صفحات سوريةمازن عزي

رجل دمشق الخفي/ مازن عزي

 

 

أربعة أعوام بلا أوراق ثبوتية، قضاها ربيع في دمشق، متنقلاً على قدميه، متجنباً المواصلات العامة. ذقنه الطويلة، وشعره المصفف، وثيابه “الكاجوال” الملونة، تعكس حالته المادية، وأيضاً الثقافية، كأحد أفراد الطبقة الوسطى المدينيّة. في دمشق، الشباب يلبسون كما في بيروت؛ الموضة هي الموضة. لكن ذلك ليس ما جعل ربيع خفياً عن عيون العسكر على الحواجز، طيلة سنوات، وهو المطلوب للخدمة العسكرية الإلزامية، بل “الكاريزما” كما يحلو له تسميتها.

صديقته، تالا، بشعرها الطويل، وبنطلونها الممزق عند الركبتين، تتابع الحديث بانتباه، وتتدخل بصوت منخفض، لتشرح ما تعتقده مبهماً في سخرية ربيع: “الحياة في الشام رواق، ما عاد حدا له علاقة بحدا”.

السلطة وخلال السنوات الماضية، أتاحت مساحة واسعة للحريات الفردية، رغم استمرار القمع الشديد للحريات السياسية والاجتماعية. افساح مجال من المساحة الحرة لحركة الأفراد، من دون مضمون سياسي أو حتى إطار تضامني قد يحيل الأفراد إلى جماعة، هو أسلوب تتبعه التسلطيات عندما تواجهها أزمات تهدد وجودها. الأمر أشبه باحتمال خطوة نحو الليبرالية، من دون أي تنازل على صعيد الديموقراطية.

عينا تالا تبسمان حين تمر كلمات في الحديث، مثل الاستراتيجية والوضع الإقليمي والثورة. لمرة التفتت إلى صديقتها، مروة، الجالسة إلى جوارها، وتبادلتا ضحكة مكتومة، حين لامس النقاش الشمولية والديكتاتورية. تقول تالا: “هالحكي كثير قديم.. ما عدنا سمعناه من سنين بالشام”. حسناً، وعما يتكلمون هناك؟ “عن الحياة اليومية”، يقول ربيع: “إذا بتنقطع الكهربا كل يوم 5 ساعات وبتجي ساعة، بعد خمس سنين، معقول حدا بعده عم يحكي عنها؟”.

ولكن كيف تعيشون اليوم، كمعارضين من الطبقة الوسطى، في عاصمة نظام ما زال يترنح؟ تقول تالا: “الحياة أبسط بكثير في الشام، منذ أيام كنت أراقب من شباك البيت إمرأة دمشقية من عائلة مقتدرة، اضطرتها أزمة الماء لأن تنزل إلى الحديقة العامة، وتملأ ثلاثة غالونات”. تتابع: “تخيل المنظر، امرأة شامية، بلباسها الأنيق، والمانطو الأسود والحجاب الشامي والبروش الذهبي اللامع على صدرها، والكعب نص فنجان الذي تنتعله، بكامل كياستها، تحاول التوازن وهي تحمل لوحدها غالونات الماء الثلاثة، وعبء الحياة في عاصمة بلد ينهار تحت وطأة الحرب”.

الطبقات الوسطى المدينية، السنيّة، والتي ساهمت في المظاهرات التي عمت دمشق بين العامين 2011 و2012، وجدت نفسها في مأزق مع تحول الثورة إلى سياقها الريفي المسلح ومن ثم أسلمَتها. اللحظة الحرجة كانت عندما وافقت تلك الشرائح ونخبها على قبول تحييد دمشق عن العمل المسلح، وحصر الثورة والعنف في أريافها القريبة. ربيع أشار إلى ذلك حين قال: “في دمشق عشنا الثورة لا الحرب”.

بالنسبة لربيع: “الحال من بعضه لمعظم البشر في العاصمة، كل بحسب مدخوله، والفقر ذبح الناس”، باستثناء شريحة قليلة العدد من الأثرياء الجدد، ومربعاتهم في المالكي وأحياء العاصمة الغنية. غيرهم قد يموتون في انتظار سرير في المشافي الحكومية.

مناف، صديقهم الرابع، والطبيب الاختصاصي، يقول إن “أصعب اللحظات في المشافي الحكومية، هي عندما يكون دورك للمفاضلة بين شخصين، يجب أن يموت أحدهما كي يعيش الآخر، لعدم كفاية الدواء، أو عدم وجود متسع سوى لشخص واحد في العمليات، أو حتى الطوارىء”. مناف يقول إن “الأطباء يتقاذفون هذه المهمة بين بعضهم البعض، ولكن في النهاية، على أحدهم أن يقرر”. تالا استهولت الفكرة: “هل يمكن المفاضلة في أحقية البقاء بين الناس؟” يجيب مناف، إن “شاباً قد يستحق الحياة أكثر من عجوز، إذا ما واجهنا لعنة الاختيار”.

مروة، بتنورتها القصيرة، انكمشت على نفسها، من البرد، في الشقة الصغيرة شبه الفارغة، في مار مخايل من بيروت الشرقية. تقول إن “الحياة في دمشق، هي تكيّف مع الأزمات اليومية. فكل فترة، هناك أزمة جديدة، تجد طريقها للحل مع الوقت”. فمع وصول تقنين الكهرباء إلى درجات لا تحتمل، فجأة ظهرت المولدات في الأحياء. ومع انقطاع الماء، وحدها الحدائق العامة كانت الملاذ. فالآبار التي سبق وتمّ حفرها في الحدائق، كانت تهيئة لاحتمال انقطاع الماء عن العاصمة. شهر بلا ماء، منذ بدأت معركة وادي بردى، ولكن دمشق لم تعطش تماماً، بفضل تلك الاحتياطات. فعلياً، لم يكترث أحد لمن تسبب بانقطاع الماء، والجدل المثار خارجياً عن مسؤولية النظام أو المعارضة في قصف نبع الفيجة، لم تشغل بال الدمشقيين. فالمهم هو كيفية تأمين الماء؛ فهي مجرد مرحلة تكيّف جديدة.

يتدخل مناف: “طبعاً هناك اليوم مضخات لكل شقق الطوابق المرتفعة، والناس خلال الشهر الماضي اشترت خزانات اضافية وضعتها على السطوح. هكذا.. كل أزمة بأزمتها”.

في شقة مار مخايل، حيث اجتمع أولئك القادمون حديثاً من دمشق، كانت الكهرباء مقطوعة أيضاً، لكن أحداً من الأصدقاء “الشوام” لم ينتبه، فقد “اعتادوا غيابها”، لكن نبرة الحديث المنخفضة، كانت مثيرة. يجيب ربيع بأن “الصمت مهيمن في الشام، رغم ملايينها السبعة. فانقطاع الكهرباء المستمر، والخوف من تنصت الاخرين، جعل الأصوات تخبو”.

الخوف، ورغم معاركهم اليومية معه، لم يعد مهيمناً كما كان عليه الواقع قبل العام 2011. تقول تالا بتلذذ، إنها بصقت مرّة على “شبيح” أساء لها، ولم تتعرض للمساءلة.

هوامش الحريات الصغيرة، قد تكون وصفة مناسبة للنظام، لتسكين شارع واسع، في العاصمة، قادر على التأثير والتحريض. كما أن مسار العنف الهائل في محيط دمشق القريب، أقنع تلك الشرائح بقبول هذا “الاتفاق” المضمر مع النظام.

هذه الشرائح وخطاب نخبها، هي حاجة للنظام أيضاً، لموازنة التدخل الإيراني، ومشروعه الثقافي للهيمنة، وتصديره للثورة الخمينية. بالنسبة لربيع: “النظام أدرك أن سنّة دمشق أهون من شيعة إيران، فالإيرانيون شديدو التزمت الديني، وهم يسعون لتغيير الخريطة في دمشق ثقافياً، منطقة المزة صارت ملكاً لهم، بالخوّة، وهم يبنون فيها الأبراج، وفي شارع الأمين في دمشق القديمة تهيمن الأعلام السود. النظام وقع في ورطة مع الإيرانيين؛ كلما سيطروا على منطقة في محيط دمشق، فهذا يعني أن أهلها لن يرجعوا إليها”.

ومع ذلك، بالنسبة لربيع وهو خبير التخفي، يندر أن تشاهد وجوداً ايرانياً عسكرياً في دمشق، فقط الروس يمكن ملاحظتهم؛ وبالنسبة “للشوام، الروس أفضل، فلا مشروع ثقافياً لهم”. تالا تؤكد ذلك، فعدا المناطق الشيعية في الشام القديمة التي تشهد تزمتاً دينياً غير مسبوق، فإن بارات باب شرقي ما زالت مفتوحة، وربما تضاعف عددها خلال السنوات الماضية، حتى أن بعضها يشهد حضوراً علنياً لـLGBT (المثليين والمتحولين جنسياً).

توسيع هامش الحرية الفردية، هو مكسب مهم للطبقات الوسطى والبرجوازية على السواء، وإن كان يتعلق بحرية اللباس وطرق الحياة والعمل والخيارت الجنسية، وحتى الخيارات السياسية والدينية، طالما ظلت فردية لم تتحول إلى فعل مشترك. هذا ما يجعل من إمكانية سحبها، والانقضاض عليها، أسهل للسلطة.

ربيع يعتقد أن النظام، وجزءاً من العلويين، والروس بالتأكيد “ينظرون إلى سنّة دمشق على أنهم مواطنون، من دونهم لا شرعية لأحد”. ومع ذلك، “وحدها الأقليات في دمشق تملك السلاح؛ مسيحيو باب توما وعلويو المزة”. يتابع: “لا بأس بذلك، فسنّة دمشق اعتادوا الديكتاتور، ولا مشكلة لهم مع روسيا. المهم بالنسبة لهم، هو البحث عمن يوقف الحرب بأي ثمن”.

وماذا عن الكاريزما؟ يضحك ربيع: “الصورة النمطية لأولئك الشبيحة المرعبين الواقفين على الحواجز، انتهت منذ زمن بعيد، فقد ماتوا جميعاً. من يقف اليوم مكانهم، هم شباب صغار دون العشرينات من أعمارهم، وهؤلاء يسهل التعامل معهم”. هنا، يكمن الخيط الرفيع الراسم للحدود بين مخالب الدولة التسلطية، ومملكة الرجل الخفي، في دمشق.

يبتسم بمكر، ويضيف وهو يلحق بأصدقائه الذين لامسهم الجوع، فقرروا الذهاب لتناول “ثمار البحر”: “في الانغماس اليومي بالتفاصيل، في بلد تعيش الحرب.. عليك اقتناص أكبر قدر من هذه المتع الصغيرة”.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى