صفحات سورية

رجال الدين والثورة السورية


معتز محمد زين

تباينت كثيرا مواقف ” رجال الدين ” من الثورة السورية بين مؤيد ومعارض ومعتزل وصامت .. وراح كل فريق منهم يسوق من النصوص ما يخدم موقفه وتوجهه وأهدافه ..

نستطيع أن نتفهم موقف المعتزلين والصامتين بسبب معرفتنا بحجم الخوف والرعب الذي نجح النظام السوري على مدى عقود في زرعه في أعماق الإنسان السوري بطريقة ممنهجة .. هذا الخوف الذي كان واحدا من أهم عوامل استمرار النظام متماسكا قويا على مدى عقود من الزمن ، والذي ساعد النظام حتى الآن في إبقاء معظم خيوط القضية بيده بعد مرور سنة على الحراك الثوري الذي فجره شباب سوريا على امتدادها ..

لكننا لا نستطيع أن نفهم المرجعية الدينية لأولئك المعارضين للثورة والمؤيدين للنظام السوري بل المدافعين عنه إلى حد تجاوز المألوف الديني بمفهومه البسيط والموجود في أعماق الإنسان السوري .. ذلك أن الممارسات الهمجية واللانسانية التي مارسها النظام ضد الشعب السوري والأساليب اللاأخلاقية التي يستخدمها النظام عبر الضغط على الناشطين من خلال إلحاق الأذى النفسي أو الجسدي أو المادي بأسرهم وأقربائهم أحرج ” رجال الدين ” الذين وقفوا مع النظام ودافعوا عنه أمام قاعدتهم الشعبية مما أدى إلى تقلص شديد وملحوظ بالقاعدة الشعبية لأولئك .. والغريب أن الكثير منهم ما يزال في موقعه على الرغم من ذلك ..

وفي محاولة لفهم الخلفية الحقيقية لموقف  ” رجال الدين ” المؤيدين للنظام  يمكنني القول أنه وعلى الرغم من أن الخطاب الديني المعلن  لهؤلاء يعتمد على النصوص التي تتكلم عن وجوب طاعة ولي الأمر وتجنب الدخول في فتنة غير معلومة النتائج ، فإنني أعتقد أن السبب الحقيقي لدفاعهم عن هذا النظام المستبد هو مزيج من خوف عميق من اتخاذ موقف صريح ضد النظام ، وقناعة  بأن هذه الثورة لا يمكنها أن تنجح وأن هذا النظام لا يمكن أن يسقط ، بمعنى أنهم يراهنون على الحصان الرابح فالموقف هو موقف مصلحي تكتيكي وليس موقفا دينيا ..

إن الدافع الحقيقي لهذه المواقف إذاً هو المصلحة – سواء الشخصية أو الإسلامية المجتمعية حسب رأيهم – والمبنية على قراءة معينة للواقع والمستقبل المتوقع تستند إلى المخزون الفكري والنفسي الذي تراكم في أعماقهم عبر الاحتكاك المباشر مع مراكز القوة في هذا النظام خلال السنوات الماضية والذي مفاده أن هذا النظام أقوى من أن تسقطه هذه الثورة .. وأعتقد أنه لو رجح لديهم احتمال سقوط هذا النظام لكان موقفهم مختلفا على خلفية مصلحية تكتيكية أيضا …

ومشكلة هؤلاء – حسب رأيي – هي في عدم فهمهم لحقيقة الدين وجوهره وعلة وجوده ..

فالدين – وأنا هنا أتكلم عن الإسلام من موقع كوني مسلم – لا يتخذ مواقفه اعتمادا على حسابات الربح والخسارة ، ولا اعتمادا على النظرة الإستراتيجية للأمور .. الدين هو منظومة من القيم والمبادئ الإنسانية التي أودعها الله تعالى في داخل كل إنسان – الفطرة  بالتعبير الإسلامي – لتكون مرجعية أخلاقية له في كل أزمة تواجهه فيتخذ من خلالها الموقف المناسب والمنبثق من هذه القيم .. هذه القيم ( نصرة المظلوم وإغائة الملهوف وإعانة الضعفاء والمساكين وتحقيق العدالة والمساواة والحرية المنضبطة ….. الخ ) تتصادم بطبيعتها مع المستبدين والظلمة والطغاة والمستكبرين وأصحاب النفوذ .. فالدين يقف مع المظلوم ولو كان خاسرا ، وضد الظالم ولو ملك الأرض ومن عليها ..  الدين ثوري بطبيعته يلتف حوله الضعفاء والمقهورون والمستعبدون والفقراء لأنه أداتهم الوحيدة لمقاومة الظلم والاستبداد والفساد .. هذه هي فلسفة الدين الحقيقية حسب اعتقادي …

ومن هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه ، فقتله ” فالدين الحق لا بد أن يصطدم مع الحكم الجائر ، وغالباً ما يكون الحكم المديد جائرا .

ومن هنا أيضا نستطيع أن ندرك لماذا كانت أغلبية المؤمنين بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته من العبيد والمستضعفين والفقراء والمساكين ، وأغلبية المناهضين لدعوته من الزعماء والسادة والمترفين ..

والدين ككل ثورة ، بمجرد أن تنجح يحاول الخاسرون فيها – وهم غالبا من المستبدين والمترفين – الالتفاف عليها وركوب موجتها عبر اعتناق مبادئها ورفع رايتها محاولة منهم لاستعادة مواقعهم فيستعبدون الناس بنصوص الدين بدلا من استعبادهم  بالقوة والمال … وهم من أجل هذا الهدف يحتاجون إلى ” رجال دين ” يسوقون النصوص التي تخدم أهدافهم ، وينشأ نتيجة لذلك نوع من التحالف الموضوعي بين السلطة متمثلة بالحكام والتجار وأصحاب النفوذ وبين ” رجال الدين ” الذين يعمدون إلى إخماد نار الثورة في نفوس الضعفاء والمظلومين لمصلحة المستبدين والطغاة والمترفين بحجة طاعة ولي الأمر تارة ، وبترغيبهم بالجنة لصبرهم على الظلم تارة أخرى وهو ما سماه الدكتور علي شريعتي ” الاستحمار ” . هذا التحالف الذي ترسخت دعائمه عبر مئات السنين بين شيوخ السلاطين والحكام المستبدين كان دائما موضع مد وجزر بين طرفيه ، إلا أن النظام السوري استطاع ترويض رؤوس المؤسسة الدينية بشكل شبه تام بعد انتصاره بالصراع مع الإخوان المسلمين مستغلا فزاعة الإخوان من جهة وملوحا بمصيرهم لكل من يحدثه ضميره الديني والإنساني بالوقوف في وجه الظلم والفساد من جهة أخرى .. كما أنه سهل كثيرا دخول منتسبي حزب البعث إلى المؤسسة الدينية عبر السماح لكل عضو عامل بالحزب بالانتساب إلى كلية الشريعة حتى وإن كان معدل نجاحه بامتحان الثانوية لا يؤهله لدخول أي فرع من فروع الجامعة ، الأمر الذي أفرز فئة واسعة من الخطباء والوعاظ لا يفقهون من أصول الدين شيئا ، وبتحصيل علمي ضعيف جدا ، كما أنهم يدينون لحزب البعث بإيجاد فرصة عمل لهم .. كل ما سبق جعل هذه الفئة من ” رجال الدين ” يقفون موقف المدافع عن النظام المستبد بما يتعارض مع جوهر الدين وقيمه ومبادئه ..

وإن هذا التشخيص لحقيقة هذه الفئة من ” رجال الدين ” لا تحجب عنا حقيقة وجود مجموعة كبيرة منهم فهموا الدين بمعناه الحقيقي ووقفوا بشجاعة وجرأة في وجه آلة القمع التي يستخدمها النظام ودفعوا من أجل ذلك ثمنا باهظا كما حصل مع الشيخ أحمد الصياصنة على سبيل المثال ..

أنهي فأقول : الإسلام ببساطة هو مجموعة من المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة بعباءة ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ” … وكم من حامل لقيم الإسلام دون أن يلبس عباءته ، وكم من ملتحف بعباءة الإسلام دون أن يحمل قيمه ومبادئه …

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. برافو معنز مقال جيد وبداية ممتازة. أفكار واضحة لغة سليمة وبعض الاخطاء امر لابد منه . منذر

  2. إلى كاتب المقالة السيد معتز .. أعجبتني مقالتك وأعجبني الموضوع وتوقيت طرح الموضوع .. شكرا لك ..تكمن أهمية طرح هذا الموضوع في أهمية معرفة كل الأدوات التي يستخدمها نظام الأسد من أجل سحق الثورة .. أشاركك الرأي تماما بأن الخوف والمصلحة معا هي التي تجعل من رجال الدين الموالين أدوات طيعة لاتفعل شيئا إلا أن تنقب في نصوص الدين عن كل ماينفع لتبرير الممارسات الاجرامية للنظام .. وأوافقك تماما في ضرورة التمييز بين رجال الدين الذين يمتطيهم الحاكم ورجال الدين الذين يريدون أن يمتطوا مواقفهم بأنفسهم .. ولكني أريد أن أختلف معك بأمرين : أولا ألا تعتقد بأن الدين أو النص الديني يقدم لكل طالب طلبه .. ألم تختلف على مدى العصور الجماعات والتيارات والمدارس الاسلامية المختلفة مع وضد بعضها الى درجة التناقض وأحيانا التكفير وكلها كانت تعتمد في حججها على آيات قرانية وأحاديث نبوية أو قصص دينية .. ألا نجد في النص الاسلامي سواء المقدس كالقران أو غير المقدس أي النصوص الدينية لفقهاء في الدين أفكار ودعائم تسمح لأن يكون الدين مطية لكل ذا مصلحة .. وهل في هذا شيء مختلف عن كل الارث الثقافي المجتمعي الذي يتم استخدامه دائما حسب المصلحة ..
    ثانيا .. أنا أختلف أيضا معك في أن الدين هو عبارة عن مجموعة من القيم والمبادئ .. نعم هو كذلك ولكن الاسلام هو نظام حياة كامل وليس فقط مبادئ أخلاقية عامة .. هو ليس فقط قيم ومبادئ يحق للانسان حرية التعبير عنها كما يشاء .. الاسلام يفرض علينا ماذا نلبس وكيف نتصرف وكم امرأة أو رجل يجوز لنا أن نتزوج ومن يرث من وكيف وأشياء أخرى كثيرة .. إذا الاسلام ليس فقط قيم ومبادئ .. الاسلام منظومة كاملة لشكل الحياة التي نعيشها .. وهو كان ثورة اجتماعية حقيقية في فترة نشوئه .. ولكني لاأعتقد أنه يمثل ثورة بتأثيره في حياتنا المعاصرة .. كل ثورات العالم العربي مثلا لم تكن ثورات دين .. أي ليس الهدف من الثورات ولاالدافع إليها كان له علاقة بالدين .. وانما بالظلم والدين ليس دائما مع المظلومين .. وانما حسب حامله يمكن أن يكون مع المظلومين ويمكن أن يكون مع الظالمين .. طبيعة الدين تتحمل الحالتين وهذه الصفة لاتقتصر على الدين فقط ولكنها في الدين تظهر جليا .. ولهذا نرى أن هناك من يخدمه الدين من موقعه كمظلوم وهناك من يخدمه الدين من موقعه كمؤيد للظالم .. وهكذا الدين دائما في التاريخ .. فهل نستطيع حقا أن نقول أن رجال الدين الموالين يبتعدون عن جوهر الدين بينما الاخرين يقتربون من هذا الجوهر ..

  3. أشكرك منذر .. على تعليقك وتشجيعك
    وشكرا دكتورة هدى على مداخلتك .. وأرد باختصار .. قلت أن الاسلام هو نظام حياة كامل وليس فقط مبادئ أخلاقية عامة .. دعيني أصحح فأقول : الاسلام هو نظام حياة كامل تضبطه مبادئ أخلاقية عامة … فالمبادئ والقيم هي جوهر الدين المحركة والضابطة لحركة المسلم .. والأدلة كثيرة جدا على ذلك منها .. قول أحدهم : يا رسول الله إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار لكنها تؤذي جيرانها .. قال : هي في النار .. وقوله صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ..
    هذا عن الدين .. أم عن استخدام الدين فالحديث مختلف .. لذلك فلا يمكن للدين بحال أن يقف ضد المظلومين .. ولكنه قد يستخدم ضدهم ممن يتكلم باسمه دون أن يحمل قيمه وأخلاقه ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى