صفحات الثقافة

رثاء “ملحق النهار”/ الياس خوري

 

 

 

قد يفاجأ القارئ حين يعرف أن الصحافيين اللبنانيين لا يملكون نقابة حقيقية، وأن النقابة مقسومة إلى فرعين: نقابة للأسياد اسمها نقابة الصحافة ونقابة للعمال اسمها نقابة المحررين. وأن نقابة العمال هي مجرد تابع لا حول له لنقابة الأسياد، إلى درجة أن الصحافيين لا يملكون الحد الأدنى من الضمانات، وينتهون بلا مرتب تقاعدي، ويمكن صرفهم من العمل في أي لحظة من دون اعتراض.

هذه الصورة تناقض الافتراض بأن الصحافة اللبنانية هي منارة الصحافة في المشرق العربي، صحافة بيروت كبرت في الستينيات والسبعينيات لتحتل مكان الصحافة المصرية في زمن التأميم. صحافيون تتلمذوا في مصر كجبران تويني الجد وسعيد فريحة وسليم اللوزي احدثوا ثورة جديدة في العمل الصحافي العربي، غير أن الطابع الفردي والحرفي بقي غالبا. كان يكفي أن يموت المؤسس حتى تندثر صحيفته. والاستثناء الوحيد صنعه غسان تويني الذي لم يكتف بوراثة أبيه، بل صار علامة كبرى في الصحافة العربية، بروحه التحديثية ونَفَسه الليبرالي وقدرته على بناء صرح صحافي احتلت فيه الثقافة موقعاً متميزاً.

لحظة تألق الصحافة اللبنانية كانت في جوهرها لحظة تحول بيروت إلى بديل ووسيط على المستويين الاقتصادي والثقافي. لكن هذه اللحظة سرعان ما اصطدمت بحقيقة النظام اللبناني الهشة، التي جعلت من الوطن الصغير ساحة للصراعات العربية، وقادت في النهاية إلى انفجاره.

لعل «نهار» غسان تويني هي من ابتدع الصفحة الثقافية في الصحافة العربية. ومع أنسي الحاج تحوّل «الملحق» الذي صدر للمرة الأولى عام 1964، إلى منبر ثقافي يوازي ويتقاطع مع مجلات كبرى كـ «شعر» و»حوار» و»مواقف».

لا نستطيع فصل المدى الثقافي البيروتي في الخمسينيات والستينيات عن الحرب الباردة، ولعل مأساة توفيق صايغ وهو يكتشف أن مجلته «حوار» كانت ممولة من الاستخبارات المركزية الأمريكية، تشير إلى اختلاط عجيب بين تلك الحرب واشكاليات الحداثة العربية. فالحداثة كما رست صيغتها في بيروت انقسمت إلى ثلاثة اقسام: حداثة ليبرالية في مجلة «شعر» وحداثة قومية في مجلة «الآداب» وحداثة ماركسية في مجلتي «الطريق» و»الثقافة الوطنية». ولم يكن مستغرباً ان يقفز السياب من «الآداب» إلى «شعر» أو أن يغادر ادونيس «شعر» إلى «الآداب» قبل أن يبدأ مجلة «مواقف». فالأمور اختلطت. تلامذة انطون سعادة اجتذبهم فيلسوف التأمرك شارل مالك، والشيوعيون انتهوا في احضان الناصرية والى آخره…

نما «ملحق النهار» في مرحلته الأولى على ضفاف هذه الإشكالية التحديثية، ولعب دورا محفزا امتد من الأدب إلى الفن التشكيلي والمسرح، لكنه أقفل عام 1974 في ذروة أزمة الاعلانات التي عانتها «النهار» بسبب صراعها مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية.

خلال أعوام الحرب الطويلة كمنت «النهار» وكمن دورها الثقافي لمصلحة منبر جديد تأسس في «السفير» وجمع مثقفي اليسار الذين احتلوا الصدارة، قبل أن يتشرذموا بفعل الشرذمة الهائلة التي صنعتها أسئلة الحرب.

في كانون الثاني/يناير 1992 عاد «الملحق» إلى الصدور، واستمرت ادارتي له حتى نهاية عام 2008، حين تلقيت رسالة طرد من ادارة «النهار» التي صارت في عهدة الحفيدة. وقد تزامنت عودة «الملحق» مع إعادة افتتاح «مسرح بيروت»، ومع مناخ الاعتراض الثقافي على الهيمنة السورية على لبنان وعلى التحالف بين الأمن المهيمن ورأس المال المنفلت من عقاله.

عرض غسان تويني لي بالعمل في «النهار» كان مفاجأة كبرى، كيف يمكن لمنبر ليبرالي ان يحتمل لغة اليسار والمقاومة الفلسطينية التي جئت منهما؟ وكيف لي أن أتعامل مع وسط ثقافي «نهاروي» لا يستسيغ التجربة الثقافية والأدبية التي انتميت إليها ولا أزال؟

كانت عبقرية غسان تويني تكمن في قدرته على التقاط النبض الثقافي الجديد. والحق يُقال ان تجربة السنوات الثماني الأولى كانت مثالية. كنت مع رفاقي محمد سويد وبسام حجار ثم بلال خبيز وعقل العويط نتمتع بحرية مطلقة. جسم «النهار» التقليدي، بصفحته الثقافية التي كان يديرها شوقي ابي شقرا، وبمكانة أنسي الحاج الكبرى، لم يكن يستسيغ ما نقوم به. كنا في عزلة كبرى داخل الصحيفة، لكن هذا لم يؤثر على قدرة «الملحق» على التحوّل إلى المنبر الثقافي الأبرز في لبنان، حيث كتبت فيه جميع الأقلام اللبنانية اللامعة من أجيال مختلفة، وتحوّل إلى منبر للجديد في الأدب والمسرح وفنون العرض والفن التشكيلي، لكن الأهم من كل ذلك هو أنه تحول إلى منبر متعدد للنضال الديموقراطي في لبنان وسورية، وإلى اطار يحتضن قضية فلسطين. من ادوارد سعيد وعباس بيضون إلى أنسية الأمين، ومن محمد علي الأتاسي وياسين الحاج صالح إلى رياض الترك وفرج بيرقدار…ومن روجيه عساف وريمون جبارة وربيع مروة إلى أمين الباشا ومحمود الزيباوي وسعد حاجو ويوسف عبدلكي، ومن منى فياض وربيع جابر إلى يوسف بزي ووليد صادق وطوني شكر ويحيى جابر…

أصيبت هذه التجربة بانتكاسة كبرى حين تسلم المرحوم جبران تويني مسؤوليات الجريدة بعد قرار والده التقاعد. غير أن الدور الذي لعبه الشاعر عقل العويط والتدخل المتواصل من قبل غسان تويني منعا انهيار التجربة.

لكن المناخ بدأ يتغير، وخصوصا بعد استشهاد سمير قصير الذي كسر ظهورنا، ومن ثم استشهاد جبران تويني الذي كان يعني أن الضربة التي وجهت إلى «النهار»، كانت شبه قاضية.

انتفاضة الاستقلال وبعدها انتصار حرب تموز لم يشكلا سوى اطار لتجدد الحرب الأهلية. انطوت المرحلة ولم يعد الاستمرار ممكناً، وبدت اليقظة القصيرة التي عاشتها بيروت، بعد النهاية الرسمية للحرب، وكأنها يقظة موت.

في مرحلة الحضيض هذه انهارت الصحافة اللبنانية بشكل مرعب، هبط توزيع الصحف إلى أرقام مخيفة، وجرى ابتلاع الأشكال الثقافية والفنية في أطر العولمة والدعم المالي الخارجي، وبدا وكأن بيروت غادرت بيروت.

وسط هذه الصحراء القاحلة، أصرّ الشاعر عقل العويط على متابعة تجربة «الملحق» منفرداً. حمل على كتفيه أعباء زمن البدايتين فمزجهما وتابع مسيرته كأنه لا يعمل في صحافة تتلاشى وتنهار، حافظ على روح المغامرة الثقافية وعلى الموقف الأخلاقي الناصع، وأضطر كي يستمر «الملحق» في الصدور إلى البحث عن مصدر تمويلي من خارج مؤسسة «النهار» فوجده عبر أشخاص لا يزالون يؤمنون بالثقافة، فاستمر «الملحق» وكأنه ابن نفسه مدة سبع سنوات بادارة هذا الشاعر الذي لا يتعب من مقارعة طواحين الهواء.

السبت 19 كانون الأول /ديسمبر 2015، أسدل عقل العويط الستار على التجربة، رفض تقزيم «الملحق» مثلما اقُترح عليه، وأطلق رصاصة الرحمة على الجواد الذي أنهكه عبور الصحراء.

تجربة انتهت اليوم، لكنها ستبقى جزءًا أساسياً من حكاية مقاومة الثقافة اللبنانية للطائفية والاستبداد والقمع.

تحية إلى عقل العويط.

الياس خوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى