صفحات الثقافة

ذكرى عُمَرْ


عباس بيضون

كثيرون تمنوا لو أمهله العمر قليلاً ليصادف اللحظة التي انتظرها طوال حياته. ليرى سوريا ترفع رأسها من تحت الطوفان ومن تحت الجليد. الآن بعد عامين من الدم والجنون والوحشية الضارية لا أعرف إذا كان ما زالوا كثيرين. قد يكونون بينهم من يحسبون ان القدر جنبه أن يعيش هذه الفظاعات. أما أنا ففي اللحظات السوداء والزهرية، وامام هذا الروتين الدموي، وكلما اندقّ في أصداغنا هذا الوتد الملعون أتذكّر عمر اميرالاي. بسمته وسخريته وشيطنته اللطيفة، استعين بهذه الذكرى على احتمال الواقع وأنا، لأمر ما، بسبب لا اعرفه متأكد أن عمر كان اجتاز كل هذه المرحلة بالبسمة المطمئنة نفسها، وكان ظل بشجاعته التي تعمي خصومه وتشغلهم عنه. لكان ظل يعبر بين دمشق وبيروت بخفة عصفور، ولبقيت له سخريته وشيطنته او ما كان يدعوه هو خبثه، ولم يكن عمر خبيثاً ولو أحب أن يتكنى بذلك، كانت له شيطنة طفل وشقاوة طفل، كان يتملعن في أفلامه كما يفعل طفل يخفي اللعبة التي حطمها بالبراءة التي يحطّمها بها وبالبراءة التي يُخفي بها حطامها.

نعم البراءة التي كان يمر بها على حدود من المحتمل أن تغيبه، وكانت تخفيه في الغالب عن الأعين المتربّصة به. نعم كان عمر بالبراءة التي تميز جيلاً تراءى له انه أبصر قدره في يوم وكبر، وهو لا يصدق ماذا فعلوا به، لا يصدق انهم صنعوا هذا الجبل من النذالات، إنهم امتلكوا هذه القدرة على صنعها.

أفلامه كانت تقول ذلك. لم يكن يأتي فيها بشيء من عنده. كان يلصق فقط شظايا من الواقع. فظاعات تعوي بمفارقاتها وكذبها وإبليسيتها. كان يقول فقط دهشته وغرابتها. كان يحسن التقاطها ويتركها هي تتحدث عن نفسها. كان الطفل الذي فيه ما يزال قادراً على ان يندهش. بالبراءة التي فيه لم يندمج ولم يذُب ولم يتطابق مع الواقع. كان الواقع أسطورته وهو قادر على ان يلتقط السحر الأسود الذي فيها، الواقع دكان عجائب وتناقضات وهو جاهز ليراها ويسبرها. كان الواقع في أفلامه يضحك من نفسه. ما سمّاه خبثاً كان في الواقع تلك البراءة المجربة، تلك البراءة المجرِّبة، الحاذقة والتي تحنّكها وحذقها يجعلانها كثيفة وعميقة. لكن هذا هو فن البراءة المستبصرة. ذلك هو فن البراءة التي تصير فنّاً. لقد جعلوا العالم غريباً ووقحاً وسافلاً وأبله، هكذا كانت افلام عمر اميرالاي تقول. كان قادراً على ان ينتبه فوراً لذلك. هو الذي لم يندمج ولم يذُب ولم يعتد ولم يتكيّف. هو الذي كان العجب يأخذه كلما رأى وكلما انتبه.

عندما أخذوا عروة النيربية في ذلك المطار الذي أحالوه كهفاً ومغارة تذكرت عمر اميرالاي. كان مثله مثل عروة يفتن بذلك الشباب الذي يتدفق منه في ستينياته. الشباب الذي يتدفق من كل هؤلاء الذين بقوا يراعون الواقع من بعيد من دون ان يندمجوا او يتطابقوا او يتكيفوا. أي من دون أن يصيروا جزءاً من الآلة، جزءاً من الوحش، جزءاً من الواقع ومن الاستبداد نفسه.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى