صفحات المستقبل

رجل يؤمن بأهميّة العودة/ فرح النيحاوي

 

 

ثمّة خللٌ ما، لربّما في التفاصيل، في الملابس التي أرتديها، في الموسيقى التي أعزفها، وتلك الأبنية التي أحب. ثمّة خللٌ ما، يدور بين دفاتري المهملة، بين صوري المبعثرة، أو المرايا التي أمرّ بإزائها. لا بدّ من وجود خلل ما، وهو ليس في الصبيّ الذي يعجبني، أو تلك المرأة التي أغار منها. إنني فقط لا أشابه مدينتي.

أجل، معذرةً، أنا آسف لم أنتبه. هل يمكنني الجلوس هنا؟ البطاقة التي بحوزتي تخوّلني اصطحاب شخصين آخرين، هاهاها. هذا الرجل لا يؤمن بأهمية العودة.

هو لا يتحدّث إليّ الآن، ولكنّه ينظر بتمعّنٍ أحيانًا، وأحيانًا بلامبالاة. حبيبي أيضًا. وهذا بندٌ يمكن إدراجه ضمن أساليب الجريمة والعقاب، بشكلٍ مبسّطٍ بالطبع. والبارحة ظهرًا، حينما صعدت المفتّشة الحافلة وطلبتْ من الجميع إبراز بطاقاتهم، لم يكن بحوزتي واحدة، فأعطتني مخالفة قدرها 60 يورو كان عليّ تقبلها بابتسامة ساخرة. إلّا أنني بدأت بالبكاء، وهذا بالطبع ردّ فعلٍ طفولي، ولكنني كنتُ مدركةً حينها أنني لا أريده، فهو أيضًا لئيم، كموظفة المخالفات هذه، لا يمتلك الوقت ولا المال لتحمّل الخطأ، ولذلك يتّبع معي أسلوب التربية السريع، فالتجارب الواسعة تحتاج إلى حياة جديدة وحبيب جديد وأطفال جدد.

أمّا في هذه الحياة، ومعه هو، فسأخاف الخطأ، إلّا أنني لن أحبّه. ومع ذلك فقد حاولت، فذهبت لدفع المخالفة مباشرةً وعدتُ للمنزل لأستريح ثم أكمل يومي كما هو مخطط له بحفلة راقصة، لكنني لم أشعر بالفرح حينما رقصتْ، وخلال عودتي اكتشفتُ أنني أضعتُ سماعات هاتفي دون انتباه، فأنا أملك ذاكرة مؤقتة ضعيفة كالأطفال، وقد كان طريق العودة حقًا طويلا.

عفوًا، هل تريد رؤية بطاقة الركوب؟ لا؟ هل تحتاج نقودًا إذًا لشراء بطاقة ركوب؟ يمكنني إعطاؤك إذا أردت، فقراري البارحة كان صارمًا بترك مرحلة الطفولة، ولمّا كان خياري بين اللطف واللؤم صعبًا، حيث إنّ إحدى الصفتين لم تكن من طبيعتي، قرّرت اللعب، وبذلك أحصل على ما أريده دون أن أفقد احترامي لذاتي.

لا يهم، هنالك شخصٌ مقعدٌ في الجهة اليمنى من القطار يحاول أن يكون أقرب قليلًا إلى النافذة. سُرقتُ من الوقت وأنا أراقبه، فالمرضى يملكون تواترًا مختلفًا عنّا، وساعاتهم تتباطأ في استمرارية رتيبة. عليّ أن أتصرّف بعفويّة تامّة.

لا أفضّل شرب القهوة صباحًا، أحب أن آخذ دومًا شيئًا باردًا.

حسنًا، منذ ثلاثة أشهر بالضبط، في زيارتي إلى دمشق، كنتُ سأذهب للشاب الذي أحبّه، أطرق عليه الباب وأسأله: هل تتزوّجني؟ أنا أعرف أنّه إن رفض فذلك لأنّه لا يعرفني جيّدًا، أعني أنّه كان من الأوجب أن يعطيني فرصة لكي أتحدّث له عن نفسي، عن أنّي إنسانٌ تعيس، ومهدّد في أي وقتٍ بالإصابة بالسرطان. وأظنّ أن هذا سببٌ وحيدٌ آخر ليرفضني، لكنني لن أحترمه بعد ذلك إن فعل، فالمصائب تحدث لأيّ شخص، وكذلك الأمراض.

كان عليّ ترقيم أفكاري كي لا تضيع الواحدة بالأخرى.

المهم أنّي لن أعترف إليه الآن بذلك. لو أنّه مهتمٌ حقًّا لحدثني.

سأسافر الأسبوع القادم إلى إشبيلية، فأنا بحاجة لأرى الشمس. ولكي أتقبّل هذا الانتقال العشوائي الذي حدث، كان يجب أن أعد نفسي بالعودة، أو بالتجوال عبر المدن، حتى لا يبدو الفعل عبثيًّا.

القطارات هنا كالمنازل أو الغرف المفروشة، حتى أنّ نوافذها تتحول ليلًا إلى مرايا. لن أذهب اليوم إلى المعهد، سأجلس على درج المحطّة لأزعج المارّة أو أزيح طفلًا عن الأرجوحة. سأشتري حلوى من نوعٍ جديد، ملابس جديدة أيضًا. يمكنني تعلّم صنع الخبز أو دراسة الكيمياء الفيزيائية. سأبحث عن عمل لا يحتاج إلى خبرة. هذا الشاب يبتسم لي، سأبتسم أيضًا. لا، سأزيح وجهي. في نهاية الأمر يمكنني تقبّل شخص لا يقرأ على ألّا يشاهد أفلامًا رديئة.

جيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى