صفحات الثقافة

رباعيات/ أحمد ديبو

 

 

إن كنتَ حرَّاً…

هذا الحياد صار جيفة تلبسها

حتى مرآتك كشفت قضبان سجنك

إن كنت حرَّاً، أهتدي إليكَ بكَ.

 

الرصاصة التي يغار من نعومتها الزجاج

الرصاصة التي تكمن للعشاق

الرصاصة التي لا يُسمع لهاثها وهي تعدو كالسهم

الرصاصة اخترقت كلمة حريَّة فشطرتها من القلب.

 

بين أحياء حمص القديمة

الأَعمار المقصوفة والمتربة

تمشي على مهل مبتعدة

وعيونها مشدودة إلى الجثث المكوَّمة التي غادرتها هناك.

 

شيءٌ يصرخ تحت ثقل الجبال

إنها حلب بثوبها الأسود السميك

لم تزل كالقمر مأخوذة إلى الرقصة نفسها

عيوننا تلاحق أسواقها وحاراتها القديمة لتحصي أنينها تحت القصف.

 

ألا يحمرُّ وجه القذيفة خجلاً

وهي تضرب بفأسها

سوق المدينة…

لا شيء سيمحو الصرخة والأنين واسم المجرم عن جبين الضحيَّة.

 

في حلب القديمة،

تستطيع أن تداعب صوت امرأة جميلة تسير خلفك

تستطيع أن تنسى صوتك في سوق الخَجا وأنتَ تهرب من قذيفة

ثم تعود في اليوم التالي لتجده يناديكَ وقربه صرخة أنثى بملامح مسيحية.

 

تكسَّر دم حمص العديّة في قلبها

سميراميس وجوليا دمنة وكركلا كانوا شركاء في التضميد

الحمام الأبيض الذي ربَّى سميراميس تكفَّل تربية أطفالها اليتامى

والرياح البالغة اعتنت بصوتها المهشَّم حتى طاب لقصبها الرنين.

 

أن تجلس بين الأشلاء والردوم حتى تنمو على أطرافك الطحالب

وأن يجلس قربكَ برميل لم ينفجر مخدته ترابك المقفر

لا موسيقى ولا مطر ولا عطر أنثى يسند أحلامك

لا شيء سوى جيش الصبر الذي تدرّبه وتسلحه وتناور به.

بعد ثلاثة حواجز وقذيفة

خلاء الصرخة صار فسيحاً

والقلب لا يزال على صخوره يرعى الثأر

الثأر الذي برته ريح العسف حتى صار قذيفة.

 

منذ خمسين عاماً

وخطواتنا معصوبة العيون

القبَّرات باضت فيها وفرَّخت مئات المرّات

لقد هرمنا ونحن نهتف لصورة قاتلنا وسارقنا على وقع السياط.

 

كانت رصاصة غادرة…

وكانت عارية عندما اخترقت جسده الصغير

أنيابها هتكت قلب الطفل الأخضر وفطرته

أيدٍ مرتجفة سحبت طرف الموت الأخضر إلى مكان آمن.

 

بقذائف “الآر بي جي” حرثوا الأرض

ونثروا الرصاص والقذائف بذاراً

وعلى النوافذ والأبواب والدوالي وحقدهم

علّقوا بنادقهم وحبال الرصاص أثناء استراحتهم من القتل.

 

لم تزل أصوات التعذيب تتقافز على جسد حمزة الخطيب المسجَّى

أصواتٌ راحت تنفذ من حياكتها الأمنيَّة

وتنزّ من أكياسها المختومة بالشمع الأحمر بعيداً عن الكاميرات

عيناه الشبيهتان بشعبه الذي يحلم ما أحوجنا إليهما الآن.

الحولة جثت على ركبتيها تحصي مجزرتها

أصابعها تنتقل بجنون من طفل إلى طفلة

أصابعها تتشمّم رائحة طفولتهم المذبوحة

وبعينيها المذعورتين صور من جاؤوا ليشبعوا ساديتهم في القتل.

 

تلفزيون رسمي:

برامج وأخبار معدَّة للقِرَدَة

حوارات مع فنانين وكتَّاب وسياسيين قِرَدَة

كلُّ ذلك من أجل تبرير وجود القرد الأكبر.

 

الذقون صارت دكاكين مفتوحة

ذقنٌ تفتي لجلاّد مأجور

وذقنٌ تفتي للذبح والرجم ولهدم التراث الإنساني

ذقونٌ تذكّر بذقون آتية من صدر الإسلام.

 

كانت السماء زرقاء تلمع

عند خروج نعشين من الجامع

فجأة بدأ إطلاق رصاص كثيف

فطمروا اسمي بقاذفات الرصاص وبقصاصات زرقاء تلمع.

 

القذيفة التي ثقبت ضحكتكِ العالية

وانفجرت في المبنى المجاور

وميضها شهد على وميض تلك الكلمة التي صرختِ بها

كلمة حبٍّ ملأتْ كوني ضياءً قبل أن تمزقكِ قذيفة ثانية.

كنَّا نقلب على ظهورنا من الضحك

ونحن نسخر من الرقبة الطويلة والأذنين واللثغة والضحكة الهبلاء

جاء رجال الأمن بسياراتهم فهربنا

فاعتقلوا الضحك وجواره وأقرباءه ومن تعاطف معه.

 

المدرّعات سارت أرتالاً صوب درعا

فصار قلبي كقلق معلّق في الريح

بعد أسابيع عادت تهزُّ أردافها كالسلاحف…

عادت مكلّلة بالعار وبقلوب ذهبية وفضية كانت متوهّجة هناك.

 

قيّدوا كلامها بالسلاسل واقتادوه إلى أقبية التحقيق

بعد أشهر من التعذيب

جاؤوا وسلّموا الجثث الى صاحبته

هذا الصيف احتاج لجهد لكي يكون صيفاً يليق بكلامها.

 

بحذر تهبط تظاهرة صغيرة من أعلى الشارع الضيّق

وفوقها مستطيل من السماء محشوّ بالهتاف

امرأة من ورود حمراء وبيضاء وبنفسجيّة تتقدّم الجميع

سقطت مضرَّجة بدمائها الحمراء والبيضاء والبنفسجيّة.

 

يداه مسبلتان وقدماه ثابتتان كجندي “كاميكاز”

لبسَ إيلان جسد الموت وسبح فيه ولم يزل

وجههُ بيديّ الرب وقدماه على العالم

تماماً كما يجب أن تكون الصرخة.

 

وضعت يدي حتى الكتف في حلق نظرتك أيها المستبد

باحثاً عن نافذة رأفة أو نأمة ندم لما صنعته يداك بهذا الشعب

فلم أجد سوى رمالٍ تتلوّى فيها السياط، وترقص على لدغ البراميل المتفجّرة

رمال حمراء تندلق من عينك الوحيدة كتنور.

 

السيدة الأعجوبة التي مدَّت ضفيرتها على رمال البادية منذ الأزل

دعيت تدمر أو بالميرا تبرُّجاً وملكتها زنوبيا الممتلئة بالعشق

من ذا الذي كان يجرؤ على فك الضفيرة وقائدا جيوشها زبداي وأُذينة

ها هي اليوم بين أيدينا المسبلة ذبيحةٌ كاملة تطفو على سرّ.

 

من جديد دمشق وبغداد

تتساقط أشلاؤهما ساخنة على الدروب

ها هما كومة أشلاء في صحن ترك للسابلة

والأفق شيخٌ خرفٌ يسير في طرق هائمة.

 

قبل وصولهم الحاجز

سوّوا كلماتهم

وطهّروا أثوابها من رائحة الحريّة

لكن لفصاحتهم أوثقوهم وأضرموا فيهم الرصاص على الملأ.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى