رستم محمودصفحات سورية

ربيع صِغار «المنتصرين» السوريين/ رستم محمود

 

 

كأن موسم تسويات المسألة السورية، الذي انطلق مع «الاستدعاء» الروسي لبشار الأسد ومن ثم لقاء فيينا الرُباعي، أقر بمعنى ما التسليم بواقع «توازن» القوى العسكرية وهيمنتها على مناطق سيطرتها في البيئات المحلية والجهوية السورية. وكأن ذلك بات أمراً واقعاً مُسلماً به، وهذه القوى كأنها «انتصرت» نسبياً في مناطقها، وبات صعباً زحزحتها عنها، وكل مجهود عسكري مستقبلي قد يغير نسبياً طبيعة هذه «الانتصارات» المناطقية.

وبالتالي فهذا العامل سيؤدي منطقاً الى أن تتصرف هذه القوى العسكرية المحلية، راهناً ومستقبلاً، مع تلك البيئات الأهلية بـ «روحية المنتصر».

فشيئاً فشيئاً لم يعُد سياسيو وعسكريو حزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي والإدارة الذاتية الكُردية يبالون بالانتقادات التي توجه الى ممارساتهم الأمنية وسلوكياتهم السياسية وأفعالهم العسكرية. باتوا بكل ثقة ومباشرة يهيمنون على كل المجال العام في مناطق سيطرتهم، ويفرضون أيديولوجيتهم السياسية والاجتماعية على المناهج التربوية في مدارسها، ويُعنّفون من يرغبون من خصومهم السياسيين، ويستحوذون على كل المؤسسات الاقتصادية والبيروقراطية، ويُظهرون، من دون وجل، امتيازاتهم وتفوقهم وتخوينهم لخصومهم ونعتهم بـ «الفاشلين» و «الحاقدين» و «العديمي الجدوى».

كيف لا يفعلون ذلك، وهم مطمئنون لتوازن قوتهم العسكرية مع أعدائهم المفترضين، وواثقون من ارتباطاتهم بحِلف سياسي/عسكري مُمتد من إيران إلى الولايات المتحدة، مروراً بالنظام السوري والأحزاب الكُردستانية الكُبرى، ممن أرسلوا وفوداً من عشرات الشخصيات السياسية إلى مؤتمر حزب الاتحاد الديموقراطي الأخير.

كل تلك المداخل من علامات انتصارهم! وهم لا يبالون ببعض التفاصيل غير المُهمة، كقضائهم على الحياة السياسية والمدنية في تلك المناطق، وإعادتهم لنمط الهيمنة البعثية الإيديولوجية/الأمنية على الحياة العامة، وإن بثوبها القومي الكُردي، وتسببهم بهجرة مئات الآلاف من الأكراد السوريين، من المتعلمين المُنتمين للطبقة الوسطى، وانتهاكاتهم المتكررة لحقوق الإنسان في أكثر من قطاع وشكل، أي مجموع تلك القضايا التي كانت أساس مشاركة الأكراد في الثورة، وفي كل الحِراك الديموقراطي السوري منذ عقود كثيرة.

وكما هذا الحزب والإدارة الكُردية، يعيش النظام السوري أكثر لحظاته نشوة، فرِحاً بالاندفاعة الروسية الأخيرة، شامتاً بكل الذين طالبوه باجتراح تسوية ما، حقناً للدماء والخسائر، خصوصاً من مناصريه المُعلنين أو «أشباه مناصريه»، وغير مُبال بهزائمه الموضوعية التي لا تُحصى، إذ ثُلثا مساحة البلاد خارجه وهناك مئات آلاف الضحايا، قُرابة نصفهم من مناصريه، والاختراقات لا تُعد للسيادة الوطنية السورية وهي من كل حدب ودولة، وهناك ملايين المُهجرين إلى كل أصقاع الأرض، وتدمير كامل لكافة أشكال الحياة والوئام الوطني. فالمهم بالنسبة للنظام سيطرته المطلقة على البيئة الاجتماعية التي تقع في حُكم سلطته العسكرية، وعدم انصياعه لأية حلول وسطى قد تُقلل، ولو في شكل نسبي، من تلك الهيمنة.

وبالمنطق نفسه، تُسيطر القوى الإسلامية المتفاوتة الراديكالية في مختلف مناطق البلاد التي تحكمها. «داعش» القروسطي وفظائعه في صحارى وشرق البلاد، من دون حسيب او رقيب. النُصرة وجيش الإسلام وميولهما الدائمة لفرض أنماط من الثيوقراطية الاجتماعية والعسكرية على الحياة العامة، حيث ليس لهما من همّ غير القضاء على أية بذرة للحياة وعلى الناشطين المدنيين، موسعين قدر المستطاع هيمنتهما المطلقة على المناطق التي باتت تُحسب قطاعات خاصة بهم ولهم. وليس أقل منهما جيش الفتح وحركة أحرار الشام، السعيدان بتداول شخصيات مختلفة على زعامتهما، غير مبالين جميعاً بتطابقها في الجوهر والسلوك.

يحدث ذلك فيما تشهد الجبهات السورية مواجهات عسكرية بين «الأعداء» المختلفين، وجرائم النظام السوري عبر الطيران بحق البيئات الاجتماعية المُعارضة له، وعلميات كر وفر بين «داعش» وخصومه من الميليشيات الكُردية أو الإسلامية المعارضة. وهذه المنازعات المديدة سمحت لهؤلاء «الأقوياء» بالالتفات الى خصومهم الداخليين/المحليين، متخلين في شكل ما عن مشاريعهم التي كانوا يحملونها لسورية كُلها، ومرتضين بإحراز بعضٍ منها على المستويات المحلية الأصغر.

العامل الآخر المساهم بذلك هو حجم الفظاعات التي يُمارسها كل طرف بحق الحواضن الاجتماعية للخصوم، وما من شيء يدفع المجتمعات المحلية المعارضة الى الصمت والقبول بممارسات القوى العسكرية الإسلامية الراديكالية مثل جرائم نظام الأسد بحقها. كذلك هناك بربرية وفظاعة «داعش» والقوى الإسلامية وخطابها العُنصري بحق الكُرد السوريين، بما يدفع الكُرد للقبول والتنازل لحزب الاتحاد الديموقراطي وممارساته بحقهم. وهو ذات ما يدفع مناصري الأسد للالتحاق به، وقبولهم بشروطه الرعناء عليهم.

لكن الأس الأولي لكل ذلك هو هيمنة منطق «افعل ما شئت» الذي كرسته إدارة أوباما وطريقة تعاملها مع إيران والنظام السوري في كل المسألة السورية، والتي حرضت وأغرت جميع التكوينات السُلطوية الأكثر محلية بفعل ما تراه مناسباً بحق مجتمعاتها، بغض النظر عن تطابق ذلك من اية منظومة أخلاقية أو معيار لحقوق الإنسان.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى