صفحات الحوار

رائد الاستعراب الإسباني بدرو مونتابيث: الحرية هي الحلّ عربياً

 

 

أحمد عبد اللطيف

ترجم لنزار قباني وأدونيس وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، وكان بينه وبين قباني جلسات طويلة شبه يومية عندما كان نزار مستشاراً بالسفارة السورية بمدريد. يحكي بدرو “تعلمت من نزار أن أحد أسئلة الترجمة أن تجعل النص جمالياً في اللغة الهدف”.

في عام 1957، سيتجه الشاب بدرو مارتينيث مونتابيث (خآين، إسبانيا- 1933) إلى القاهرة، بعدما درس اللغة العربية في الجامعة الإسبانية، ليبدأ طريقه الطويل، منذ ذلك الحين وحتى الآن، كمستعرب ومحب عظيم للثقافة العربية ولغتها وأدبها. وعلى عكس الاستعراب الإسباني السائد حتى تلك الفترة، والمتمركز بالأساس على “دراسة الأندلس”، سيؤسس مونتابيث مدرسة تولي كل اهتمامها لدراسة العالم العربي المعاصر، وهي المدرسة التي تطورت اليوم وصارت صاحبة الإسهام الأكبر في فهم الثقافة العربية ومدّ جسور التواصل مع الضفة الأخرى من البحر المتوسط، كما أنها ستكون المدرسة المهتمة بترجمة الأدب العربي للغة ثيربانتس، والدفاع عن القضية الفلسطينية، ومواجهة دعاوى الإسلاموفوبيا والرد على اليمين المتطرف، والمحامي الرئيسي في الدفاع عن المهاجرين العرب. هذه المدرسة، التي ينتمي إليها مستعربون من طراز لوث جوميث وجونثالو بارييا وفرنثيسكو رودريغيث سيّرا ولويس كانيادا وباربارا أثاؤلا وميلغروس نوين وماريبيل لثارو، من بين أسماء أخرى كثيرة، تعمل على تقديم منجزات الثقافة العربية، سواء من طريق الترجمة، أو المشاركة في مؤتمرات لحوار الثقافات أو عبر تقديم دراسات وكتب أكاديمية يمكن من خلالها فهم تعقيدات التاريخ العربي المعاصر. إنها مدرسة فتح لها الأفق منجز بدرو مارتينيث مونتابيث، الذي أقام في القاهرة منذ 1957 وحتى 1962، ولم ينقطع قط عن أخبار العالم العربي ومتابعة أحداثه، وترجمة الكثير من الكُتّاب العرب مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش وأدونيس ونزار قباني وصلاح عبد الصبور، بل إن ترجماته لبعض هؤلاء الكُتّاب كانت أول تقديم لهم في لغة أوروبية. بالإضافة إلى إنجازه العديد من الكتب التي صارت مرجعًا للباحثين، مثل “الشعر العربي المعاصر” (1958) “شعراء المقاومة الفلسطينية” (1974) “صورة قادش الإسبانية العربية” (1974) “استكشافات في الأدب العربي الجديد” (1977) “مقالات هامشية عن الاستعراب” (1977) “القصيدة فلسطين.. فلسطين في الشعر العربي االحالي” (1980) “مدخل للأدب العربي الحديث” (1985) و”الأدب العربي اليوم” (1990).

في بيته بميدان خاثينتو بينابنتي بمدريد، يعلن لي أنه لم يحب الكلام عن نفسه إطلاقاً، “بل إنني مع الوقت فقدت رغبتي في التذكّر”. سيتجاوز في الحوار صعوبة الكلام عن الماضي، سيستحضر ذكرياته في القاهرة، ويسترجع حال العالم العربي كيف كان وإلى ماذا صار. يقول: “مع الوقت أصبحت أفضّل ألا أتكلم عن العالم العربي، ما يحدث هناك الآن يسبب لي ألماً كبيراً. لقد عرفت العالم العربي في سن صغيرة، وكان ذلك عن طريق مصر”. يعود مونتابيث إلى سنوات الخمسينات والستينات ويقول “بالطبع كانت هناك مشاكل وصعوبات، كانت هناك ديكتاتورية، فالناصرية ديكتاتورية، لكن كان هناك أحلام وآمال. قاهرة الخمسينات والستينات كانت مجتمعاً كريماً يمنح الثقة والراحة، حتى في السياق السياسي، رغم غياب الحرية، كانت هناك مشروعات واضحة وبلد تبحث عن مخرج”. هذا الطموح الذي يتحدث عنه مونتابيث يرى أن له انعكاساته على أدب تلك الفترة: “جيل الأساتذة، طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وآخرين كثيرين، كان الجيل التالي على نفس المستوى، ليس فقط في مصر، بل في كل العالم العربي. شعراء الخمسينات والستينات في رأيي كانوا قمة الشعرية العربية. شعراء مثل بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، نازك الملائكة، أمل دنقل، ونزار قباني. لقد انتجوا شعراً عربياً دون أن يفقدوا هويتهم وتمكنوا من التجديد، وهذا غاية في الأهمية”. يصمت بدرو ويضيف “لكن الطموحات باتت تتضاءل يوماً وراء يوم”.

يُرجع مونتابيث أزمة العالم العربي في الأساس إلى “نقصان الحرية، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضاً على المستوى الثقافي والاجتماعي”، ويتذكر “عندما كنت أعيش بالقاهرة، ورغم وجود صعوبات، إلا أني كنت أشعر بأني حر، كل عائلتي كانت تشعر بالحرية. لقد سافرت لمصر وأنا زوج شاب مع زوجتي، وأنجبت ثلاثة أولاد هناك. كانت زوجتي تشعر بكل الحرية الممكنة، وهو ما اختفى الآن”. يرى المستعرب الإسباني أن غياب الحرية أدى إلى غياب البهجة: “لاحظت ذلك أثناء رحلاتي المستمرة للقاهرة في فترات مختلفة”. ويسألني: “أتعرف الآن لماذا لا أرغب في التحدث عن العالم العربي الآن؟”.

بدايات وطريق

محض صدفة هي التي دفعت بدرو مارتينيث مونتابيث لدراسة اللغة والثقافة العربية. يحكي “السبب كان بسيطًا جداً. عائلتي لم تسمح لي بدراسة الفلسفة ولا العلوم السياسية، حينها سجلت في كلية الفلسفة والآداب، وكان يجب أن أختار بين اليونانية والعربية، فاخترت العربية لأنها جذبتني أكثر، وربما كان السبب أن بداخلي شيئاً نائماً كرجل من منطقة أندلسية (وليس الأندلس، فرغم كونهما مرتبطتين إلا أنهما مختلفان أيضاً).

كانت دراسة الأندلس هي الدراسة المهيمنة على الاستعراب الإسباني، وربما يرجع تاريخ ذلك إلى القرون الوسطى، “هذا طبيعي جدًا” يقول مونتابيث: “فالأندلس جزء من التاريخ الإسباني كما هو جزء من التاريخ العربي الإسلامي. وعندما أقول ذلك لا أحمل أي خطاب سياسي، بل أتحدث من وجهة نظر ثقافية. رغم أن الإسبان لا يتحدثون عادة عن هذا الموضوع”.

تتلمذ بدرو على يد إميليو غارثيا غوميث، أحد أهم المستعربين الإسبان في النصف الأول من القرن العشرين، وتعلم منه، كما تعلم من أساتذة آخرين “أن أحترم نداء اللغة، أحترم نداء الثقافة بعيدًا عن أي شيء”. ومستمعاً للغة والثقافة، اتجه بدرو للعالم العربي المعاصر، فاتجه للقاهرة، وكانت القاهرة بوابته لباقي الدول العربية. في القاهرة تشرّب المستعرب الجديد تفاصيل هذه الثقافة، من جامع ابن طولون الذي صعد حتى مئذنته ولاحظ عناصر زخرفية قرطبية، ومروراً بمقياس النيل الذي أوحى إليه بفكرة العمق والتعمق في الثقافة، ووصولاً إلى مقابر القاهرة التي تسمى “مدينة الموتى والأحياء” والتي زارها مع حماته، محبة أخرى للثقافة العربية، غاص في هذه الثقافة وتعلم مفرداتها.

يقول مونتابيث “رأيت مقابر عليها ألقاب عائلات قديمة مثل الشاطبي، المرسي، الإشبيلي، الطليطلي، الغرناطي، الجياني، والأخير ينتمي لمدينة جيان، أو خآين، التي ولدت فيها، هكذا فتحت لي القاهرة آفاقاً كبيرة على الماضي، على فترة كنا نعيش فيها، العرب والإسبان، معاً”.

خلال إقامته بالقاهرة، تعرف إلى نجيب محفوظ وزاره في مكتبه، “وأجريت معه أول حوار ينشر له بجريدة إسبانية، وترجمت له أول قصة إلى الإسبانية ونشرت في مجلة “الرابطة” التي كانت تصدر باللغتين، العربية والإسبانية، عن المعهد الثقافي الإسباني.

حاول المستعرب الإسباني، الذي لا يزال يقرأ باهتمام الجرائد العربية ويتابع ما يحدث عن قرب، أن يعرف هذا العالم على اتساعه وتنوعه. يقول:”لقد قالوا لنا في البداية أن العالم العربي كله واحد ومتشابه، لكن عندما عشت العالم العربي واكتشف خصوصية كل بلد، وأنا أقول إني مستعرب ولست عالم إسلاميات، وجدت أنه يجب أن أوفق ما بين المكتبة والشارع، النظري والعملي، وأعتقد أن هذا عملي، أن أتكلم مع الجميع، سواء ساسة أو كُتّاب”.

بذلك عرف مونتابيث جمال عبد الناصر وياسر عرفات والقذافي، كما عرف أدونيس وصلاح فضل وجابر عصفور وحسين مؤنس، والكثير من المثقفين العرب. لكنه توقف لثانية وحكى عن لقاء جمعه بعبد الناصر “كان صورة فرعونية مصرية قديمة، ورغم صغر سنه لم أستطع أن أركّب جملة مفيدة أمامه”.

وبعد كل هذه السنين، أكثر من ستين عاماً تقريبا في دراسة الثقافة العربية، يقول مونتابيث: “إن للعالم العربي قوتين: اللغة والثقافة. ورغم ذلك هما أقل الموارد استغلالاً وانتشاراً. والمؤسسات الرسمية لا تستغلهما بأي شكل على الإطلاق”.

أدب وترجمة

يميل بدرو مونتابث، بشكل خاص، للشعر، لذلك فأغلب الأعمال التي ترجمها من العربية كانت شعراً. يقول: “أنا قارئ شعر نهم، أقرأه في كل اللغات التي أعرفها وأقرأه مترجماً، وأنحاز لترجمته”. الشعر والموسيقى أكثر ما يجذب المستعرب الإسباني، ويعتقد أن ثمة علاقة بين الحرف والرنين”.

لكن انحيازه للشعر لم يجعله يبخس حق ناثرين عرب كبار، كانت لهم بصمتهم الواضحة في النثر العربي في القرن العشرين، أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد ومحفوظ. يقول عن توفيق الحكيم “إنه أكبر أسلوبي عربي، ولاحظ أن الأسلوبي يختلف عن الكاتب. لقد كتب بلغة شفافة وعميقة ومتسقة، وهي معجزة لغوية في حد ذاتها”. فيما يشير إلى العقاد بأنه “كاتب عظيم، لكن لا يمكن ترجمته. لقد جعلني أطرح أسئلة كثيرة حول الترجمة، واقتنعت في النهاية أن نقله للغة أخرى سيفقده بهاءه”.

ترجم مونتابيث لنزار قباني وأدونيس وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل. وكان بينه وبين قباني جلسات طويلة شبه يومية عندما كان نزار مستشاراً بالسفارة السورية بمدريد. يحكي بدرو “تعلمت من نزار أن أحد أسئلة الترجمة أن تجعل النص جمالياً في اللغة الهدف. كنت أترجم له أنطولوجيا تجمع قصائد الحب، وكان يراجع الترجمة ويدرس كل بيت، وفي يوم قال لي: أشغل نفسك بشيء واحد: أن تخرج النص كأنه مكتوب بالإسبانية”.

في رأيه، يرى مونتابيث أن أدونيس ليس فقط شاعراً كبيراً، بل أيضاً مفكر كبير، ويستدرك “أقدره جداً، رغم أني أختلف معه في كثير من آرائه وأحكامه حول العالم العربي. أتفق معه في فكرة رئيسية فقط، وهي وجوب فصل الديني عن الدنيوي، إذ أرى أن الدين شأن شخصي، نعم الدين جزء من العالم، وأنا أحترمه رغم أني لست مؤمناً، لكن يجب أن يحدث هذا الفصل، وكما نحترم المتدينين يجب أن يحترمنا المتدينون. لذلك أقول دائماً إننا كما نعقد مؤتمرات لحوار الأديان، يجب أن نعقد مؤتمرات لحوار الأديان مع غير المتدينين”.

حرية المترجم

لم يكتف بدرو مارتينيث مونتابيث بتدريس اللغة والثقافة العربية بالجامعة الإسبانية، من جامعة كومبلوتنسي لجامعة أوتونوما دي مدريد، وبإصدار أبحاث وكتب عن العالم العربي، بل ساهم أيضاً في حركة ترجمة من العربية للإسبانية. يتحدث عن هذه التجربة فيقول “لو تحدثنا عن الترجمة في حد ذاتها، ومن تجربتي الشخصية، لا يمكن أن تترجم ما لا يروقك. وعندما تترجم الشعر لا يمكن أن تفعل ذلك ما لم يحتو النص على موسيقى. قد يكون الشعر مقفى أو غير مقفى، هذا ليس الموضوع، لكن كل نص سواء كان موزوناً أو منثوراً يجب أن يحتوي على موسيقاه. هكذا تجد عند الشعراء القدامي، وحتى عبد الصبور ودرويش وأمل دنقل، موسيقاهم الخاصة، كذلك عند الشعراء الذين جاءوا بعدهم والأجيال الجديدة”، هذه الموسيقى بالقصيدة، يضيف مونتابيث “يجب أن يعيد المترجم إبداعها في اللغة التي يترجم اليها، هذا هو التحدي في ترجمة الشعر. لذلك أعتقد أن أغلب المترجمين تنقصهم الحساسية، يعرفون الترجمة نعم لكنهم لا يعرفون ما الأدب. إنهما أمران مختلفان”.

لا يعتقد مونتابيث أن الترجمة عملية ميكانيكية، ويراها بالأحرى “عملية إبداعية يعيد فيها المترجم إبداع ما أبدعه المؤلف انطلاقاً مما يقوله النص وما يريد أن يقوله النص، هذه مفاتيح”. أثناء ذلك، يواصل مونتابيث، يجب أن يراعي عملية نقل النص من ثقافة إلى ثقافة أخرى، من شعور إلى شعور. يجب أن يدرك أن الزمن عند العربي يختلف عنه عند الغربي، وأن الجمال الجسدي يراه كل منهما بطريقة مختلفة. لذلك يرى مونتابيث ضرورة أن يعيش المترجم في المجتمع الذي يترجم عنه، ليفهم آليات تفاعله.

لم يترجم الأكاديمي البارز إلا الأعمال التي اختارها بنفسه وأحبها، رغم أنه تلقى عروضاً كبيرة لترجمة أعمال رفض كليًة أن يترجمها لأنها لم تعجبه. يقول “من وجهة النظر المالية هذا خطأ، لكنني الآن أكثر هدوءاً وسكينة”. في نفس الوقت يشير إلى ما يحدث في سوق الترجمة ويرفضه: الترجمة بالتكليف أو من أجل الصداقة. يقول: “لتترجم، يجب أن تختار نصوصاً ممثلة حقيقةً لكتابة جيدة، ولن تفعل ذلك ما لم تكن محيطاً بالبانوراما الشاملة لهذا الأدب، على الأقل إحاطة متوسطة، وإلا ستختار أعمالًا أقل قيمة ومعنى حتى لو فازت بجوائز. هنا أتحدث عن حرية المترجم، والمترجم يجب أن يكون حراً ومخلصاً لنفسه، وإلا سيقدم مادة ربما تهم الجمهور لكنها بلا قيمة حقيقية”.

قصيدة النثر

يرى مونتابيث أن الانتشار العربي في إسبانيا قليل جداً، مقارنة بحجم الثقافة العربية وتعدد دولها، ويرجع ذلك لغياب ميكانيزمات تتقاعس عن التفاعل، خاصة فيما يخص الأدب. “رغم أن هناك كتاباً عرباً، مثل جبران خليل جبران، يتصفون بالعبقرية، كذلك هناك ظهور لافت للأدب في الآونة الأخيرة في دول الخليج والسعودية، وهي ظاهرة هامة”. يشير كذلك إلى عبقرية درويش، وإن كان يرى أن الشاعر الفلسطيني كان في ألقه في المرحلة المتوسطة، لا البدايات ولا النهايات”.

وكيف ترى قصيدة النثر العربية؟ يجيب بدرو مارتينيث بأنها تتمتع بشعريتها الخاصة، وأنه ليس ضدها أبداً، ويضيف “لا أعرف في الحقيقة ما سبب النقاش الطويل حولها في العالم العربي. إذا كانت قصيدة النثر جيدة فهي قصيدة نثر جيدة، وإن لم تكن جيدة فلا هي قصيدة ولا هي نثر”.

يتابع مونتابيث قصيدة النثر من محمد الماغوط ومرورًا بأمجد ناصر وأحمد يماني. يقول عن أمجد “التقيت به منذ ربع قرن في غرناطة، وأعتقد أنه صاحب عمل أدبي متميز، وأتابع أيضاً كتاباته النثرية”.

ويعلّق على شعر من سماهم بالأجيال العربية الجديدة بأن “نصوصهم تحتوي على ميزة ومخاطرة”. ويفصل “نصوص تتكئ على استخدام الرمز أكثر من اللازم، ربما يفعلون ذلك للخروج عن واقعية أجيال سابقة. هنا تأتي الخطورة، أن يكون الشعر غير مفهوم” ويضيف: “الشعر يجب أن يفهم، ولا يمكن أن يبقى متداولًا بين نخبة قليلة وضيقة، وإلا فلن يؤدي وظيفته. بذلك يجب أن تتشابه القصيدة مع النثر. انظر مثلا، مع اختلاف المثال، إلى أعمال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف. لقد استطاع كل منهما أن يقدم نثراً فنياً، ومفهوماً واجتماعياً في نفس الوقت. الأزمة تبدأ عندما يكتب الشعراء نصوصاً غير مفهومة، فإن كانت غير مفهومة ستكون بالضرورة غير قابلة للترجمة”.

يلتفت بدرو أيضاً لعلو السرد على الشعر في العقود الأخيرة في العالم العربي، ولا يرى في ذلك أي سوء، غير أنه مشغول بالجوائز الأدبية. يقول “أخشى أن تؤدي لزيادة في الكم على حساب الكيف والجودة”، ويضيف: “الكاتب يجب أن يكون حراً فيما يقوله، هذا هو المحك، وفي العالم العربي يواجه الكاتب رقابة داخلية وأخرى خارجية. لاحظ أن أكثر الكتاب حرية يعيشون خارج العالم العربي حتى يتجنبوا هذه الضغوط، حتى الجرائد الأكثر جرأة تصدر خارجه”.

نقص الحرية أحد أكثر العناصر التي تلفت مونتابيث في العالم العربي الآن، ليس فقط لأسباب سياسية، بل لأسباب ثقافية أيضاً. “العالم العربي في حاجة لدمقرطة اجتماعية وثقافية”.

الحرب السورية والهوية

ينتقد بدرو مارتينيث الغرب بشدة، إذ يقول “قد يبدو الغرب مدافعاً عن ديمقراطية عربية، غير أنه في الحقيقة لا يتعاون من أجل إيجاد هذه الديمقراطية، وأكبر دليل على ذلك الحرب السورية”، يضيف “بالتأكيد هنا خلل داخلي، لكن بالتأكيد أيضًا العالم العربي مخترق من الداخل، وانظر إلى خطورة تدخل روسيا في سورية”. يكرر مونتابيث “العالم العربي مخترق من الخارج بشكل كبير، وهذه ظاهرة لا ينبغي أن تمر”.

لكن بالإضافة إلى تدخل الغرب، يضع بدرو يده على أزمة أخرى في الكيان العربي “العرب مصابون بأزمة هوية. إذا سألت مائة شخص عن هويته لن يتفقوا على أنهم عرب، بل سيقولون إنهم مسلمون قبل أن يقولوا إنهم عرب. لقد تناولت هذه الأزمة في محاضرة ألقيتها قريبًا بعنوان “إسلامية وعروبية وقومية” islamidad, arabidad y nacionalismos

فضلًا عن هذه الأزمة، يعتقد مونتابيث أن ثمة قضية أخرى، هي قضية الراديكالية الدينية. “يجب فصل الدين عن الدولة، وتأسيس دولة مدنية. بالتأكيد لن يصل العرب إلى الديمقراطية بسهولة، هذا منطقي. لكن يجب البدء في فصل الديني عن الدين، ليبقى الدين شأناً شخصياً دون أن يتدخل في شؤون الدولة. لاحظ أن الغرب لم يحصل على الديمقراطية في غمضة عين، بل خاض حروباً كبيرة من أجلها. لذلك، فالتجربة تقول إن الدولة كسلطة سياسية لا ينبغي أن يعركها مفاهيم دينية”.

الاستشراق

تلقف المستعربون الإسبان كتاب “الاستشراق” للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بترحيب كبير، غير أنهم عابوا على سعيد أنه وضع الاستشراق كله في سلة واحدة، وتجاهل تاريخاً طويلاً من الاستشراق الإسباني والروسي. يرى مونتابيث أن سعيد “انطلق من مصادر فرنسية وإنكليزية، وهي المصادر التي يعرفها، ولا لوم في ذلك”، يضيف “كتاب الاستشراق كتاب غاية في الأهمية، حتى أنه صار هناك ما قبل وما بعد هذا الكتاب”. يتفق مع سعيد في أن الشرق مجرد صورة أنتجها الغرب من مخيلته، وسعيد كرجل بعقل غربي وجذور شرقية وصل إلى لب المشكلة وانتقدها.

مع ذلك، يشير مونتابيث لما كان ينقص الكتاب كبحث، “أنه لم يلتفت للاستشراق العلمي على خطورته وآثاره السلبية، إذ كان هذا الاستشراق أحد الأسباب الداعمة للكولونيالية، ولاحظ أن حملة نابليون على مصر كان قوامها علماء”. ويضيف “أهمية كتاب سعيد، بالإضافة، تكمن في إدانة اختراق الدول الاستعمارية للعالم العربي. العالم لا يصح أن يكون أبيض وأسود، وطريق التعايش الوحيد هو البحث عن طرق للتواصل والتفاهم، حتى لو تغيرت الآليات سيبقى الجوهر واحدًا”.

دور المثقف العربي

يختم بدرو مارتينيث مونتابيث هذا الحوار بقوله “إن دور المثقف العربي الآن أن يكون حراً، حراً من نفسه ومن السلطة، وعليه أن يدين كل الراديكاليات. وأهم من ذلك أن يتخلى عن أنانيته ويدين الإيغو الخاص به”.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى