حسان عباسصفحات الناس

رؤوس التبن

حسان عباس

 من العبارات المستخدمة بكثرة في المدارس السورية عبارة: “رؤوسكم محشوّة تِبناً”. أساتذة المدارس السورية أدمنوا هذه العبارة. كانوا يستخدمونها ليسخروا من ضعف قدرة التلاميذ على فهم تعاليمهم المقدسة. وهي مقدسة بنظرهم لأن بيت الشعر الذي يماهي بين المعلم والنبي، هو من أوائل ما كانوا يجبرون التلاميذ على حفظه (قمْ للمعلّم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا)! أساتذة المدرسة، الذين يلقنون التلاميذ كيف يتعاملون معهم بالتبجيل الذي يستحقونه، كانوا يعلمونهم أيضاً كيف ينقعون أدمغتهم بروح الملح لإزالة الشوائب والقاذورات العالقة بعقلهم. وإذ كان من طبيعة التلاميذ المراهقين أّلا يأبهوا لنصائحهم كان الأساتذة يتحولون من النصح إلى العنف سبيلاً للإقناع القسري. وكان ذاك العنف يأخذ أشكالا صريحة، تتراوح بين الصفعة الخلاّقة والفلق المبدع. وكان لهاتين الصفتين ما يبرّرهما في عقلية الأساتذة “بناة الأجيال”. فالصفعة كانت خلاقة لأنها تحوّل التبن إلى كهرباء تنير مصابيح الفهم في ظلمة رأس التلميذ، أما الفلق فكان يحرك الدم من قفا القدمين صُعدا في كل الخلايا محوّلاً رأس التبن إلى مصنع للأفكار.

عندما كانت البلاد “تتطوّر” في ظل الشعار الجهور: “لا حياة في هذا البلد إلا للتقدم والاشتراكية”، بقيت رؤوسنا، نحن من كنا نعيش مراهقتنا آنذاك، محشوّة تبناً. لكن أحداً منا ما كان ليشك بالتطور الماثلة آياته في كل مكان.

من تلك الآيات صدور قرار يمنع الضرب في المدارس، استبدل معه المدرسون ثياب القداسة التي كانوا يرفلون فيها بثياب المناضلين من أجل بناء “المجتمع العربي الاشتراكي الموّحد”. تبدلت صفات الواحد منهم من نبي إلى معماريّ يساهم في بناء مجد الوطن، وتبدلت بالتالي طبيعة محاولات الإقناع وتنظيف العقول من الشوائب الرجعية ومن الميول نحو الثقافات المعادية للفكر القومي الاشتراكي بصيغته البعثوية. صار العنف خفياً لا تمكن رؤيته، ألبسوه قفازاً مخملياً، لكن مفاعيله بقيت تدل على وجوده.

 ذات يوم كان أحد بناة الحضارة هؤلاء يحاول إفهام طلابه كيف يسير المجتمع على درب بناء الاشتراكية وأن القصور الفارهة التي تبزغ بين عشية وضحاها في بقع الحراج التي احترقت آخر الصيف ليست سوى الحد الأدنى مما يجب على الوطن تقديمه لأولئك الذين ضحوا بكل ما عندهم كرمى لعين الاشتراكية.

وقف يومها صديقنا صباح الذي كنا نسخر من اسمه ذي الرنّة الأنثوية فنناديه صبّوحة وسأل المعلم: وماذا قدم فلان وفلان؟

لم يغضب المعلّم لكن، في صباح اليوم التالي وكل الصباحات التالية لم يأت صباح إلى المدرسة. عرفنا بعد ذلك أنهم أرسلوه إلى مشغل لتنظيف الرؤوس؟

ومن آيات التطور أيضاً، تغيير السياسة التربوية لتتماشى مع سياسة قولبة الأدمغة حسب مقاسات السلطة الاستبدادية الشمولية، فانتفت من تقنيات التعليم مساحات التفكير النقدي الحر، وطغت آليات التلقين. واختزلت تلاوين التاريخ إلى ثنائيات الأبيض والأسود، التقدمي والرجعي، العربي والعجمي، الوطني والعميل، الإمبريالي والاشتراكي.. وأُزيحت من المناهج مادة التربية الوطنية لتفسح في المجال لمادة “التربية القومية الاشتراكية”.. ودخلت العسكرة إلى المدارس، وأُدرجت عبادة القائد الخالد في قيم التربية التي يجدد الجميع، كل صباح، قسَمَ انضوائهم تحت راياتها.

تطوّرٌ تقدمي استبدل الشُحَّار بالتبن القديم.

حُوِّلَ الشعب قطيعاً، والمواطنون رعايا. وصارت الابتهاجات الشعبية والمسيرات المليونية مناسبات لتصيّد العصِيين على القولبة. ومن هؤلاء جماعات من النخب الثقافية والسياسية.

عندما انطلقت انتفاضة الكرامة والحرية من عامين، كانت تحمل بذور الثورة على العقلية التي ترى في رؤوس المواطنين أكياساً محشوة تبناً أو أوعية تُملأ بالشُحَّار. لكن ما جرى خلال السنتين الماضيتين، بكل ما فيهما من مظاهر عنف، وتعصب، وتطرف، ورفض للآخر، واستعداد للاستزلام، وأنانية مثقفين، وغطرسة سياسيين… تظهر مدى تصلّب البنية الفكرية التي رسّخها النظام ونظم تعليمه البلهاء، وهذا كلّه يحتاج إلى ثورة مواطنية، لا تبدو الثورة المحتدمة اليوم سوى حلقتها الأولى.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى