسألة اتهام هذه التجربة بأنها ذات بعد تنفيسي، ولو أنَّ الماغوط نفسه كان يرد على هذه التهمة بالقول: “إنه مرَّرَ كلمته ورأيه، ولا صلة له بما أبعد من ذلك”!

غير أن معرفتي الحقيقية بالماغوط بوصفه مبدعاً استثنائياً لم تتحقق إلا عندما وقعتُ على أعماله الشعرية الكاملة (طبعة دار العودة) في عام 1990، وكان ذلكَ حدَثاً انقلابيّاً مُفاجِئاً ومُدهِشاً لمراهق في بداية تفتحه، إن على مستوى اطلاعه على شكل القصيدة النثرية، أو على مستوى جماليات النص، ومن حينها وقعتُ في شراك سحر الماغوط، أو لأقل في لعنته الجميلة الأخّاذة، التي تحوّلت رويداً رويداً مع تطور قراءاتي ومعارفي إلى وعي نقدي بالمكانة التي يحتلّها نص الماغوط في الشعرية العربية الحديثة، إذ ما زلت أردد حتى هذه اللحظة أنه لو توقّف عن الكتابة بعد دواوينه الثلاثة الأولى لما انتقصَ ذلكَ من قيمته الإبداعية أبداً، من دون إنكار خصوصيته التهكّمية الفريدة في كتابة المقالة السياسية، وهو الذي كان يُفنِّد سؤال التجنيس في كتاباته بالقول إنَّ الشعر موجود في كل ما يكتبه، لا بل حتى في أنفاسه وبصاقه على حد تعبيره!

عندما تعرَّضَ الماغوط لوعكة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى عام 1997، كتبت قصيدة أهديتها له بعنوان: (لا تستأذن)، وقرأتها له في منزله في حي المزرعة الدمشقي في أول زيارة لي إليه في مطلع شباط/فبراير 1998، ولأستمرَّ بعد ذلك في التواصُل معه هاتفياً من مكان إقامتي في اللاذقية، والأمر الطريف الذي أتذكَّرُه دائمأً هو احتراق الفيلم الذي احتوى على بعض الصور المُلتقطَة لي معه، لتبقى هذه الحسرة في داخلي عدة سنوات إلى أن تمكنت في إحدى زياراتي المتكررة له عام 2005 من التقاط صورة يتيمة إلى جانبه على أريكته الكحلية الشهيرة، والتي ظهر وهو يجلس عليها في أكثر من حوار تلفزيوني أجراه في سنواته الأخيرة، وهيَ الصورة التي سأظلّ أفتخر بها ما حييت.

ومن المُفيد أن أذكر في هذا السياق جانباً آخَر يتصل ربما بالسيرة الذاتية لي، ويُظهِر عُمق الحمّى الماغوطية التي اجتاحتني، حيث إنَّ منزل جدي لأمي ومنازل أخوالي وخالاتي موجودة في حارة الماغوط نفسها التي نشأ فيها في السلمية (الحارة الغربية – شارع حماه)، وهوَ كان مجايلاً لخالَيَّ الكبيرين وصديق طفولة لهما، وأنا رحتُ أؤسِّسُ أنايَ الشعري في تلك الحقبة على تقاطعات رمزية مُحاكية لتجربة الماغوط؛ سعيداً بأنني لطالما لعبتُ في طفولتي وتسكّعتُ في مراهقتي -عندما كنا نزور أقرباءنا في السلمية في الصيف والعطل والمناسبات- في الحارة الماغوطية نفسها، وفي الشوارع نفسها، وحتى في المقبرة نفسها التي كانت تُنصَبُ في محيطها الأراجيح في الأعياد فتختلط صورة الأطفال وهم يلهون بصورة القبور، وقد ذكر الماغوط نفسه هذه المقبرة في كتابه (شرق عدن غرب الله)، مع العلم أنها أزيلَتْ نهائياً، وتحولت إلى حديقة سُمِّيَتْ باسمه تكريماً له بعد وفاته.

لكنَّ علاقتي بالماغوط هي أكثر تعقيداً من هذا المُستوى بالتأكيد، إذ بدأتُ تدريجياً أنزاح عن حالة التماهي به والدهشة بحضوره وشعره، لأمُرَّ بمرحلة المُقارَنة والحسَد البنّاء لما أنجزه شعرياً، ويبدو أن وقوعي تحت سطوته الفنّية، وفي هوى أبوته الشعرية، لم يمنعني -من حسن حظّي- من الوعي في وقت مبكِّر بضرورة تجنّب السقوط في فخاخ لعنته الشعرية على الأقلّ، مع الحفاظ على موقعه عندي وجدانياً.

لهذا بدأتُ أعملُ على تأسيس مشروعي الشعري المُنفرد والنابع من تجربتي النظرية والنصية الخاصة، وكانت هذه الرغبة الأصيلة في الاستقلال والاختلاف وقتل الآباء سبباً في استبعاد قصيدة (لا تستأذن) من النشر في ديواني الشعري الأول، فعلى الرغم من احتفاء الشاعر نزيه أبو عفش بمخطوط هذا الديوان عام 2001، ونشر قصائد طويلة منه في مجلّة المدى الدمشقية، ومشاركة إحدى قصائدي برسومات له، وعلى الرغم من تقديم أدونيس شخصياً لي في مهرجان جبلة الثقافي الثاني عام 2005، ظلَّ الهاجس الأعمق لديَّ يكمُنُ في طرد أي شُبهة ماغوطية تحديداً، ولا سيما في ظل شيوع مصطلح (السلالات الماغوطية) في وصف الشعراء الشباب في سورية، على أهمية تأثير الآباء الشعريين الآخرين من دون شك، ليصدُرَ ديواني الأول (قبلَ غزالة النّوم) في (29 مارس/ آذار 2006)، وأشعر نتيجة تلقيه المُشجِّع في المساحة الثقافية السورية أنني قد تمكّنتُ من تقديم حساسية شعرية ذات خُصوصية مُرْضِية إلى حدٍّ كبير كما أزعُم.

وبما أن قتل الآباء هو خيانة في مكان، وهو ندم ومحبة في مكان آخَر، لذلكَ كان أول إهداء كتبتهُ على نسخة من ديواني مُوجَّهاً إلى محمّد الماغوط، وبينما كنتُ أستعدُّ لمُهاتفته وزيارته، شاء القدر ألا يُمهِلَني وألا يُمهِلَهُ، فكان رحيله بعد خمسة أيام تماماً من تاريخ صدور ديواني (توفي في 3 أبريل/ نيسان 2006)، لأزور المقبرة التي دُفِنَ فيها بعد فترة قصيرة برفقة الصديق الشاعر والكاتب عبد الله ونوس، وأقرأ على قبره قصيدتي المُستبعَدة من ديواني (لا تستأذن)!

من كلامه الراسخ في نفسي، والذي أستعيده دائماً في جلساتي على سبيل الامتنان والوفاء وربّما الحنين أيضاً، نصيحته المُكرَّرة لي بمتابعة تحصيلي العلمي إلى أعلى الدرجات. وقوله دائماً لي: “لا تذهب أنتَ إلى القصيدة، اتركها هي وحدَها كي تأتي إليك”.

وقوله كذلك: “الموهوب يصل إلى الآخرين مهما كانت المصاعب، فالمطرب السيئ ينفضّ من حوله الناس مهما أحاطوه بالتقنيات والأضواء، والمطرب الموهوب يجتمع حوله الناس ولو كان يغني وهو يركب على حمار”!

ومن انطباعاتي الأخيرة عنه ارتفاع منسوب نرجسيته إلى حد كبير، حيث أذكر تكراره أكثر من مرة أمامي أنَّ أكاديمياً ومستشرقاً أسترالياً قال له: “لو لم تكتب غير عبارة: (سئمتكَ أيُّها الشعر، أيُّها الجيفة الخالدة) لكُنتَ أعظم شاعر في هذا العصر”.

الآن، وبعد مرور عشر سنوات على رحيل الماغوط، مرّت سورية والمنطقة والعالم بأحداث جسيمة فرضَتْ على شخص مثلي أن يُعيد تصفية حساباته مع وعيه الوجودي والثقافي من نواحٍ مختلفة، ولا سيما بعد انبثاق الربيع العربي وثورته السورية بتداعياتها الأقسى، إذ لا أخفي خيبتي البالغة من مواقف عدد من الشعراء والمثقفين الذين كنا نعدُّهم أنا وأبناء جيلي رموزاً وطنية بمعنىً من المعاني، فإذا كانت الفرضيّة في هذا المنحى تقول إنَّ سورية استطاعتْ أن تُمضي عشر سنوات من دون وجود الماغوط، وهو أمر لا شكّ أنه مُحزِن بغضّ النظر عن تسليمنا بطبيعة الحياة، فإنَّ حضورَهُ الطاغي بأقواله وأشعاره في الوجدان الجمعي السوري -شعبياً ونخبوياً- والذي يُمكن تلمُّسَهُ بعمق على صفحات التواصل الاجتماعي، وبوجهٍ خاص في الوسط الثوري، ينفي مسألة غيابه جذرياً، وهو القائل: “أنا راحلٌ، وقلبي راجعٌ مع دُخان القطار”!

لكنَّ ذلكَ لا يمنعُني أوّلاً من تحميله جزءاً كبيراً من مسؤوليةٍ غير مقصودة أو مُباشَرة بتحوُّل تقاليده في نقد الواقع العربي الآسِن إلى نوع من جَلد الذات المنطوي على شفوية غوغائية ودونية مرفوضة عند شارع واسع من العرب، وهي المسألة التي تقودُني ثانياً إلى التساؤل عن ماهية موقفه السياسي فيما لو كانت قد كُتِبَتْ له الحياة حتى هذه اللحظة، وهو الذي قال بجُرأة مُعلِّقاً على احتلال أميركا للعراق: “الحركة أفضل من السكون”، في إشارة لافتة منه إلى الاستعصاء التاريخي العربي الذي سبَّبه الاستبداد.

لا أدري إن كان من حقّي أن أخمِّن، أو كان من المُفيد ذلكَ؟!! لكنَّني على الأقلّ سأعود إلى النَّصّ الماغوطي نفسه الذي لطالما كان بوصلتنا نحوَ الحُرِّية والتمرُّد والثّورة. قال الماغوط في مطلع قصيدته: (كُلُّ العيون نحوَ الأفُق): “مُذ كانتْ رائحةُ الخبز/ شهيّةً كالورد/ كرائحة الأوطان على ثياب المُسافرين/ وأنا أُسَرِّحُ شَعري كُلّ صباح/ وأرتدي أجملَ ثيابي/ وأهرَعُ كالعاشق في موعده الأوّل/ لانتظارها/ل انتظار الثورة التي يبِسَتْ/ قدمايَ بانتظارِها”.

(سورية)

العربي الجديد

 

 

 

 

فتوحات الصدفة لـ«قصيدة النثر» العربية!/ محمد مظلوم

لم يجرِ النظر إلى تجربة محمد الماغوط في قصيدة النثر العربية بجدية كافية من قبل «جيل الرواد» في الشعر العراقي، فنازك الملائكة لم ترَ فيه سوى «أديب لبناني!! ناشئ يكتب خواطر، ونثراً اعتيادياً» حتى أنها أعادت ترتيب سطور قصيدته على وفق النثر العادي، وليس لتقطيع قصيدة الشعر الحر، في إشارة مبكرة وربما غير مقصودة للشكل الكتلوي لقصيدة النثر، مع أنها أولَتْ عناية نقدية ما لتجربة توفيق صايغ، وامتدَّت هذه النظرة «الريادية» لشعر الماغوط حتى التسعينيات مع نوادر البياتي المعهودة وهو يصفه بـ «هذا الذي يجلس في مقهى الشام ويكتب قصيدة النثر!» رغم أنه كان يفضِّل شِعرَهُ على شِعْر أنسي الحاج!

إلا أن هذا التهوين الذي يقارب الاستهانة بتجربة الماغوط من قبل «جيل الرواد» في الشعر العراقي، سيغدو نوعاً من الشعور المتبادل، إذ لم يأبه الماغوط كثيراً بالمقابل لشعر الرواد، واكتفى باحتفاء من نوع خاص بالسياب بوصفه أيقونة الشهيد الشعري وتعويذة الميت في وجه شرور الأحياء! فكتب عنه قصيدة شعرية وشهادة نثرية تنوسان بين الإشادة والسخرية، فهو ذلك الذي «دخل الحزب الشيوعي كما ركب الحافلة الخطأ» وهو «التعس في حياته وموته».

 

واللافت هنا أنه حتى وهو يرثيه، فإنه ينعته بصفاتٍ ليست معتادة في شعر الرثاء العربي، فشعر الرثاء في جوهره نوع من المديح واستحضار مناقب الغائب. إلا أن الماغوط ينادي ممدوحه الغائب: «أيها المغفَّل» في انحراف لافت للرثاء من التأبين إلى التأنيب، لينهي تلك المرثية لا بدمعة وإنما بقهقهة وسخرية كبرى من سعي الشاعر الكسيح نحو الجنَّة: «لن تبلغَ الجنَّةَ أبداً، الجنَّةُ للعدَّائين وراكبي الدراجات».

الصراع السياسي بين جناحي البعث في العراق وسوريا، والموقف القومي المتصلب لدى طائفة من شعراء الستينيات البعثيين في العراق إزاء مجلة «شعر» التي تبنَّت ظهور تجربة «حزن في ضوء القمر» أسهم كذلك في خلق جوٍّ مضاد لهذه التجربة، رغم أن عدداً منهم انحاز إلى كتابة القصيدة اليومية، لكنَّهم كتبوها بصيغتها الموروثة عن البياتي وسعدي، مع الاحتفاظ بإيقاع الرواد، فالقصيدة اليومية وشعر التفاصيل، لدى حسب الشيخ جعفر وسامي مهدي وحميد سعيد ذات تراث وأداء مختلفين، فهي متجهِّمة وأقل مرحاً! في خليط شعاريٍّ وليس شعرياً من «الواقعية الاشتراكية» و«الفرح الثوري» حيث يوميات العامل والمناضل محلّ إشادة وتبجيل، وليس إدانة وتنكيل مقذعين كما لدى الماغوط.

ولهذا لم تكن تجربة «حفيد القرامطة» مرئية بشكل واضح في المشهد العراقي إلا في وقت متأخر نسبياً، وبشكل أكثر صراحة وتكثيفاً لدى شعراء الثمانينيات، مع تداول أعماله الشعرية في بغداد بطبعتها الأولى الصادرة عن دار العودة عام 1981.

لعلَّ هذه التفاعلات المتعدِّدة جعلت من شعر الماغوط «نخبوياً» داخل الذائقة الشعرية العراقية نفسها، وليس شعبوياً ومتاحاً للجميع كما هو حاله الطبيعي في بلاد الشام، ومنعته من أن يكون مؤثراً تأثيراً حاسماً في قصيدة النثر العراقية، بمعنى أنك لا تستطيع إحالة تجربة واضحة لشاعر عراقي أو أكثر، إلى أرومة ماغوطية بحتة كما قد يحدث بيسرٍ مع تجارب سورية وشامية عموماً. لكن، بلا شك، كان لصاحب «العصفور الأحدب» حضور ما، حضور كتلك العروق الصعبة داخل فسيفساء القصيدة التي تتشعَّب في مرجعياتها وتأثراتها، خاصة لدى تجارب جيلنا التي دأبت على شغفٍ بالتنوع وعلى قلق البحث والانفتاح غير المحدود على التجارب المتمرّدة، إذ ستجد تلك الآيرونيثيا المتهكمة، والنكتة، والمفارقة، بقدر أو بآخر لدى شعراء بارزين في جيلنا يتمتعون في نفوسهم بقدرة أساسية على الضحك الأسود: نصيف الناصري أو ناصر مؤنس أو الراحل رياض إبراهيم أو لدى شعراء لاحقين كحسين علي يونس وعلي حبش وسواهما:

«لبنان يحترق/ /يثبُ كفرس جريحة عند مدخل الصحراء/وأنا أبحث عن فتاةٍ سمينةٍ/ أحتكّ بها في الحافلة!»

على صعيد تجربتي الشخصية، يمكنني القول بأنني استفدت من تلك «البساطة الصعبة» في إغناء القصيدة المركبة لديَّ، فنزعة البناء الملحمي التي تستهويني عادة، لم تمتنع عن الاستجابة للأشياء العابرة في هذا العالم الصغير المأهول بالانكسار، والرغبة في أن يكون الاحتجاج والجوّ الإنشادي متمتعاً بظرافة ما، وخلق آيرونيثيا إغريقية داخل المفارقة البلاغية عندما يستلزم حضورها لإدامة الدهشة.

في كتابي عن جيل الثمانينيات العراقي، وصفت الأصوات المغايرة لدى ذلك الجيل بـ «الجيل البدوي» وكنت أعني إشكالية علاقته بالمؤسسات، والدولة، والوطن، والدين، ومجمل المفاهيم والقيم المرتبطة بها، وتمجيده للفوضى والاحتجاج النهليستي كشكل من أشكال الحرية، بهذا المعنى سيبدو نموذج صاحب «الفرح ليس مهنتي» و«البدوي الأحمر» مرجعاً واضحاً ونسقاً طبيعياً في متون ذلك الجيل، فمعه نصطدم بالقصيدة الأشدّ رفضاً وظرفاً، والأكثر براءة، ربما إلى حد السذاجة، ونرى كيف تكون الموهبة العزلاء والعارية كافية وحدها للفت الانتباه، ونلمس تلك النزعة البلاغية الساخرة من الأب والعائلة والمحيط الاجتماعي بل ومن الوطن برمته.

عادة ما توصف تجربة الماغوط في «قصيدة النثر العربية» بذلك الوصف الذي اعتاد النقد العربي القديم إطلاقه على الشاعر المفلق بأنه «نسيج وحده»، وهو ما دأب الماغوط على ترسيخه بنفسه في حياته وشعره بالإصرار على أولية الفطرة وأصالة الموهبة البحتة، مع إشارات عابرة ربما إلى تأثيرات ما لتجربة ابن مسقط رأسه «سليمان عواد» ليس في التخلي عن الوزن في القصيدة فحسب، بل في خطاب التشرد والرفض وشفافية الحزن الداخلي كذلك، ومع بهذا بقيت صورة الشاعر المتفرد و«نسيج وحده» نعتاً ملازماً ومريحاً للماغوط.

في إحدى زياراتي له في شقته بمنطقة المزرعة وسط دمشق، سألته هل كان يصل «السلمية» شيء من الشعر العراقي في الخمسينيات، وما إذا اطلع على تجربة حسين مردان! فضحك وقال لي: أنا كنت مزارعاً، وصدِّقني لم أقرأ حتى ذلك الوقت من الكتب إلا كتاب الله: القرآن! ومع هذه العفوية المريحة والمريبة في آن واحد، هل ينبغي لنا أن نتقبَّل فتوحات الصدفة في الشكل الشعري لدى الماغوط؟ وهل بمقدور هذا الادعاء وحده أن يجعلنا نصدق أن قصيدة النثر لديه ما هي إلا وحي يُوحى من ذلك الكتاب!

* شاعر وكاتب عراقي

كلمات

العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

(ملحق كلمات) العدد ٢٨٥٣ السبت ٢ نيسان ٢٠١٦

 

 

 

“حذاء” محمد الماغوط/ عبده وازن

كان محمد الماغوط أقلّ شعراء مجلة «شعر» ثقافة. وفي معركتها الحداثية التي خاضتها، ظلّ دوماً في موقع الشاهد، ليس في متناوله سوى قصائده وحدها. لم يشارك في «التنظير» ولا في النقاش النقدي ولا في الدفاع حتى عن قصيدته النثرية التي تفرد بها. بل هو لم يتكبّد مشقّة الرد على الشعراء التفعيليين الرواد الذين استهجنوا شعره فهاجموه، وفي طليعتهم نازك الملائكة. وهو أصلاً لم يألف منهم سوى بدر شاكر السياب، شبيهه في البؤس، وقد رثاه في قصيدة هي أطرف ما يمكن أن يُكتب في الرثاء، وختمها قائلاً بسخرية مرة: «لن تبلغ الجنة أبداً/ الجنة للعدائين وراكبي الدراجات».

ارتأى شاعر الحياة المهمشة أن يكتب بحرية تامة خارج النظريات والبيانات الشعرية. فهو الآتي من أطراف البادية السورية، آثر أن يظل بدوياً ولكن «أحمر». حافظ على سليقته الصافية وعلى غريزته الشرسة التي جعلته يقتحم غابة الشعر بجرأة وعفوية. لم يلجأ الماغوط الى الثقافة ليجعل منها خلفية لصنيعه الإبداعي، لم يفتش في كتب الأساطير عن رموز وأبطال كما فعل الشعراء «التموزيون»، ولم يتكئ على الترجمات الشعرية، هو الذي لم يكن يجيد سوى العربية، ليوسّع آفاقه ومصادره. كان شاعراً حديثاً كل الحداثة ولكن على هامش الثورات الشعرية العالمية. كان في قلب العصر وخارجه، بدوياً يدخن ويشرب ويدمن الجلوس في المقاهي، مراقباً العالم من حوله. ولما كانت تضيق الحياة في عينيه وتتسع دائرة وحشته، كان يمارس فعل الصعلكة داخل القصيدة أو على الأرصفة، متشرداً ومتسكعاً مثل شخص أعزل طرده العالم وتخلت عنه الجماعة والقبيلة والطائفة… وبلغت به الجرأة في ذم شخصه حتى ليقول في إحدى قصائده: «أنا حذاء، أين طريقي؟»

لم يكن يضير محمد الماغوط أن يكون شاعراً على حدة. بل لعله كان يرحب بهذه «الحدة». انتمى الى حركة مجلة «شعر» ونشر فيها أجمل قصائده، ثم لم يلبث أن سخر من حداثتها. التحق بصفوف الحزب القومي السوري ثم انسحب منه وسخر أيضاً من فكرة انتمائه إليه. كان الماغوط يدرك أن الجيل اللاحق الذي تأثر به وخرج من «غرفته» التي «بملايين الجدران» حمل قضيته ورفع لواء شعره وانتقم له من المنظرين ونظرياتهم. لكنه لم ينتبه الى أن مريديه لم يقفوا على بابه طويلاً، فهم سرعان ما انطلقوا الى حقولهم وملاعبهم، وباتوا إذا شاؤوا أن يسترجعوه، ينظرون إليه كما لو أنه وراءهم. لكنّ ابتعادهم عنه لم يعن أنهم أصبحوا أهمّ منه أو أشعر. إنهم الأبناء مهما خانوا اباهم. فتح أمامهم الطريق ليواصلوا مسارهم كل في جهته. ظل الماغوط هو الماغوط، أما الماغوطيون فما لبثوا أن تخلوا عن الأثر الذي وسمهم به في بداياتهم. ولا أعتقد أن شاعراً جديداً أو شاباً كتب من دون أن يعبر غابة الماغوط. كل شعراء الأجيال اللاحقة تعمدوا في جرن مائه. وأصلاً لا تكتمل البدايات، إذا لم تنهل من معين صاحب «حزن في ضوء القمر».

في الذكرى العاشرة لرحيله، يحضر الماغوط وكأنه لم يرحل. الشعراء المتعاقبون يطرقون بابه ويوقظونه من نومه، وهو لا يتبرم بهم بتاتاً. كان أليف الشعراء الشباب وما برح أليفهم في غيابه. هذا قدر الماغوط: أن يظل شاعر الشعلة الأولى التي توقد نار المستقبل. والعودة إليه تظل حاجة لدى الجميع، «القدامى» والمخضرمين والجدد. العودة إليه ضرورة ولو أضحت فعل استذكار وتذكر. تشعر أنك، بصفتك قارئاً، استنفدت قصائد الماغوط، أنك اكتشفتها كلها وعرّيتها، وأن ما من زاوية في عالمه لم تلق عليها ضوءاً. أنت لا تعاود قراءته لتكتشفه مرة أخرى، بل لتستعيد رعشة القراءة الأولى واللذة التي أحدثتها قصائده، في ذائقتك ووجدانك. شعر الماغوط لا يُخفي مقدار ما يفصح. شعره لا يُضمر كثيراً ولا يستبطن ولا يدعو قارئه الى المزيد من التأمل والتأويل. وهنا سر فرادته. قصيدته قصيدة الدفعة الواحدة. تُسكرك للفور وتمنحك أسرارها وتسلمك مفاتيحها. قصيدة تلقائية، عفوية، جارحة، مؤثرة، لا تتقنّع ولا تتجمّل ولا تصطنع… قصيدة لا تتوسل البلاغة المفتعلة ولا الفصاحة المتكلفة. قصيدة لا تخشى العامي واليومي والهامشي والنافل ولا تهاب الركاكة والفجاجة والإطناب في أحيان، ولعلها تتقصدها كلها لتتفرد وتنفرد بنفسها.

عشرة أعوام على غياب محمد الماغوط. عشرة أعوام على حضوره الذي يزداد توهجاً.

الحياة

 

عشر سنين وأنا أبحث عنكَ أيّها الماغوط/ عقل العويط
عشر سنين وأنا أبحث عنكَ، أيّها الماغوط، في كلّ مكانٍ تقريباً: في نعاس الأجنّة، وفي انتباه الأمهات. في ليل الحمراء ببيروت، وفي لعنات الخيال. في أوجاع بلاد الشام. وفي جحيم بلاد الرافدين. ذهبتُ إلى أرضكَ الأولى في سلمية، وسألتُ الرعاة والوعر وأفكار النجوم، وسألتُ نوافذ البيوت وتراب الأزقّة، وكنتُ أسترشد بالهواء الطلق لعلّني أرى لكَ ظلاً يتيه هنا أو هناك. فلم أعثر على أحد. ولم أعثر على شيء.
خلال هذه العشر السنين الأخيرة، أُغلِقت أحلامٌ ومقاهٍ كثيرة، وتهدّمت ينابيعُ وبيوتٌ كثيرة. لم تتبقَّ لنا موهبة السماء الزرقاء، يا محمّد، من أجل أن تصير دموعنا في أحد الأيام زرقاء. لم يتبقَّ عندنا رصيفٌ يتيمٌ، ولا قنديلٌ يتيمٌ، يرشدان الخطوات المتعثرة إلى فراشها الأخير. صرنا لا شيء. لا أحد. الرفاق الذين أخذوا عنكَ فنون التيه، تفرّقت قصائدهم وأشلاؤهم في القبور والأمكنة الغاشمة.
أنتَ، أين أنتَ الآن، أيّها الماغوط؟! ترى، ألا تستحقّ بيروت، ودمشق، وبغداد تلك التي على مقربة، ألا تستحقّ منكَ قصيدة رثاء أو قصيدة هجاء، أو… تستحقّ الإثنتين معاً؟!
لا أحد مثلكَ يعرف أن يرثي، يا محمد. لا أحد مثلكَ يعرف أن يهجو.
كنتُ أريد أن أصطنع لكَ مقهىً افتراضياً على ضفّة بردى، في دمشق، في حمص، في حلب، في الرقّة، في تدمر، في اللاذقية، وفي السلمية بالطبع. من أجل أن ترى إلى الحياة وهي تعبر قتيلةً من هناك. كنتُ أريد أن أستجمع لكَ الأحلام المضرّجة، آهات الأنبياء والقتلى، نظرات الأمهات وبطونهنّ المبقورة، وأشلاء الأطفال البكماء. من أجل أن تتأكد من أن النظام الأسدي، ومراياه “الداعشية”، بألف خير، ومن أن كل شيء لا يزال على ما يرام.
كنتُ أريد لكَ أن تعرّج على بيروت. لكن، هيهات. بيروتكَ تلك قد غادرتْ إلى غير رجوع. ألم تعلم أن أوباش الدهر، صاروا هم أوباش بيروت، وصاروا هم الدهر في بيروت؟!
عشر سنين من النثر الدموي الفظّ، أيّها الماغوط. كم يصعب أن تحظى الحياة بشاعرٍ مثلكَ، يصنع من نثر الكلمات شعراً يفجّم الروح، ومن الحزن ضوءاً تستنير به عينا القمر الشرقي الأعمى!
أعرف، أيّها الماغوط، أنكَ عملتَ يوماً “ساعيَ بريد” (هل تتذكّر قصيدتكَ تلك؟!)، وأنكَ كنتَ تجمع ملايين الرسائل المكتوبة بنظرات القتلى وحبر الفقراء الموجوعين، لترسلها إلى الله. رجائي أن تنقل إليه، “رسالتي”… إليه!
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى