صفحات الناسفاطمة ياسين

ذكريات على كرتون/ فاطمة ياسين

 

 

أحضرتْ لي أختي معها، حين قررت الانتقال للعيش معي، بعض الأشياء التذكارية من بيتنا في الشام. وضعتْ حقيبتها الثقيلة في إحدى الزوايا وتفقدت المكان. مالت الحقيبة على جانبها المنتفخ وهرب من سحّابها المفتوح ألبوم صور صغير. هرعتُ مسرعة أحاول تعديل وضع الأشياء، ثم أمسكتُ بمجموعة الصور، ورحت أقلّبها بغير

اهتمام، فلمحتُ بينها صوراً لفتاة مراهقة تشبهني. كانت الصور مأخوذة بكاميرا بدائية على شريط “نيغاتيف”، ومن ثم مسحوبة على ورق مقوّى. أعدتُ الأشياء إلى الحقيبة كما كانت عليه.

عند قدومها السعيد، لم يكن لي رغبة بنبش ذكريات تجلب لي سعادة أخرى، أو ربما خفت أن يغتال حزنٌ قديم سعادتي الحالية. البارحة قررنا الانتقال من مرسين إلى اسطنبول. في الغرفة الصغيرة انحشرنا بين أكوام الثياب. الأدوات فوق رؤوسنا وبين أرجلنا. رحنا نفاضل بين الضروري منها، والأكثر ضرورة، ونحاول أن ننتقي من هذه الأكوام ما هو مناسب للمدينة الضخمة الجديدة. مجدداً وقعت عيناي على مجموعة الصور. تركتُ هذه المرة كل ما حولي من فوضى وانصرفتُ أقلّب في الصور. أَحدثها كانت في العام 2005 أي قبل عشر سنين. كان عمري سنتذاك عشرين سنة، ووزني أقل من الآن بآلاف الغرامات. لم تتغير ملامح وجهي كثيراً. هكذا قالت لي جارتنا التي كانت تساعدنا في توضيب الحقائب. لكنني لم أقتنع بكلامها. فشكل حاجبيَّ وحجم أنفي وامتلاء خدَّيَّ، قد أثّرت فيها السنون العشر بشكل واضح. أو هكذا بدا لي. أمسكتُ بصورة أكثر قدماً من سابقتها، كان عمري فيها خمسة عشر عاماً. قلّبتُها سريعاً ولم أُرد لجارتي أن تراها، لأنها، بالتأكيد،

سوف تسألني عن المرأة التي معي في الصورة، وستستنتج سريعاً، ببداهتها المعهودة، أن هذه المرأة هي أمي، وأنها تشبهني؛ ولكنها بعينين خضراوين، وغمّازتين على جانبي الفم. وسأضطر إلى خوض حديث عن

أمي، لم أرغب به في تلك اللحظة، لكن سيناريواً ما، كان قد سجله دماغي كاملاً كأنه حدث بالفعل، وكأنني قد عشته، فأحسست بشوق كبير إلى أمي، لم ينفع معه إخفاء الصورة.

ببرودٍ غريب قلَّبتُ صوراً لاحقة، رأيت فيها وجوهاً كثيرة لأشخاص يرتبطون معي بقرابة الجد والجدة، معظمهم شبان وشابات في عمري، أو أصغر بقليل. لم أشعر بانتمائي إليهم وأدركتُ أنني في غربة حقيقية، سوف تدوم طويلاً. أخرجني من أحزاني صوت كاميرا الجوّال الخاص بأختي، فوضعتُ الصور بغضب، في علبة فارغة، والتفتُّ لأجدها تصوّر المكان من حولنا. لم أفهم دواعي التقاط صور لمكان سنغادره غداً، وخصوصاً أن الفوضى كانت تملأه، والجارة تجلس فوق كومة ثياب فاتحةً فمها على آخره لتفتعل ضحكة تلائم الصورة. صرختُ في وجه أختي أن تكفّ عن التصوير، وأن تساعدني لننتهي من هذه الفوضى.

يقال إن ابن الهيثم هو من وضع أساس الاختراع الذي قام في ما بعد الإيرلندي روبرت بويل مع مساعده باختراعه، وهو الكاميرا البدائية. لا أظن أن الغاية من هذا الاختراع حينها كانت حك الذاكرة لاستخراج أشواق وآلام، ولا حتى مقارنة ما آل إليه شكل المرء بعد مرور سنين طويلة عليه، بل كان الهدف، على ما أعتقد، نابعاً من فكرة تخليد الأثر، وجاءت فكرة التصوير كتطور زمني عن الرسم أو التحنيط عند آلهة الفراعنة.

في الصباح المبكر، حملنا حقيبتين كبيرتين وركبنا سيارة أجرة في اتجاه

المطار. كان الجو بارداً جداً، وأشعرتني موجات الهواء على وجهي بحزن مضاعف، حمدتُ

الله أن عدسة كاميرا الجوّال لم تستطع التقاطه.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى