حسين العوداتصفحات مميزة

رجال الدولة السوريون/ حسين العودات

 

كشفت الأزمة السورية فقر البلاد تقريباً من رجال دولة جدد، أو على الأقل فقر السلطة والمعارضة من هؤلاء الرجال، فالملاحظ أن معظم القادة من الطرفين لم يستطيعوا الإحاطة بالأزمة السورية وأبعادها وتطوراتها ونتائجها، بهدف الوصول إلى مقاربة تسوية أو حل لها، وبقيت الأزمة وظروفها والبلاد وشؤونها وما حل ويحل بها ومآسيها ومآسي شعبها بعيدة عن رؤية معظم القادة في الطرفين أو حتى عن تشكيل هاجس أو قلق عميق لهم. وغابت أولوياتها أمام انشغال الجميع بالصغيرات والثأر من جهة، والامتيازات والمصالح الشخصية والمشاغل اليومية من جهة أخرى، وبالتالي فقدوا مفاتيح الأزمة ولم بستطيعوا الدخول إليها. ويبدو أنه يتساوى بهذا أعضاء القيادات وأصحاب النفوذ، والمختصون وغير المختصين، والأكاديميون وقليلو الخبرة السياسية من نخب الطرفين. ولعل السمة العامة لأكثريتهم هي نقص الخبرة وقصر النظر وسوء الرؤيا وغياب الخيال السياسي، والاهتمام بالثانوي على حساب الرئيسي، حتى غدت سوريا، التي كانت منذ بدء عصر النهضة تنتج المثقفين ورجال الدولة والنهضويين من ذوي الرؤى البعيدة بالعشرات والمئات، وكأنها الآن تنتج قادة من غير ذوي الكفاءة، الذين يفرحون بالانتصارات الصغيرة وينسون المصائب الكبيرة، ولا يرون أبعد من أنوفهم وذواتهم.

خلال خمسين عاماً من الحكم الشمولي، برز على السطح جيلان من القادة، تبين خلال الأزمة أنهما جيلان خائبان، بعيدان عن رؤى رجال الدولة وتوازنهم، حيث يهتم معظمهم بالشؤون الذاتية قبل اهتمامهم بالشأن العام، ويعتبر معظمهم نفسه محور الكون، يتحرك في دائرة ذاتية مغلقة، ويأتي الهم العام والقضايا الوطنية في ترتيب لاحق لمصالحه الشخصية. لا يقلقه الشأن العام بقدر ما يقلقه الهم الخاص. يبحث عن تأمين امتيازاته قبل أن يأخذ حاجات الوطن والشعب بعين الاعتبار. يخاف من اليوم ومن الغد لأنه غير واثق لا بهذا ولا بذاك. تؤثر في قراره المشاعر والرغبات أكثر مما تؤثر فيه المحاكمة العقلية. وإذا أضفنا هذا للجهل ونقص التجربة والشخصانية، ندرك الهوة التي سقطت فيها معظم الشخصيات القيادية.

إن هذه المقاربة القاسية لمفاهيم ومواقف معظم القادة في السلطة والمعارضة، لم تُخلق مع الناس ولا نزلت من كوكب آخر وأوجدت قادة سوريين بهذه المواصفات، إنما هي نتيجة طبيعية لظروف مرت بسوريا، وشروط فرضتها ممارسات النظام الشمولي خلال عشرات السنين، ما نتج عنه خواء المجتمع السوري من رجال الدولة والقادة بعيدي النظر القادرين على تفكيك أكبر الأزمات، وحل المعضلات الوطنية دون أن يستسلموا لأي إغراء، صغيراً كان أم كبيراً، بعكس ما نلاحظه اليوم من سهولة «إقناعهم»، سواء بوجهة نظر واسعة الطيف، أم بإغراء شخصي أو مالي، ويزعمون غالباً أن موقفهم أفضل للمصلحة الوطنية، أو ربما يرى بعضهم أن المصلحة الوطنية تقع تحت عباءة مصالحه الذاتية، مادية كانت أم معنوية أم سلطة وجاهاً.

إن ألف باء المواطنة في الدولة الحديثة يتطلب تحقيق أمرين على التوازي وبأوسع المعاني وهما: المساواة والمشاركة. أي المساواة بالحقوق والواجبات والمشاركة في بناء الدولة وتحقيق تطور المجتمع وتنميته، وهذان الأمران لا يتحققان لا كلياً ولا جزئياً في الأنظمة الشمولية، وخصوصاً في تلك التي حكمت سوريا خلال سنين طويلة، والتي كانت دائماً ترفض المساواة بين المواطنين واقعياً، حيث اعتبرت أن حكم الحزب الواحد هو حكم أعضاء هذا الحزب كأفراد، وأن لهم الأولوية في كل شيء سواء بوظائف الدولة أم بتولي قيادة إدارتها، أم حتى بقيادة مؤسسات المجتمع المدني والاستئثار بالامتيازات، ونحوا جانباً أبناء المجتمع النشطاء. كما أنهم، وللسبب نفسه، رفضوا مشاركة الناس في بناء الدولة وإدارتها أو قيادة المجتمع وتطويره، وقد نتج عن فقدان هذين الأمرين (المساواة والمشاركة) غياب تكافؤ الفرص وما تبعه من نمو ظاهرة التدليس وعدم احترام المهارات والكفاءات، إن لم تترافق مع شروط أخرى. وفي الحالات كلها، لم يعتبروا حكم الحزب أنه يعني تنفيذ برنامج الحزب وأهدافه، بل اعتبروه، بدلاً من ذلك، حكمهم هم كأفراد.

اضطر السوريون (متعلمون ونخب ثقافية واقتصادية واجتماعية)، لكي يعوضوا فقدان المساواة وإهمال الكفاءات، إلى التدليس والنفاق والابتعاد عن نقد الأخطاء صغيرة كانت أم كبيرة، وأحياناً السكوت عنها بل إظهار استحسانهم لممارسات من أخطأوا، كي يرضى عنهم أولئك الذين استحوذوا على المناصب والمكاسب، وأعطوا لأنفسهم مهمات وصلاحيات أكبر منهم، وأصبح لهم درجة على الناس الآخرين، وانتفخت أوداج بعضهم، فلم يكتفوا بالسطو على المساواة بل أخذوا يستفيدون من الخلل بها ليميزوا أنفسهم، ويستعرضوا شخصياتهم وأعمالهم، برغم أنها متواضعة أو فاشلة. وأصيب الناس بصدمتين معاً: الأولى هي فقدان المساواة والثانية هي أنهم يدفعون ثمن عدم مساواتهم خضوعاً وخنوعاً واضطراراً للتدليس لكف أذى هؤلاء. أما رفض السلطة مشاركة المواطنين ببناء دولتهم ومجتمعهم، فقد أدى إلى لامبالاة لديهم، وهم الأكثرية الساحقة من أبناء المجتمع، وانتشر في سوريا مفهوم «يصطفلوا» الشعبي، الذي يعني أن لاعلاقة لنا بما يجري، وأن أهل النظام هم المسؤولون عنه ونحن أبرياء من ذلك، أي أن الناس تخلوا عن مسؤولياتهم بل عن حقوقهم.

أدت سياسة اللامساواة واللامشاركة إلى نمو بل وطغيان مفهوم عدم الاهتمام بالكفاءة لصالح الولاء، وصار الولاء للنظام أو لأحد المتنفذين هو كلمة السر التي تتيح للفرد تحقيق أهدافه أو بعض أهدافه. فكفاءاته وشهاداته وخبرته كلها لا أهمية لها تقريباً، لا في الوظائف ولا في المناصب السياسية ولا غير السياسية، ولا يهتم بها أحد. وفي ضوء هذا، نما أمران نمواً سرطانياً: أولهما هو طغيان الوساطة، ما أدى إلى تقوية المرجعيات الثانوية الإقليمية والطائفية والإثنية والمذهبية، وصار في مقدرتها أن تساعد أتباعها في هذا المناخ من اللامساواة والمحسوبية. وثانيهما استسهال الحصول على منصب أو وظيفة من دون مؤهلات وصولاً إلى منصب الوزارة، لأن تكافؤ الفرص غائب والمساواة منقوصة والمهارات غير مطلوبة والولاء هو الأقوى، فأي مؤهلات هذه التي ينبغي أن تتوفر؟ لقد استسهل الجميع، موالين وغير موالين، الحصول على المنصب. ولذلك كثيراً ما كُلف أحدهم بإدارة شأن هام بعيد بعداً كبيراً عن اختصاصه، سواء كان هذا الشأن كبيراً أم صغيراً، مثل إدارة مؤسسة ذات أثر في تطور البلاد أو تأثير على حياة الناس أو إدارة شركة تابعة للقطاع العام أو ما يشبه ذلك.

لقد تولدت حالة غريبة وشاذة في سوريا خلال هذه السنوات هي العلاقة غير الطبيعية بين الأقوى والأعلى من السياسيين وأصحاب المناصب والإداريين. فليس بالضـــرورة أن يكون الأعلى وظيفياً أو إدارياً أو سياسياً هو الأقوى، بل قد يكون من هو أقل منه بدرجات وظيفية أو في مراتبية العمل في المؤســـسة أو الوزارة لكنه أقوى منه عملياً، وله نفوذ أكبر، وقادر على ما لم يقـــدر عليه من هو الأعلى. وعلى ذلك، فالمقربون من المؤسسة الأمنية، أو «المستزلمون» لذوي النفوذ هم الأقوى من معظم من هم في مؤسسات الدولة وإداراتها مهما علا شأنهم، وبديهي أن هذا يؤثر على خطط المؤسسات وانتقاء موظفيها والعهدة بالمسؤوليات والمناصب إليهم. لهذا ولغيره اضمحلت المراتبية، وبهتت أهمية الوظائف والمناصب بما في ذلك مناصب الوزراء، وتداخلت الصلاحيات، وغدت للامتيازات الشخصية والمصالح الأولوية الأولى، وأصاب الخلل الحقوق والواجـــبات، فلم يعــــد يعرف كثيرون حقوقهم ولا واجباتهم، وغدت الحقوق وكأنـــها مكرمة يقدمها الآخر، فرداً كان أم حكومة، والواجبات وكأنها عقوبة طارئة. ومادام ذلك كذلك، فهل هذه الظروف تؤهل لتربية رجال دولة يقومون بمهماتهم الوطنية، ويرون بعيداً، ويعرفون ما هي الدولة الحديثة، ويحــترمون معاييرها، ويساهمون في الوصـــول إلى ميثاق وطني شامل يكون أساساً لبناء الدولة والمجتــمع؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى