صفحات الناس

رائحة القهوة في دوما

 

 

من شرفة منزلها المدمر جراء الغارات الجوية والقذائف الوحشية، مازالت أم محمد (62 عاماً) تصر على شرب القهوة مع زوجها صباح كل يوم في نفس المكان، بعد انتقالهما من محافظة حلب إلى دوما قبل ثلاثين عاماً. لتبقى رائحة القهوة الطازجة تفوح في المدينة المنكوبة بريف العاصمة دمشق، وتتغلب على رائحة الدم والموت التي نشرها النظام السوري في المدينة خلال السنوات الماضية، من الحصار والقصف اليومي للمدنيين هناك.

الصورة المؤثرة التقطها مصور وكالة “فرانس برس” في دوما، سمير الدومي، وهو المصور الحاصل العام 2015 على الجائزة الأولى عن فئة “أخبار الساعة” من منظمة “وورلد برس فوتوز” السنوية التي تمنح جوائزها لأفضل الصور الصحافية العالمية وتعتبر أهم جائزة عالمية في هذا المجال، وذلك عن صور التقطها في دوما حينها.

ونشر الدومي الصورة مع مجموعة كبيرة من الصور التي وثق بها قصة أم محمد المؤلمة، التي تقضي وقتها كاملاً بالتفرغ لرعاية زوجها أبي محمد (71 عاماً) وتوفير الرعاية الصحية له بعدما أصيب قبل عام في غارة جوية أدت إلى شلل شبه كامل في أطرفه السفلية،  بالإضافة إلى تأمين جميع المستلزمات المنزلية في هذه الظروف الصعبة.

وأضاف الدومي في تعليقه على الصورة بأنه لى الرغم من كبر سنها تقوم أم محمد بحضور دورات لمحو الأمية للتعلم القراءة والكتابة مع مجموعة من النساء الأخريات في دوما، علماً انها أصيبت برصاصة قناص قبل ثلاثة أعوام عندما كانت تحضر الخبز لحفيدها في الفترة التي اشتد فيها الحصار على الغوطة الشرقية. معتبراً إياها “واحدة من بين آلاف النساء في الغوطة الشرقية اللواتي رفضن الاستسلام لليأس ولظروف الحياة القاسية وواصلن مسيرتهن رغم كل شيء”.

ولا تعكس الصورة كثيراً من الأمل بقدر ما تعكس نوعاً من اليأس الصامت، الآتي من الرضى بلذات صغيرة مسروقة للرومانسية والألفة والدفء وسط العنف المحيط، تعيدها جمعياً ذكريات رائحة القهوة الممتدة عبر الزمن ثلاثين عاماً إلى الوراء، إلى فترة ما قبل الأحلام بوطن حر وديموقراطي والتي لم يبق منها شيء سوى الوحدة التي يعاني منها الزوجان والسوريون عموماً مع انشغال العالم بقضاياه وملله من الحرب السورية التي باتت أمراً مألوفاً لا يثير انتباه أحد في المجتمع الدولي.

وهكذا يحتسي الزوجان  فناجين القهوة في شرفتهما المشرعة على المجهول، ولا ينتظران شيئاً، وربما لا يباليان حتى بأن يدعهما العالم لحظات إضافية كي يكملا قهوتهما إلى نهايتها، رغم المشقة في تأمين القهوة نفسها بسبب الحصار الخانق، فهما بجميع الأحوال لا يعرفان متى سيسقط عليهما طيران النظام قذيفة جديدة تأخذ ما تبقى من منزلهما وأحلامهما، ومن الأفضل أن يشربا قهوتهما من دون التفكير بكل تلك التفاصيل الموجعة التي مرت عليهما أو تنتظرهما حتى انتهاء الفنجانين على الأقل، وكأن فنجان القهوة يصبح وقتاً يريد شارباه أن يطول لأن انتهاءه يعني العودة بالوعي إلى الواقع المشحون باليأس.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى