صفحات الثقافةعماد الدين موسى

ذكريات أولى مع المكان الآخر..الوطن لا يتكرّر مرّتين/ عماد الدين موسى

 

 

أينما يذهبُ الكائن ثمّة ذكريات ترافق رحلته هذه، حميمةً كانتْ أم مؤلمة. رغم ذلك نبقى أسرى التجارب الحياتيّة الأولى، حيثُ المكان الأول مثله مثل الحبّ الأوّل، المكان ببهائه أو قبحه! تلك الذكريات التي تتعلّق بالأمكنة، ثمّة روائحُ للأمكنة نستطيع تمييزها حتى دون إبصار، والكثير من الشعراء والروائيين كتبوا عن المكان، المكان كأيقونةٍ كتابيَّة، تجعل من الكتابة مختلفة، ولكن ماذا عن المكان الآخر/ الجديد؟إن أسلمنا بــ(المكان القديم) كدالَّةً لغوية على الولادة الأولى أو ربمّا حجر الأساس الأوّل الذي يتطوّر فيما يأتي من الزمن، هل تتغيّر الكتابة؟ كيف للمكان الجديد أن يحلّ محلّ القديم؟ هل تتغيّر طريقة الكتابة وأسلوب التأمّل؟ ربما للمكان فلسفة خاصَّة تغدو واضحة آن قراءة ما كُتِب عن المكان وصلاته وتأثيراته في ما يدوَّن، أو حينما يجبر المكان أحد الشعراء أن يكتب على سجيّة المكان ذاته أو يساهم في التغيير، لا يمكن القبض على فكرة “المكان” سواءُ كتابيَّاً أو فعليَّاً، ما يعني أن المكان كفكرة يماثل الفلسفة كأسلوب حياة وتفكّر، التعقيد في القبض على فكرة المكان يجعل منه مادّة هلامية على الرغم من الوجود الواقعي الملموس له، الفكرة ليست ذهنية بحتة بقدر ما هي شيءٌ ما داخل العقل والروح.

المكان الآخر بما له وما عليه، محور تحقيقنا هذا؛ مجموعة من الكتاب والفنانين والشعراء يتحدثون عن ذكرياتهم الأولى مع (المكان الجديد) سواء داخل البلاد أم خارجها.. هل كانت هناك صدمة؟ ما الفارق بين المكان الأول والمكان الجديد؟ هل تظل المقارنة قائمة أم ينقطع “المهاجر” إلى الانخراط في مكانه الجديد كما هو عليه من دون أن يظل الماضي، أو المكان الأليف، يشده إليه؟

دنيا ميخائيل (العراق – أميركا): أورفيوس والنظر إلى الخلف

عندما وصلتُ إلى ديترويت (عام 1996) وجدتُ المدينة باردة جداً تغطيها الثلوج. وأنا، مثلما تعرف، جئتُ من مدينة حارة فما كنتُ في بغداد أحتاج إلى ارتداء معطف بهذا السُمك ولا قبعة من النوع الذي يغطي أذنيَّ وأنفي. بغداد مدينة ساخنة ليس بالمناخ فقط وإنما بالجدالات والحروب واستكانات الشاي.

كلمة “المكان” باللغة الإنكليزية لها معنيان: المكان بوجوده العام (space) والمكان بوجوده الخاص (place) وبالنسبة لي، لم يتحوّل المكان العام الجديد إلى مكان خاص لي إلا عندما عدتُ إلى الكتابة. الشِعر تحديداً هو الشيء الوحيد الذي يمكّنني من أن أكون في مكانين في الوقت نفسه. أكتب في الطائرة فوق مدن أعرفها أو لا أعرفها فأشعر أني في وطني.

عندما غادرتُ العراق، ذكّرتُ نفسي بذلك الشرط الذي خرج به أورفيوس وهو ألا أنظر إلى الوراء. ولكن أورفيوس نظر إلى الوراء ولذلك خسر أيرودس التي كانت خلفه. خسرها بتلك النظرة إلى الوراء. وأنا أيضاً لم أتمكن من تنفيذ ذلك الشرط. أنا أفهم تلك النظرة تماماً بالرغم من تبعاتها. نعم، نظرتُ إلى الوراء.

حاولتُ أن أجد لي مكاناً في الفضاء الجديد ولم يحدث ذلك بسرعة خاصة وأنك ما أن تسمع أغنية عراقية مثلاً حتى تطير إلى ماضيك الذي لن يمكنك العبور من فوقه بتلك البساطة التي تعبر بها جغرافياً ولو تلك أيضاً ليست بتلك البساطة.

كل ما تعبرهُ يصبح ماضياً، ولكن الذكريات تعيدك بخط عكسي أي تعبر بها الحاضر إلى الماضي. كل ما تتذكّره يصير حاضراً.

أنا لا أتذكّر كلَّ ما أريد تذكرهُ. أنا لا أريد أن أذكرَ كلَّ ما أتذكّرهُ.

محمد ميلود غرافي (المغرب – فرنسا): امرأة تمشي وحدها في الطريق!

وأنا أدخل فرنسا لأول مرة أحسست بما يشبه الخوف من المجهول. وأحسست في الوقت نفسه أنه نبت لي جناحان. فابتهجت ونسيت خوفي. الفرق في كل شيء بين بلدي الأصلي والبلد الجديد كان صارخا، حتى أني توصلت إلى قناعة مفادها أن ما أقف عليه من تقدم تكنولوجي ومعرفي واجتماعي واقتصادي وسياسي في فرنسا أمر طبيعي، لأنه في انسجام تام وطبيعي مع منطق التاريخ البشري. ما بدا لي “عالما آخر” حقا هو العالم العربي والبلد الذي أتيت منه لأنني أدركت بالملموس والعين كم نحن خارج التاريخ. كانت تلك صدمتي الكبيرة وأنا أخطو خطواتي الأولى في درب الهجرة، وأدخل مكتبات باريس ومتاحفها وأنفاقها وحاناتها وحدائقها وأتجول في شوارعها.

من الأشياء التي أدهشتني أول مرة هو أن أرى المرأة تمشي وحدها في شوارع ضيقة وخالية بباريس بعد منتصف الليل ولا تتعرض لأذى. من ذكرياتي أيضا أن لُعابي سال كثيرا مرات كثيرة أمام قاموس “روبير الصغير” الضخم في متجر كبير بإحدى الضواحي الباريسية فسرقتُه. حين ركبت القطار وأنا أضم الكتاب إلى صدري بقوة وأرتعد، أحسست أني أقدمت على فعل إجرامي كبير.

الهجرة معاناة أيضا لأن الاندماج في الوسط الاجتماعي الجديد يتطلب منك أن تستوعب الثقافة والطقوس والعادات، وتتآخى معها دون أن تذوب فيها كليا. يلزمك دائما نوع من التوازن إن أردت أن تظل فردا حرا ومستقلا وكائنا اجتماعيا سويا في الوقت نفسه. حين يختل هذا التوازن كثيرا بين ماضيك وحاضرك، بين انتمائك الأصلي وانتمائك الجديد فإنك تسقط إما في أزمة حنين مرَضي فتاك أو في استلاب وفقدان كلي لفردانيتك وهويتك. “الهجرة فخ” كما قال الناقد فرانسوا ريكار في تقديمه لرواية “الجهل” لميلان كونديرا.

أحمد يماني (مصر – إسبانيا): بيت آخر لم أزره من قبل

كان أول ما رأيته مدينة برشلونة الساحرة، وكنت قد وصلت إليها بالقطار الليلي قادما من باريس، بعد أن قضيت يوما كاملا في صحبة صديقي الكبير كاظم جهاد، وكنت قبلها قد قضيت عشرة أيام في جنوب فرنسا في مهرجان “لوديف الشعري”. قبلها كانت باريس أول ما رأيته في أوروبا، من القاهرة إلى باريس مباشرة وكان العزيز كاظم جهاد بانتظاري في مطار شارل ديغول، قضيت الليلة في بيت كاظم وفي الصباح توجهت إلى “لوديف”. في محطة قطارات برشلونة كانت زوجتي الإسبانية السابقة تنتظرني هناك. قضينا ثلاثة أيام في برشلونة وبعدها ذهبنا إلى بلنسية للعيش هناك على الساحل الشرقي لإسبانيا. كان ذلك في صيف عام 2001. لم تشكل لي الحياة في إسبانيا أية صدمة، بل على العكس شعرت منذ اليوم كأنني في بيت آخر لي لم أزره منذ فترة، لكنه بيت أعرف أركانه جيدا. بالطبع ثمة فروق في نمط الحياة، ولكن هذه الفروق لا تعني انتقالا خارج المكان بشكل كامل. حينما تملك لغة المكان الجديد يصبح كل شيء أسهل. المكان الأليف لا يعني بالضرورة المكان الأول، الألفة تنشأ مع أماكن أخرى أيضا، والأهم في تقديري هو البحث في المكان الجديد، هذا المكان الجديد يوفر نوعا من الانتباه الدائم، وهذا الانتباه يساعد في فهم المكانين القديم والجديد بشكل أكبر. بالطبع هناك تجاذبات، هناك ما ترغب أن يكون متوفرا في عالمك الجديد، وهناك ما ترغب أن يكون حاضرا في بلدك الأم. أظن أنه بعد سنوات أطول لا تعود عملية المقارنة ضاغطة بشكل كبير، ثم يأتي وقت قد تختفي فيه هذا الثنائية ويصبح المكان المتعدد هو الأبرز، المكان مهما كان موضعه الجغرافي، مكان يمكن أن يجمع عدة أمكنة في الوقت ذاته.

ريم يسوف (سورية – فرنسا): دمشق في باريس!

لم تكن حجم الصدمة بشكل الحياة الجديدة كما هي صدمة متسللة إلى الجسد والروح يوماً بعد يوم بفكرة الابتعاد أكثر جغرافياً، رغم المحاولة من اليوم الأول باختيار مدينة (روان في فرنسا)، والتي أسميتها دمشق القديمة لما تحمله من تفاصيل في المدينة القديمة وبمنازلها التي يكثر بها الطين والخشب وحاراتها الضيقة، كمن يسكنها أصدقائي ليطل أحدهم من نافذة صغيرة ليدعوك إلى فنجان قهوة مسائية، أمضيت سنتي الأولى أترنح بشوارعها مع ذكرياتي نتسكع، وأدعو كل أصدقائي أن يزوروا مدينتي دمشق الفرنسية، هي أحد أنواع المقاومة للحنين الذي سكن تفاصيلنا وحفرت في قلوبنا يوما بعد يوم، وطبعت داخل أعمالي، وتحديداً أعمال معرضي (حكاية قبل النوم، 2016).

حديث يمر دائماً في جلساتنا الدائمة كمسابقة طفولية، لمن وجد أكبر عدد من الأماكن التي تشبه الصورة والرائحة أو الهيئة بأماكن رفضنا أن تغيب عنا يوماً، المنزل الأول الذي سكنته هنا له نافذة عالية تطل على أحياء مدينتي الفرنسية المسمّاة (دمشق)، وأمضي ساعات لترقب الشمس كيف تعانق جدرانها باشتياق وتفارقها بألم، حتى أصبحت نافذة أحد البيوت الدافئة تقطنه عائلة صغيرة، أحد اهتماماتي اليومية، مع طفلهم إن كان سعيداً أو مريضاً أو إن احتاج بعض الاهتمام والحب، كان هذا الطفل في مخيلتي دائماً يخبرني أنه صديق لكل طفل سوري داخل مخيمات البرد واللجوء، يحمل لي كل أحلامهم ويكتب حكاياته قبل النوم.

هذا ملخص لمرجعية كل منا ولكن لكل منا أيضاً قصة وأداة للتعبير، إن كان باللون أو الكلمة والنغمة، ولكن يبقى هو مصدر كل القوة في قلوبنا عند كل خطوة نخطوها للغد.

أرى أن حياتنا أصبحت روايات أبطالها سوريون بأجساد قوية وروح ممزقة تحت عناوين بجميع لغات العالم.

عبدالله عيسى (سورية – موسكو): أكثر من لجوء

هنا موسكو. وكأنما في يوم الحشر: أناسٌ جاؤوا من كل فجّ عميق بسيماء وألسنة وروائح مختلفة من شعوب وأجناس وطوائف لم أر مثلها في أرض واحدة من قبل، ينشغلون بهم عمن سواه، فيما كان روس بوجوه بسّامةٍ، أغلبهم من الفاتنات الغاويات، يتحدثون معهم بلغاتهم، ويقتادونهم إلى مكان آخر، خارج مطار شيرميتوفا الدولي. ومنذ تلك اللحظة، حال حلولي في هذه الأرض، أدركت أن موسكو التي قيضت لنفسها أن تكون إحدى أهم عواصم الثقافة الكبرى، شاءت لنفسها أن تصبح بقعة حيوية، كما كان شأن المدن الروسية الأخرى، للتفاعل والتلاقح الثقافي والإنساني بين ممثلي الشعوب والجنسيات المختلفة.

الطبيعة التي بدت وكأنها أعدّت بعناية إلهية فائقة، والشوارع الواسعة المفتوحة على جهات متعددة، يعبرها بشر يمضون إلى أيامهم بأحلام بحارّةٍ قدامى، رغماً عن تحولاتٍ هدّامة لعوالمهم الداخلية وزمانهم الموضوعيّ والعالم من حولهم كله، لم تكن مشهودة من قبل جاءت بها عملية البيروسترويكا، والمدينة الممتدة بمعماريات تتجاور لتدل كل منها على حقبة من العهد القيصري مروراً بالستاليني حتى الخروتشوفيّ وما بعده، تماماً كما تتعايش في بيوتاتها كائنات من ديانات وجنسيات مختلفة، وكثيراً ما تجد الأمر هذا في معظم العائلات، كل هذا يجعل حريتك المفقودة في المكان الماضي، القديم، أشبه بما تروي من سير الموتى. الحرية التي لم تعهدها هناك تأخذك من بين يديك إلى سرير يتسع لعاشقين، أو حوارٍ تشتبك به مع سواك دون أن تخشى أنه سينتهي بقذفك في قبو، أو تلتقط فكرة في نص تنجزه دون أن يقتفي أثرها المخبرون والطغاة كي يئدوها في مهدها. الحرية هنا أشبه بهواء نظيف طازج لم تتنفسه من قبل. هذا هو الفارق الحيوي في المسافة بين مكانين تقطعت بك بينهما السبل، الفارق ذاته الذي أخرجك من مكانك الأوّل، أحب بقاع الأرض إليك.

وثمة ما يجعلك هنا في المكان الجديد شاهداً على اصطدام التاريخ بمرآته الخلفية حيناً، وانقلابه على ظهره وهو يمد لسانه إليك حيناً أخرى، حين تشهد انهيار دولة عظمى، في خلسة عن عالم كنت تظن أنه لم يكن يتحرك دونها، وسقوط علمها عن برج الكرملين دون أن تتوقف الأرض عن دورانها إلا في سجالات فقهاء المكان/الأمكنة القديمة التي جئت منها، بعد أن طردتك، ورضوا عنها بهذا، من رحمتها. هنا تحتضر النظرية في حركة الواقع المتقدّم إلى غده، فيما يتفقه “مفكرو” المكان القديم، بحنكةِ الحرباء، باستقدام حواة إحيائها في الكتب القديمة التي جاءت على سيرتها. صدمة المعرفة بمتن الشيء ونقيضه في مكانك الجديد تعفيك من التجول في أنساق هامش أعده هامشيو المكان القديم. لم يتوقف العالم سوى في تصوراتهم. ولأن الصورة القديمة للعالم تهشمّت هنا، ومن هنا أيضاً، يغدو لزاماً عليك أن تتصدى للعالم، حتى الذي تكتبه، برؤية جديدة للإنسان والأشياء عبر كسر التصورات التي أنتجته، وإعلان القطيعة مع أشكال التفكير التي حددت ملامحه وتحولاته، وكذلك طرائق التعبير التي صاغته وفق سياقات كهنته والمتحكمين في أمره، وهذا ما جعلك منبوذاً في جوقاتهم طالما أعلنت العصيان عما يقدمونه، ومكفّراً في حلقات الآخرين الذين يشكلون الضفة الأخرى لهم. هنا، لا يقضم أحد تفاحة المعرفة، مثلما كان عليه الأمر هناك.

كل شيء مختلف ومتعدد…

وهكذا، أنت تنتقل إلى عالم آخر. عالم يحيلك إلى سؤال المعرفة الأولى. عالم يبقى فيه الحنين إلى المكان القديم أشبه بالنكوص إلى الذاكرة، فيما المكان هنا يتقدم بغدك نحو بوابة الأزلية.

باسم المرعبي (العراق – السويد): لا تدق مسماراً في جدار

يكتب “برشت” عن المنفى قائلاً: “لا تدقّ مسماراً في جدار/ القِ بمعطفك على الكرسي، غداً ستعود إلى وطنك”. وها أنا منذ عشرين عاماً أضع معطفي على ركبتيّ تأهبّاً للعودة.

منذ سنوات خمس بالضبط من الآن، كنتُ قد دوّنت هذه الخطْرة على صفحتي في الفيسبوك، فاستعادَها هذه الأيام لتكون بمثابة هبة أفتتح بها كلمتي هذه عن المكان الأول وما تلاه. العودة إلى العراق. هذا هو العنوان والهاجس الدائم لديّ، منذ حوالي 26 عاماً، أي منذ غادرته قسراً، أول مرّة. لقد كان هناك أكثر من مكان جديد، فقد التجأتُ بدايةً، إلى شمال العراق (كُردستان)، ثمّةَ ابتدأتْ حريتي. ومن أرصفة وجدران السليمانية حيث المطبوعات والصور المعادية والفاضحة لنظام صدام، أطللتُ على عالم جديد، بلهفة، بعد طول أسْر. كان ذلك اكتشافاً وصحبة طيبة للمكان وأُناسه. سورية كانت المحطة الأولى بعد العراق، والتي أحتفظ لها وعنها بأجمل الذكريات، بعدها إلى لبنان، بنِيّة العمل. لكن الصدمة، بمعنى ما، كانت في بيروت! فقد عشت فيها شظفاً وأوقاتاً صعبة بحق: جوع، سكن غير صحّي وعَوَز، قبل أن أغادرها إلى السويد، محطتي الرابعة منذ 23 عاماً. وبعيداً عن طبيعة الظروف الجديدة ونوعها، سلباً كانت أم إيجاباً، يبقى الماضي ممسكاً بتلابيب المهاجر. قبل يومين اتصلت بالعراق لأسأل ما إذا كانت مدرستي الابتدائية لا تزال قائمة أم أنها هُدّمت! والمقارنة تستمر بين المكان الأول واللاحق، فالعيش بهاجس المؤقت وما يعنيه ذلك من تشظٍّ، هو المسيطر، رغم إيجابيات المكان الجديد، أقلها كونه تجربة. لكن الحديث هنا عن الجذور، وهذا شأن آخر وحديث آخر. بنظرة “ميتامَكانية”، إن صحّ المصطلح، فإنّ المنفِيّ يخسر كلّ الأمكنة، فالقديمة ما عادت تُدرَك والجديدة، بأيّ حال، أقلّ من الحلم بعد أن كان الظن هي اليوتوبيا.

غدير أبو سنينة (فلسطين – نيكاراغوا): حرٌّ ومطر

هجرتي الحقيقية كانت لنيكاراغوا، وهي بلاد كنت بالكاد ألمحها على الخريطة، ولذا لم يكن لدي صورة مسبقة (إيجابية أو سلبية) قد كونتها عنها. وصلت في يوم ماطر من يوليو، الذكرى الأولى كانت أن أعايش جوا حارا ومطرا في الوقت نفسه. كنت أطرح مسألة التعوّد واللاتعود في السنوات الأولى. منذ مدة لم تعد شغلي الشاغل، التنقل جعلني لا أعتاد على شيء وأعتاد على كل شيء.

طبيعي أنه كان هناك صدمة في البداية، رغم أنها ليست المكان الأول الذي أرحل إليه، لكنها الأغرب والتي اعتقدت بداية أن فجوة كبيرة تفصل بينها وبين المكان الذي قدمت منه. لكن حينما أصبحت لدي صداقات بدأت هذه الفجوة بالردم. صحيح أنك ستفتقد عناصر من المكان الأول لكن العناصر الإنسانية كفيلة بتقريبك للمكان الجديد.

الحنين أو النوستالجيا شعور مولود مع الإنسان وغير متعلق فقط بالمكان، الماضي يشكل ذاكرة الإنسان وجزءا من تكوينه، وهو يتراوح بين شخص وآخر. وهو من ضمن المشاعر التي أحاول ألا تستحوذ علي. أنتمي لكل الأماكن ولا أنتمي لأي منها. الانخراط في المجتمع الجديد أمر منطقي بالنسبة لي وبدأ حينما داست قدمي أرض هذه البلاد، والانخراط لا يتعارض مع ما أحمله في تكويني من ماض وذاكرة وثقافة مختلفة. لا أحد يجبرك على ذلك. فأحيانا قد لا ينخرط الإنسان مع مجتمعه الذي ولد فيه. الأمر لا يتعلق بالمكان أبدا، بل بالفكر.

المقارنة، نعم، دائما حاضرة. لكنها لا تصب في صالح أي مكان. أفضِّل مناخ البحر الأبيض المتوسط على الاستوائي وأحب ماء المحيط هنا أكثر من البحر هناك.. وهكذا.

محمد مقصيدي: العبور الدائم

المكان ليس فقط جغرافيا تتمدد فوق اللون الدافئ للتراب وزرقة الماء وكذا الأشكال والأحجام التي تعلق في بؤبؤ العين أو في إحدى مغارات الدماغ أو مخابئ القلب، كذلك لا ينظر إليه العابر- أو على الأقل، هذا ما يخيل إليّ- على كونه حالات من حالات الفيزياء أو الكيمياء وحسب… إنه عبور بين أشكال للوجود في حد ذاته. لذلك نقرأ في بعض الكتابات النقدية التي تناولت المكان في المنفى أو المهجر، باعتباره شكلا من أشكال اللامكان، أو بتعبير أدق، هو مكان يوجد ولا يوجد في نفس الوقت. هذه الحالة من الوجود تمنح بعدا جديدا للكائن البشري باعتباره ينتمي إلى الوعي أكثر من الانتماء للطبيعة، وهكذا يكون الانتقال إلى المكان الآخر، هو انتقال جذري من ذات إلى ذات أخرى، حتى وإن كانت هذه الذات ترسل كل أشكال المقاومة لهذا الواقع الجديد.

بالنسبة إلي، إن المكان يختفي تماما باعتباره مكانا واقعيا ثابتا بمجرد الانتقال إلى مكان آخر، لا أتحدث هنا عن السفر أو السياحة، بل عن الإقامة كانتماء إلى مكان جديد سواء كان الأمر قسريا أو اختياريا (هجرة/ منفى). إنه اختفاء للمكان الأصلي والمكان الجديد، حيث يتم استبداله بصورة عن المكان، فتتغير رؤية المنفي للبلد القادم منه، بشكل يتأثر بأشياء عديدة أولها نتائج المقارنات الأولية مع بلد الإقامة، كما أن حتى مكان الإقامة الجديد لا يكون هو هو، بل فقط صورة عنه، وبالتالي لا يعيش المُهاجر/ المَنفي حالات المكان بشكله العادي، بل هو يعيش صورة من الصور اللانهائية للمكان. صورة يتداخل فيها المكان الحاضر مع المكان الغائب ليخلقا مكانا جديدا غير موجود حقيقة، لكنه موجود بالفعل في ذات المهاجر/ المَنفي وبه.

عموما، إن الذات في الهجرة/ المنفى تتأثر بالمكان وتؤثر فيه، لكن، لا يجب أن ننسى أن المكان كائن حي، كائن حي له روح ومزاج وأفكاره الخاصة أيضا بمنعزل عن سكانه المقيمين أو العابرين. أما الإنسان فهو مجبول على تغيير المكان منذ الأبد، حتى وجوده على هذه الأرض فهو فقط عبور يبدأ بالولادة وينتهي بالموت.

هاتف جنابي: من النجف إلى وارسو

حياتي عبارة عن مذكرات أمكنة، امتداد طرق انتهى بعضها وما زال الآخرُ قيد التمدد أو النشوء. أشعاري، إلى حد ما انعكاس لمعالم وجمال وبشاعة وتشابك ومشاكسة الأمكنة. حياتنا ذاكرة تتشبث بالمكان حدّ الموت. كلّ من قال لك: المكان جامد بلا إحساس فهو واهم. المكان يتنفس بتضاريسه، وهو انعكاس لطبيعة ساكنيه من الحيوانات والنباتات والجماد والبشر. تعدد الأمكنة في حياتي ذو نوعين: مكان ألجأ إليه طوعا وآخر تقذفني إليه الأقدار. حينما تختار مكانا جديدا لك تصبح علاقتك بالأقدم منه كما لو أنك نزلتَ من عربة قطار لتستقلّ آخر بغض النظر عن الاتجاه. المكان الوحيد الذي اخترته بدون إكراه هو جامعة بغداد التي عشقتها وكوّنت فيها علاقاتي الناضجة وبداياتي الشعرية والأدبية الحقيقية. حينما اضطرّتْ عائلتي مكرهة وأنا في سن الحادية عشرة لترك أرضها، في مطلع الستينات من القرن المنصرم، كان ذلك بمثابة منفاي الأول، فكانت صدمة مدينة النجف كبيرة في داخلي لم أخرج منها حتى اليوم. بعدها جاءت بغداد وجامعتها، وأعقبها منفاي الثاني في مدينة كركوك التي عُيّنتُ مدرّسا فيها نفيا. هذه الأمكنة أثّرت عليّ كثيرا. بعضها شكّل لي صدمة والآخر اعتبرته مَمَرّا. كانت كركوك محطتي الأخيرة في العراق: مشرقة وكالحة. تأتي إيجابيتها من كونها مكانا خليطا إثنيا ونائيا بحكم بعده عن بغداد، استطعت فيها أن أتأمل وأقرأ وأكوّن علاقات وأراجع نفسي وأكتب وأستعدّ لوثبة في الفراغ. كانت قاعدة لانطلاق مركبة المنفى بكلّ سرعتها ودخانها ومجهوليتها نحو عالم لم تكنْ لدي فكرة مسبقة عنه. هكذا بدأت علاقتي (آب 1976) مع فضاء فصلني تسع سنوات عن عالمي العربي. كانت مدينة وارسو ملجأي ونافذتي على العالم والجمال والثقافة والعلوم، وكانتْ في الوقت نفسه مكان غربتي ومعاناتي الحياتية بحكم موقعها الجغرافي. بعد فاصلة زمنية استعدت روابطي جزئيا بالثقافة العربية من نافذة الجزائر التي عملت فيها محاضرا 1985-1988 (جامعة تيز-وزو). عدت منها إلى وارسو، لأنني كنت مطرودا من الجنة العراقية. في 1993-1994 حضر المكان الأميركي في حياتي، ممثلا في مدينة بلومنغتن وجامعتها. تلاها المكان البريطاني (بلومنغتن) في السنوات الأخيرة. كنت منغمسا في كل واحد من الأمكنة الآنفة الذكر، والتحرك عموديا فيها مما جعل تجربتي الحياتية والأدبية والعلمية أكثر فائدة وأقل وطأة. كان العراق والمنطقة العربية بأحداثها تتبعني مثل ظلّ ثقيل، ولولا سعيي الحميم كي أجعله خفيف الوطأة لانتهيت منذ زمن. كانت تلك الأمكنة مختلفة بعضها عن البعض الآخر مما صيّرها مشوقة وغير مملّة وتحتاج إلى تحدٍّ. كان الخروج من العراق صفحة جديدة في حياتي، مؤلفها: القدر. لم أخطط مسبقا لأيّ من تلك الأمكنة. أسمّيها بالمحطات لأنني هكذا تعاملت معها على أمل العودة إلى العراق الذي يبتعد ككتلة في السراب، ومعه تتضاءل سنوات العمر، في غسق لا حدود له. الأمكنة الغريبة قد تكون أكثر رأفة ونفعا من الأمكنة الوطنية. لولا المنفى لما كنت هاتفا الذي تعرفونه اليوم. رغم ذلك، الوطن لا يتكرر مرّتين.

علي سفر: يوميات ميكانيكية

ربما كان من سوء حظي أنني بدأت تجربة المواجهة الشعرية مع القراء عبر كتاب حمل عنوان “بلاغة المكان”، احتوى على 28 نصا عن أمكنة في دمشق.

بعد هذه التجربة التي صدرت في عام 1994، توقفت بشكل شبه كامل عن الكتابة التيماتية، أي تلك التي تذهب في تقفي أثر موضوع معين، وبهذا سقط المكان من الواجهة ليصبح مجرد عنصر وظيفي يمر مثل غيره في السياق.

وبعد 20 عاماً من تجربة “بلاغة المكان” صدر كتابي “يوميات ميكانيكية” الذي كُرس وبشكل كامل ليكون تدويناً أدبياً عن الحدث اليومي في زمانه ومكانه السوريين، حيث كتبت نصوصه في دمشق ولكن لم يعلن عنها إلا بعد الخروج من المكان، باتجاه المنافي القريبة.

وفي عمان العاصمة الأردنية، كتبت تفاصيل جديدة، لم تك تتعلق بالمكان الجديد قد تعلقها بصورة لم تشأ أن تخلع نفسها من مكانها، فقلت: “في كل المدن هناك شارع اسمه شارع دمشق، وهذه ليست قصيدة..!”.

وفي غازي عينتاب/ جنوب تركيا، ومن بعدها إسطنبول، توالت المسألة ذاتها ولكن بأشكال جديدة، ففي سوق عينتاب الكبير وفي سوقها الخاص بالمهن اليدوية، كنت أجد نفسي في مواجهة مع أمكنة بليغة بالنسبة لي لأنها وليدة لتاريخ مشترك مع أمكنتي الأصيلة، وفي إسطنبول: لا يمكنك إلا أن تبني علاقة مع التفاصيل التي تشبه دمشق وحلب وكل المدن المشرقية، مع وجود هائل للمدن الأخرى حول العالم.

الكتاب الجديد الذي يحمل اسم “الفهرس السوري” لن يبتعد عن بلاغة المكان، حيث ثمة استعادة هائلة لروح الكتاب الأول ولكن مع تفاصيل راهنة بالغة القسوة، وثمة أيضاً نزوع نحو تمثل المدينة الحلم، التي يحلم الدمشقيون أو الحلبيون وغيرهم لأن تكون مدنهم على شاكلتها، ولنلاحظ هنا أن الشعر ملتزم بتتبع سيرة الأحلام الكبرى، ومعني بسرد الحلم المقسوم على مكانين.. المكان الأصلي والمكان البديل..

بكل الأحوال، المكان السوري ما زال مضطرباً، وضمن ظروفنا الراهنة لن تكون بعيداً عن سورية حتى وإن عشت في القطب الشمالي..

سورية متوفرة على النت، وحاضرة في نشرات الأخبار. ولكن ربما من المفيد أن نبحث عنها في تفاصيل أكثر إنسانية..

حسين حبش: صدمة البرد في ألمانيا!

قبل عشرين سنة، وبعد رحلة شاقة ومضنية قطعت فيها مسافات طويلة جداً، عبرت من خلالها حدود عدة دول، كدت أفقد حياتي في أحد تلك “العبورات”. وجدت نفسي- في يوم شتائي قارس جداً- في ألمانيا. حيث كان البرد الصدمة الأولى، فطوال الوقت كنت أتساءل، يا إلهي: كيف سأتحمل كل هذا الصقيع، وكل هذه البرودة هنا؟! ثم بدأ ذلك الشعور الذي يرافق الغرباء والمنفيين والمهاجرين بشكل عام يطل برأسه من أعماقي دون خمود أو سكون أو انطفاء، أي شعور الشوق والحنين (المرضي) إلى الأهل والأصدقاء وملاعب الطفولة وأمكنة الدراسة والسكن والتسكع والصداقات الجميلة… وما كنت أضع رأسي على المخدة، بعد أرق شديد، حتى أجدني أجوب أزقة “شيه”، بلدتي. حيث ألتقي بأمي وأبي وأخوتي وأصدقائي، آكل وأشرب وأمزح وأضحك وأمارس حياتي الطبيعية معهم! ثم أجدني في حلم آخر أجوب شوارع مدينة حلب وأزقتها التي كنت أعرفها كما أعرف أسماء أخوتي! استمر هذا الوضع لأكثر من سنتين لم أكتب فيهما حرفاً واحداً. ثم بدأت حدة هذا الشعور تخفت رويداً رويداً بعد تعلم اللغة نوعاً ما واكتشاف العالم من حولي، وتكوين صداقات جديدة! طبعاً بعد تتالي السنوات بدأت أتأقلم مع مكاني (الجديد الذي صار قديماً بدوره) وأتآلف معه وأحن إليه. فعندما أغيب عن بون، المدينة التي أسكن فيها منذ مدة طويلة، أجدني أشتاق إليها وأشعر براحة وسعادة كبيرة حين أحط فيها بعد غياب. حيث لي فيها بيت وأسرة وصديقات وأصدقاء وزميلات وزملاء ومقاه وحانات وذكريات كثيرة لا تنتهي…

أما بالنسبة للمقارنة بين المكان الأول والمكان الجديد، فقد خفت عندي حدة هذا الشعور إلى حد كبير. فقد أصبحتُ جزءاً من مكان الجديد بناسه وثقافاته وحياته اليومية، بأفراحه وأحزانه، باحتفالاته وأعياده وكل التغييرات التي تحدث فيه. طبعاً دون أن تختفي آثار الماضي وذكريات المكان الأول من الذاكرة والقلب والروح.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى