صفحات الثقافةمها حسن

رأسان في نصّ واحد/ مها حسن

 

 

بأي لغة أكتب هذه الورقة؟ أتساءل طويلاً قبل القدرة على الكتابة. هذا السؤال الذي يحيرني، يعيق نصّي. الورقة أمامي لا تزال بيضاء. تتزاحم الأفكار في رأسي، باللغتين العربية والفرنسية.

رغبة مني في المشاركة في كلمة ستقرأ في ذكرى رحيل صديقة، حيث سيقوم أصدقاؤها الفرنسيون بتنظيم الفعالية، فكرت أن أكتب نصي باللغة العربية، تلك التي أتمكن منها دون قيود، وأجيدها كما يجيد الطفل المشي بعد سنوات التعثر. واتفقت مع صديقة صديقتي، وهي تشتغل في مجال الترجمة والكتابة باللغتين، أن أكتب نصي بالعربية، ثم تقوم هي بترجمته إلى الفرنسية. ولكنني حين بدأت أفكر بالنص، كانت الأفكار تأتيني باللغة الفرنسية. صرتُ أدون أفكاري الفرنسية في القسم الأول من الورقة، ثم أكتب أفكاري العربية في القسم الثاني.

بدأت مثلاً بتدوين جملة بالفرنسية، عن الساحرة والقدْر. خشيت أن تقرأ صديقتي الفرنسية كلمة(القدْر) رغم التركيز على تسكين الدال، وفق الخداع البصري الذي نقع فيه غالباً، بسبب الألفة مع المفردات، فتتحول مفردتي إلى : قدَر.

قررتُ إذن أن أكتب العنوان هكذا:

La sorcière et le chaudron

وما إن بدأت بالنص، حتى راحت العربية تتسلل، بوصفها اللغة الأسلس والأكثر تلقائية بالنسبة لي، فوجدتني، أقسم ورقتي إلى عمودين، أدونّ في الطرف الثاني، أفكاري بالعربية.

قبل أن أتابع نصّي الحائر بين اللغتين، قررت أن أكتب هذه المادة، إذ طالما سُئلتُ هنا في فرنسا، عن أثر اللغة الفرنسية على كتابتي في العربية.

حول تلقائية الكتابة أولاً، فقد اعتدتُ العربية، وكأنها اللغة الشرعية في حياتي. دون تفكير، تُحضر هذه اللغة أدواتها الذهنية معها: أقصد تماماً تابواتها.

في العربية، أعرف دون جهد، ما يمكنني كتمه في الكتابة، وما يمكنني كتابته. أما في الفرنسية، اللغة الجديدة عليّ، فإنني أجد نفسي أكثر حرية وطلاقة، ولكنني أتقيّد بالتمكّن اللغوي، فأنا لا أجيد الفرنسية كالعربية، بل لا أزال أترجم أغلب أفكاري من العربية، وكأنني أحمل مترجماً فورياً في رأسي، لأقلب جملتي التي أفكر بها من اليمين إلى اليسار، إلى الوجهة الأخرى، متذكرة في كل مرة، طرفة لصديق فرنسي: أنت تكتبين من اليمين إلى اليسار، فهل تفكرين بالطريقة ذاتها، من اليمين إلى اليسار؟

لم تكن تلك النكتة إلا تحريضاً للتساؤل بالنسبة لي: هل تتغيّر طريقة تفكيري في الأشياء، حين أغيّر اللغة التي أستعملها في رأسي؟

وأنا أشتغل على نصٍ معقدٍ بالفرنسية، وجدتني أمام لحظة غموض، تائهة أمام الكلمات التي كتبتُها. فأخذت النص ذاته، وقمت بطباعته، ثم رحتُ أترجمه في دفتر منفصل، من الفرنسية إلى العربية. وكأنني أوضّحه لنفسي، فأنا أفكّر وبنسبة كبيرة من حياتي باللغة العربية، وقمت بعدها من جديد، بترتيب نصّي الفرنسي، وفق التعديلات التي أجريتها عليه باللغة العربية.

وهكذا شرحتُ لصديقتي جانين، أنني كائن (مُدبلج)، أشتغل في الوقت ذاته، كالمترجمين الفوريين، على لغتين تتدفقان معاً في رأسي. لكن الفرق الكبير بين المترجم الفوري وبيني، أن المترجم يترجم نصّاً لغيره، لا تربطه به علاقة شخصية، بينما أرتبط بنصّي كوني صاحبته، بعلاقة عاطفية.

كيف سأكتب الآن عن صديقتي الراحلة، التي كانت تتحدث معي باللغة العربية، ولكننا نتحوّل إلى كائنتين مختلفتين، حين نتحدث بوجود زوجها الفرنسي أو زوجي الفرنسي؟ أستطيع أن أقول دون تحفظ، بأنني لا أشعر أنني الشخص ذاته، حين أتحدث باللغة الأخرى.

لا يتعلق الأمر بحرية التعبير فقط، أو بالتمكّن من لغة أكثر من الأخرى، إنما يمكننا الذهاب إلى أبعد بكثير: التاريخ الجمعي للّغة. حين يستعمل أحدنا لغة ما، فهو يرتكز على التاريخ الفكري والاجتماعي لهذه اللغة. ولستُ من خبراء اللغة، لأعطي أمثلة عن استخدامات لغوية أو اصطلاحات موجودة في لغة، يصعب ترجمتها إلى اللغة الأخرى.

ككاتبة اعتدتُ اللغة العربية وسيلة تعبير وتفكير وتخييل، أعترف أنني أشعر بالحرية أكثر باللغة الفرنسية، لأنني لا أحتاج إلى تسويغات أو تفسير عباراتي. بينما تمتلئ العربية بالتأويلات، وغالباً الملغّمة بسوء النية. لهذا، وقد تكون هذه مشكلة فردية، يحتاج أحدنا، وهو يكتب نصّاً بالعربية، إلى المزيد من الدقّة، كي لا يساء فهمه، فيجد نفسه، وهو يتوخى الدقة، يمارس رقابة على نفسه، فيكتب فكرته ذاتها، ضمن عدة جمل، ليؤكد على المعنى الذي يريده، بينما لا يخاف من تعدد المعاني في نصّه الآخر، لأنه ببساطة، لا يخاف من نوايا ذلك الآخر. ربما هذا أيضاً يدخل ضمن فكرة التاريخ الجمعي للّغة: الذكريات والخبرات الشخصية لكل منّا، مع كلماته وعباراته وأثرها على الآخر. لكنني  أشعر بالراحة وأنا أكتب باللغة العربية، لأنني أجيدها أكثر، رغم خشية التابوهات، لكنها اللغة الأقرب إلى روحي عاطفياً. هكذا أنوس بين لغتين: إحداهما أشعر معها بالحرية، والثانية أشعر معها بالحب. وأعتقد أنني سأحتاج إلى زمن طويل، لأحصل على لغتي المكتملة التي أشعر فيها بالحرية والحب معاً، ولا أعرف أيتهما ستنتصر على الأخرى في داخلي، لتسكتمل نقصها من الثانية.

حسناً، لا يزال النص الذي أنوي كتابته عن صديقتي الراحلة، مختلطاً ومتداخلاً: عمودان أمامي، وجمل مدوّنة في كل عمود، تنتظر مني توحيدها، لأقرر: هل أكتب هذا النص باللغة العربية أم اللغة الفرنسية؟ هل أكتبه فيترجمه شخص آخر، أم أترجمه بنفسي، فأكتبه مرتين؟

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى