ذاكرة صفحات سوريةصفحات الثقافة

رحلة إلى القاهرة 90: أسئلة الواقع، أسئلة الشعر/ أمجد ناصر

 

 

ملاقاة القاهرة

 

I

 

ها هي المدينة تلوح للقادم إليها لأوّل مرّة نثاراً لا متناهياً من الأضواء في ليل، له شبيه مُعلّق في الذاكرة، وكلّما دنت طائرة الخطوط المصرية من الأرض، بان النيل، وتلوّى كأفعى هائلة.

 

إنها القاهرة، إذنْ، ولو بعد حين.

 

فَمَنْ منّا لم يحلم بها ذات صبا باكر؟! ومَنْ منّا لم يحفظها عن ظهر قلب كقصيدة؟

 

إنها القاهرة التي نكاد نعرفها، حتّى قبل أن نذهب إليها: فهي قاهرة أغنيّتنا الأولى، وقاهرة كتابنا الأوّل، وقاهرة أوّل شريط سينمائي شاهدناه، وقاهرة نجوم تعلّقنا بإطلالاتهم على الشاشة الصغيرة. القاهرة التي كان يذهب إليها مغمورون من الأطراف، لتُطلقهم نجوماً في السماء العربية، ويسعى إليها كتّاب الأطراف، لينالوا شرعية وتكريساً غير قابلين للطَّعْن. وهي القاهرة التي كانت موضع الحلّ والرَّبْط في تطوّرات السياسة العربية ومصائرها: قاهرة عبد الناصر الذي تعلّق به أناس بلادنا حياً، كما لم يتعلّقوا بأحد، وبكوه ميتاً، كما لم يبكوا أحداً. وهي قاهرة نجيب محفوظ ومقهى ريش الذي طيَّر صيته مثقّفو القاهرة وضيوفها إلى الدنيا العربية.

 

إنها القاهرة، إذنْ، ولو بعد حين.

 

تأخذنا الطائرة من قتامة سماء الغرب، إلى وضوح سماء بلادنا، من اكفهرار الرماد إلى سماحة فضاء، لا يُحدّ.

 

وعند مدخل المطار، تخبرنا آية كريمة، بما أخبر به يُوسُف أهله من قبل: (ادخلوا مصرَ إنْ شاءَ اللهُ آمنينَ).

 

II

 

وكان الذهاب إلى القاهرة محمولاً على لهفَتَيْن: أن نعانقَ حلمنا الأوّل، وأن نحتفل بذكرى ثلاث مناسبات فلسطينية حاسمة: ٢٥ سنة على انطلاقة الكفاح المسلّح الفلسطيني، والذكرى الثالثة لاندلاع الانتفاضة، ومرور سنة على إعلان الاستقلال، وذلك كله في إطار “أيّام فلسطين الثقافية والفنّيّة” التي نظّمتْها دائرة الثقافة في منظّمة التحرير الفلسطينية، بالتعاون مع الاتّحاد العامّ للفنّانين العرب.

 

وكنتُ علمتُ قبل أيّام من ذهابي إلى القاهرة أنني سأكون مع الفنّانة الفلسطينية كاميليا جبران، المغنّية الرئيسية في فرقة “صابرين”، على متن الرحلة نفسها إلى القاهرة، ولكني لا أعرف شكلها. فلم ألتق بها من قبل. وعندما رأيتُ في الطائرة المصرية التي أقلّتْنا إلى القاهرة فتاةٌ سمراء، جعدية الشَّعْر، تجلس وحيدة في كرسيّ قريب منّي، خمّنتُ أنها هي، ولكنني لم أغامر بالسؤال، واكتفيتُ بأن تتكفّل الفرصة المناسبة بالأمر. ولدى وصولنا إلى صالة مطار القاهرة، عرفتُ أنها كاميليا، وذلك عندما بدأ موّال العذاب الفلسطيني التقليدي: فهي من جهة فلسطينية، ولكنها تحمل جواز سَفَر إسرائيلياً، لأنها من سكّان فلسطين المحتلّة عام ١٩٤٨، ثمّ هي في الوقت نفسه مَدعوّة لحضور مهرجان ثقافي، سيتمّ افتتاحه رسمياً، الأمر الذي كان صعباً أن يمرّ بسهولة، كما هو الحال مع القادمين الآخرين.

 

وجدنا مندوباً عن اللجنة المنظّمة للمهرجان بانتظارنا في صالة المطار، فمررتُ بيُسرٍ غير متوقّع، وأقلّتْني سيّارة إلى الفندق، ثمّ ظلّ المندوب يعالج “قضية” كاميليا مع الجهات الرسمية حتّى انتهت بعد قرابة ثماني ساعات.

 

وفي الصباح التالي، كان فندق “شبرد” يعجُّ بعشرات المَدعوّين القادمين إلى “الأيّام الفلسطينية” من كل حدب وصوب. فهذه المرّة الأولى التي يقام فيها مهرجان ثقافي فلسطيني في القاهرة بمثل هذه الضخامة والتّنوّع، وهي المرّة الأولى أيضاً التي يأتي فيها عدد كبير من المثقّفين العرب والفلسطينيين إلى القاهرة منذ سنوات السبعينيات والثمانينيات العاصفة، بل إن بعضهم لم يأتِ إلى القاهرة من قبل إطلاقاً. أخبرني الشاعر سعدي يُوسُف الذي وجدتُه هناك أنه لم يزر القاهرة منذ إحدى وثلاثين سنة!

 

جاء عبد الله حوراني رئيس الدائرة الثقافية في منظّمة التحرير، والمنظّم الرئيس لهذا المهرجان، ليسلِّم على القادمين الجدد، وظلّ ينتقّل بين الوفود والمدعوين والمبثوثين في مقهى وأروقة فندق “شبرد” للتّأكّد من أن الأمور تجري على ما يرام.

 

وبالمصادفة البحت، لقيتُ في الفندق أوّل صديق مصري لي هو الكاتب والمثقّف المتنوّع الاهتمامات سيّد خميس الذي لم أره منذ ثماني سنين.

 

كان سيّد خميس، المتحدِّر من أصول ريفية مصرية (لعل ذلك يفسّر جانباً من صداقتنا التي لم يغيّرها تغيّر مواقفنا السياسية عندما كان بالإمكان أن تتّخذ موقفاً تتشبثُ به سلباً أو إيجاباً) كما تركتُه منذ ثماني سنين. كأنَّ ثماني سنين، بمقياس الزمن العربي، لم تُغيّر في هيئته شيئاً، وسرعان ما لاحظ هو أنني لم أتغيّر مذاك!

 

حدّثني عن القاهرة التي عاد إليها بعد سنين طويلة، ومريرة، قضاها في الخارج بحثاً عن “متنفّس” سياسي، آخرها في دمشق.

 

قال لي إن القاهرة تغيّرت كثيراً.

 

ـ هل توقّعتَ عكس ذلك؟

 

ـ لا. ولكنْ، ليس إلى هذا الحدّ.

 

ـ هل عُوملتَ معاملة سيّئة بعد عودتكَ؟

 

ـ أبداً. فقد كان عليَّ أن أدركَ، بمرارة، أن القاهرة تظلُّ، رغم كل شيء، المكان الأفضل لقول ما لا تستطيع قوله في عواصم أخرى. أية معاناة، وأي خسران أصابا المثقّفين في عواصم عربية، لا تفرِّق بين دور المثقّف ودور المُخبر. بإغراء الذَّهَب، بأغلال الإقامة، وباستغلال أضعف ما في الإنسان، حاولتْ هذه العواصم أن تحيل المثقّفين (تحت شعارات ثورية وقومية ووطنية لا رصيد لها) إلى بيادق في رقعة شطرنجها السياسي، فأدرك هؤلاء أنهم استجاروا من الرمضاء بالنار.

 

صديقي سيّد خميس أدرك هذا الأمر باكراً، ولطالما تحدّثنا في بيروت ودمشق (والآن في القاهرة) عن أسماء ورموز “سقطت” أمام رنين الدراهم، أو تحت مطرقة الخوف من المجهول. من فندق “شبرد” اصطحبَني سيّد خميس مع الكاتبَيْن الفلسطينيين أحمد عمر شاهين ومنيف حوراني إلى “أتيلييه القاهرة” الذي يكاد أن يكون المقرّ الوحيد للمثقّفين المصريين في الفترة الحاضرة. هناك التقيتُ مثقّفين مصريين، عرفتُهم بالاسم فقط: فاروق عبد القادر، إبراهيم فتحي، حسن طلب، مدحت الجيار، أحمد الشيخ، أحمد زرزور، وغيرهم. ثمّ وجدتُ هناك بعض أصدقاء بيروت: مريد البرغوثي، سلوى بكر، عماد حليم. كان “الأتيلييه” يعجّ بمثقّفين من أجيال مختلفة، بعضهم ذكّرني بتلك الأيّام التي كنّا نذهب فيها إلى رابطة الكتّاب الأردنيين في جبل اللويبدة في عمَّان بلحى نامية وشعور منكوشة متأبّطين كتباً “تهدّ الحيل” لفرط ثقلها. فللمثقّف مظهر ينبغي أن لا تُخطئه العين أيضاً! نعود من “الأتيلييه”، ونمرُّ بشوارع وأماكن، أخبرتْنا بها الكُتُب والأفلام، فأقول لسيّد خميس يبدو أن أماكن الكُتُب أجمل. الازدحام رغم حلول الليل لا يزال على أشدّه في شوارع القاهرة: وسائط النقل، من العربات التي تجرّها خيول هرمة إلى أحدث ما تُنتجه المصانع الغربية، تتفنَّن في شقّ طريق لها وسط تقافز المواطنين وأصوات الأبواق المندلعة من هنا وهناك، ولكن الجميع يجد في نهاية الأمر طريقاً، ليصل إلى هدفه. الحركة رغم كل شيء تستمرّ. يحدّثني سيّد خميس عن “المعجزة” الغامضة التي يُسيِّر بها المواطنون حياتهم في عاصمة، تمتدُّ وتمتدُّ إلى ما لا نهاية.

 

ووفقاً لما عرفتُ من تقديرات ومعطيات عن مستوى الدخل وغلاء المعيشة والأزمات المزمنة المستعصية، أدركت أن “المعجزة هي في صدر كل مصري.

 

فإذا كان اليابانيون حقّقوا معجزة التكنولوجيا التي اقتحمت قلاع الغرب بسلام، فإن معجزة المصريين هي في قُدرتهم الخارقة على الاستمرار في الحياة، بل الاستمتاع بها أيضاً، في ظلّ ظروف قاهرة. . لم يعرفها اليابانيون، الذي بدؤوا نهضهتم، للمفارقة، بعد محمّد علي باشا، في حياتهم.

 

فها رغم كل شيء، أعني رغم الظروف التي تُحبط أكبر المتفائلين، ترى الحركة الأدبية والفنّيّة تنتعش وتزدهر، وترى وتسمع المواطن يتغلّب على الإحباط بالنكتة، والمصاعب بالصبر الجميل.

 

الحياة تستمرّ وتستمرّ، وليس هناك مَنْ يستطيع أن يفسّر لكَ كيف تتمكّن عائلة من العيش بدَخْل يستهلك الخبز ثلثه.

 

III

 

قد تكون زياراتي إلى القاهرة من المرّات النادرة التي دُعيتُ فيها إلى مؤتمر أو مهرجان، وعرفتُ فيها مكاناً آخر غير الفندق الذي نزلتُ فيه، وهذه خصلة يشترك فيها، كما أزعم، معظم المثقّفين العرب الذين يحبسون أنفسهم بين جدران الفندق، ويعيدون صياغة العالم في ظلّ سُحُب الدخان وفورات الأعصاب.

 

هذه المرّة قرّرتُ أن تكون مختلفة. فأنا ذاهب إلى القاهرة، وليس إلى فندق “شبرد”، وقد كلّفني ذلك على ما أظنّ غضب عبد الله حوراني الذي شاهدني “أزوغ” من بعض الفعاليات أكثر من مرّة.

 

أريد أن أرى القاهرة.

 

هذا ما قلتُه لأصدقائي المصريين تاركاً صديقي الشاعر غسّان زقطان “غاطساً” في متابعة شؤون، تتصل بأعمال المهرجان، بصفته عضواً في اللجنة الفلسطينية المسؤولة عن تنظيم “الأيّام الثقافية والفنّيّة”.

 

الشاعر المغربي محمّد بنيس، الذي كان مَدعوّاً للمشاركة في هذا الملتقى الكبير، كان أوّل مَن اتّخذ زمام مبادرة التّطواف في القاهرة. مشينا من فندق “شبرد” إلى السّيّدة زينب، ومن هناك إلى الأزهر، فالحسين، فخان الخليلي، إلى مقهى الفيشاوي، حيث تمكّنّا أخيراً من احتساء الشاي “الكشري”! قليلة هي العواصم العربية التي يمكن مقارنتها ببهاء العمارة وجمالياتها البديعة التي تركها مؤسّسو القاهرة الفاطميون، ثمّ مَنْ تلاهم، في سلسلة الحضارة العربية الإسلامية. أيّ فتنة، وأيّ جمال وخشوع ذلك الذي يسيطر على الداخل إلى السّيّدة زينب، وأي سِحْر وعبق يغشيان الدالف إلى الحسين، ثمّ أيّ عراقة تلك التي ترشح من أحجار وبوّابات الأزهر؟

 

في هذه الأزقّة الضّيّقة كان يمشي طفل أعمى في مطالع هذا القرن، شاقّاً طريقه إلى الجامع الأزهر لتلقّي العلم، ذلك الطفل الضرير القادم من أعماق الريف المصري قُدِّر له أن يصبح في ما بعد عميداً للأدب العربي، وأحد أكثر شاغلي الناس حتّى يومنا هذا: ذلكم هو طه حسين. بشيء من الفتنة الصريحة يحدّثني محمّد بنيس عن طه حسين الأعمى الذي أبصرتْ النورَ على يديه أجيالٌ وأجيالٌ.

 

إنه الأعمى المُنوِّر.

 

كل ليلة كنتُ أخرج مع أصدقائي المصريين لنطوفَ حياً من أحياء القاهرة القديمة، لينتهي مشوارنا غالباً في “الحسين”، الذي لا ينام، حيث تتجاور سكينة العمارة القديمة مع صخب أناس الليل. وفي ليلة دخلنا إلى الغورية، وكان الصديق الشاعر المصري رفعت سلام معنا، فاضطرّ إلى الاعتراف بأنها المرّة الأولى التي يدخل فيها هذا الحي بعد عشرين سنة من الإقامة في القاهرة. وبعد تجوال في شوارع الغورية وأزقّتها الضّيّقة وَصَلَنا إلى منطقة “خوش قدم”، فأشار أحد الأصدقاء إلى بيت شديد التواضع من الخارج قائلاً: إنه بيت أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام.

 

لاحظتُ أن الاسم الذي سمعناه، بل قرأناه في بعض الكتابات التي تناولت هذا الثنائي المنفرط عقده الآن، هو “حوش آدم”.

 

شرح لنا صديقنا المصري هذا الالتباس، فقال إن الاسم تركي الأصل، استثقل المصريون نطقَه، فحرَّفوه، ليصبح، مع الوقت، “حوش آدم”، وليس “خوش قدم”، كما هو مكتوب على اللوحة المعدنية.

 

“خوش”، إذنْ، كما يقول العراقيون!

 

]حاشية لاحقة: سلطنة الظاهر خوش قدم من 1461إلي 1467م

 

ويُعرف خوش قدم هذا بالرومي، لأنه يوناني الأصل، وبالناصري، لأنه كان من مماليك الملك الناصر، وكان محبّاً للآداب اليونانية محافظاً عليها، وكان حكيماً بارّاً حليماً محبّاً لرعيته ساهراً على راحتهم، ولم يكن يستوزر إلا الذين اختبر نزاهتهم ونشاطهم، فأحبّتْه الرعية، وأجمعوا على طاعته والإخلاص له. ويقال بالجملة إن هذا السلطان من أفضل سلاطين مصر، وقد اقتدى به رجال دولته، فساد الأمن. أمّا الخليفة، فلم يكن يتجاوز سلطته الدينية، فحكم خوش قدم ستّ سنوات ونصف، كلها سلام ونعيم، وتوفي في ١٠ربيع أوّل سنة ٨٧٢ هـ، وسنّه ستّون سنة، فأسف عليه الناس كثيراً.

 

جورجي زيدان[.

 

ها إنني أطوف القاهرة غير مُصدِّق أن يكون هناك بهاء مستمرّ، ومتداخل، في حياة الناس اليومية مثل هذا. كل واجهة جامع تركه الفاطميون أو الأيوبيون أو الأخشيديون أو المماليك، هو تحفة فنّيّة قائمة بذاتها… كل مئذنة لا تزال تشقُّ الفضاء هي شاهد على تاريخ نبيل، أهمله أبناؤه.

 

إنني لا أتحدّث عن عبقرية الحضارة الفرعونية التي تتختطّف الألباب حتّى يومنا هذا. بل أتحدّث عن أجزاء من القاهرة ما تزال مأهولة بأناسها منذ أكثر من ألف عام.

 

IV

 

ما أغاظ صديقَنا ورئيس التحرير عبد الباري عطوان، من رحلتي إلى القاهرة، ليس غيابي الذي استمرّ عشرة أيّام فحسب، بل غياب زميلنا ومدير مكتبنا في عمَّان باسم سكجها الذي رافق والده أستاذ الصحافة الفلسطينية إبراهيم سكجها إلى “الأيّام الثقافية والفنّيّة”، ليتقلّد من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات “وسام القدس” في إطار تكريم المبدعين الفلسطينيين. وزاد الطين بلّة أننا اكتفينا بإرسال مادّة سياسية واحدة، ثمّ غبنا غياباً مريباً عن خطوط الهاتف وجهاز الفاكسميلي رغم وجود مكتب لـ “القدس” في القاهرة مهيّأ بما لا يدع مجالاً للأعذار.

 

فبعد عام من الإعداد لإصدار “القدس” في لندن، وبعد تسعة شهور من إصدار يومي متواصل، تطلَّب أكثر من عشر ساعات عمل من كل عضو في أسرة تحرير الصغيرة، أعطيتُ نفسي حقّ الاستمتاع بعشرة أيّام من الاسترخاء. قرّرتُ أن لا أطاردَ نجماً من نجوم الثقافة والأدب، وأن لا “أستنطقَ”كاتباً أو فناناً، وأن لا أقضيَ معظم وقتي مع القادمين من الخارج في نقاشات لها أبطال لا يُضارعون حول البنية والتّناصّ والحداثة وما بعد الحداثة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وكتابة الفراغ… إلخ.

 

قرّرتُ أن أفتحَ صدري لهواء ليل القاهرة، وأن أنظّفَ عينيَّ من رماد لندن، لأرى الألوان بتدرّجاتها، وأن أستمعَ، ما وسعني، إلى الأصوات التي تتداخل في ميادين القاهرة وأحيائها، وأن أقفَ على مقربة ممّا يحدث في الحركة الثقافية المصرية بعيداً عن الأحكام المسبقة، وما تعكسه صفحة الأعلام من صور ومشاهد.

 

ولم يكن ذلك ممكناً إلا على حساب العمل الصحافي، كذلك لم يكن ممكناً من دون مفاتيح، فأطلقتُ نفسي على رَسْلها، وقلتُ للقاهرة “هيت لكِ”.

 

كان الشاعر المصري حلمي سالم، وهو صديق قديم من أيّام بيروت، ثمّ قبرص (التي تبدو الآن وكأنها ترقى إلى عصر آخر)، هو الذي قادني برغبة خالصة من قبلي، إلى التّعرّف على الجانب الأكثر اتصالاً بهمومي الأدبية، وأعني الشِّعر. وطبيعي أن لا تتسعَ بضعة أيّام في القاهرة لمعرفة مختلف جوانب هذا المشهد، فاقتصر الأمر على جانب منه هو شِعر وشُعراء السبعينيات.

 

ولمزيد من الدقّة أقول إن صلاتي تركّزت مع جماعة مجلّة “إضاءة٧٧”، في إطار جيل السبعينيات الشِّعري في مصر. وكان طبيعياً أن يحدث ذلك، فحلمي سالم هو أحد وجوه هذه المجلّة التي أسّسها عدد من الشعراء، أذكر منهم: حسن طلب، رفعت سلام، وليد منير، جمال القصاص، أمجد ريان، ماجد يُوسُف. في مقابل ذلك، تأسّست جماعة “أصوات” التي ضمَّت فريقاً آخر من شعراء السبعينيات، من بينهم: محمّد سليمان، عبد المنعم رمضان، محمّد عيد إبراهيم، عبد المقصود عبد الكريم، أصدرت لاحقاً مجلّة، حملت اسم “الكتابة السوداء” التي أخذ عليها الفريق الأوّل “ذيليّتها” لأدونيس المُلقَّب من بعض أعضائها بـ “الكاهن الأكبر”. تشكّلت مجلّة “إضاءة ٧٧” على خلفية أزمة المشهد الثقافي المصري، وتحكّم بعض التقليديين بمنابر النشر الثقافية، إلى حد استحال معه مرور الأصوات الشِّعرية الجديدة عبر هذه القنوات المغلقة.

 

فالصفحات الثقافية للصُّحُف والمجلات وقفت سدّاً منيعاً في وجه الشِّعر الجديد الذي عدّه القائمون عليها مجرّد ترهات وألغاز وغموض سادر، فيما رفضت دور النشر الحكومية طَبْع كُتُب لهؤلاء الشعراء، وكان قصارى ما يُنشَر من شِعر “حديث” في الصُّحُف أو الكُتُب هو ما يُشكّل الوجه الأكثر تقليدية في الحركة الشعرية العربية الحديثة.

 

في ظلّ هذه الظروف التي لم يعرفها شعراء السبعينيات في أقطار عربية أخرى، كان المنبر الخاص ضرورة لازمة، ليتمكّن الشعراء الجدد من إطلاق أصواتهم المغايرة للسائد الشعري في مصر. حلمي سالم الذي يمثّل (كما لاحظتُ) نقطة التوازن وسط جماعة “إضاءة٧٧”، لا يجد فارقاً مذهبياً كبيراً بين شعراء المجموعَتَيْن، بل إنه يقول: ثمّة في جماعة “أصوات” مَنْ هو أقرب إلينا من بعض أعضاء جماعتنا، والعكس صحيح.

 

أمّا عن خلفيات قيام جماعة “إضاءة ٧٧”، فيقول حلمي: إلى جانب البُعْد العملي لإصدار المجلّة، هناك جانب فكري، تمثَّل في ضرورة فكّ الارتباط بين المثقّفين والنظام. وفي تلك الأيّام من عام ١٩٧٧، كانت هناك معركة اتّحاد الكتّاب المصريين، وكان السؤال المطروح: هل ندخل في اتّحاد السلطة أم نشكّل جماعة مستقلّة؟ وانتهينا إلى تشكيل جماعة “إضاءة”.

 

أيضاً هناك جانب جمالي لهذه الخطوة، فقد كنّا نتساءل (وما نزال) عمّا آلت إليه حركة الشِّعر الحُرّ في مصر والوطن العربي؟

 

فمع إقرارنا بأن الروّاد والسابقين: السّيّاب، أدونيس، عبد الصبور، درويش، حجازي، دنقل، عفيفي مطر، وغيرهم، أنجزوا الكثير، فإن الأجيال التي تَلَتْهُم كرّرتْ تجربتهم، وأعادت إنتاجها إلى حدّ أوصلت الشِّعر إلى ما أسميناه “كلاسيكية الشعر الُحرّ”. فرأينا ضرورة إعادة الحياة إلى الشِّعر، والإقلاع عن اجترار تجربة الروّاد والأجيال السابقة علينا مباشرة. لقد وقفْنا وتأمّلْنا وقرّرْنا أن نكتبَ شِعْراً جديداً.

 

ولا يجد حلمي سالم ضيراً في القول إن الشّقَّ الآخر من شعراء السبعينيات في مصر (جماعة “أصوات”) واجهوا الأزمة نفسها بأساليب مشابهة، وتجمعهم نظرات مشتركة بصدد هموم القصيدة الجديدة.

 

رفعت سلام يقول لي: بكل أسف، إن الذين وقفوا في وجه شعراء السبعينيات لم يكونوا من السَّلَفيين (أي التقليديين) فحسب، بل إن بعضهم من “المجددين” أيضاً.

 

وهذا ما تسمعه أيضاً من جمال القصاص الذي يتكلّم إليكَ، وكأنه يهمس أسراراً خطيرةً! وحسب ما أُتيح لي أن أعرفَ من خلال العلاقة المباشرة والقراءات، فإن جماعتي “إضاءة 77″، و”أصوات” قد استقطبَتَا أبرز أصوات الحركة الشِّعرية الجديدة في مصر، ولكن ذلك لم يمنعْ بقاء أصوات أخرى خارج التأطير.

 

استطعتُ أن ألاحظَ، من خلال قراءاتي لبعض النتاج الشِّعري المصري الجديد الذي لم يصلْنا في منافينا ومغترباتنا، أن اللغة شكّلت غواية للبعض، وَصَلَت حدّ التّطرّف. لاحظتُ ذلك بصورة خاصة في أعمال حسن طلب، وجزئياً في أعمال حلمي سالم، وبعض شعراء الثمانينيات. وقد شاطرني هذه الملاحظة الشاعر الفلسطيني غسّان زقطان الذي وَقَعْتُ وإيّاه في “كمين” مُحكَم في بيت حسن طلب.

 

لم يخطر ببالي على الإطلاق أن يكون صديقنا الشاعر حسن طلب قد أعدَّ لنا هذا “الكمين”. فكل ما فهمتُ من دعوته إلى عشاء في بيته، أنها ستكون مناسبة لنلتقي بعض شعراء السبعينيات المصريين، إضافة إلى أصدقاء آخرين. كان ذلك في ليلتي الأخيرة، وبالأحرى في الساعات الأخيرة، حيث يتوجّب عليَّ أن أكونَ فجر اليوم التالي في مطار القاهرة.

 

مرَّ بنا حلمي سالم في الفندق، واصطحبنا (غسّان زقطان وأنا) إلى بيت حسن طلب في “الدّقّي”، ولأننا وصلنا متأخّرين بعض الشيء، بسبب الحالة الزئبقية التي يعيشها “مواطنو”المؤتمرات، وجدنا في حجرة مكتبة حسن طلب الصغيرة كوكبة من الأدباء، في طليعتهم أدونيس والناقد الدكتور جابر عصفور إلى: محمّد عفيفي مطر ورفعت سلام ومحمّد سليمان وسهام بيومي، وشاعرة جديدة، اسمها فاطمة قنديل، ومضيفنا حسن طلب، وبعض “القرّاء”! بدت آثار الدهشة العالية على وجه غسّان زقطان، ولا بد أنها كانت كذلك بالنسبة إليَّ، أمّا حلمي سالم، فيبدو أنه متسلح لمواجهة مثل هذا الموقف، إن لم يكن ضالعاً فيه. فقد نسيتُ، منذ وقت طويل، أن الشعراء إذا اجتمعوا لا بدّ أن تدورَ عليهم كأس الشعر، وهي كأس حرّاقة لو تعلمون. على الفور، شممتُ بقايا رائحة قصائد ““شائطة”، وأدركتُ بعد برهة من جلوسنا أن فاطمة قنديل كانت فاتحة “ضحايا” القراءات الشعرية الصداقية.

 

إذنْ، هي أمسيّة شعرية بيتية، دُعي إليها النجم الساطع إلى المغمور إلى ما بين بين، فأي ورطة وقعنا بها!

 

ما إن التقطنا أنفاسنا حتّى طُلب إلى رفعت سلام أن يقرأ، فلم يكن يحمل جديداً معه، غير أن مكتبة حسن طلب تكفّلت بـ “إنقاذ” الموقف. قرأ سلام مقاطع من كتابه “إشراقات” بصوت جهوري ثابت، ولما فرغ، جاء “دوري”في القراءة، لأنني أجلس جانبه: ذلك كله وأنا غير مُصدّق ما يحدث. فآخر أمسيّة قرأتُ فيها شعراً كانت في أسبوع ثقافي أقامه اتّحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين في الدوحة قبيل صيف عام ١٩٨٢ اللاهب، وكانت النتيجة مخيبة للآمال. بل أمتلكُ من الأسف لأقول إن الجمهور الفلسطيني، الذي انقطعت به السُّبُل في تلك البلاد، أُصيب بصدمة شديدة حيال ما سمع. فبدلاً من أن يسمعَ شعراً وطنياً يتغنّى بالنضال والحجارة (.. وصادف في تلك الأيّام انتفاضة صغيرة في الأرض المحتلة، كان سلاحها الحجارة) فإذا به يسمع شعراً عن أشياء صغيرة وهامشية، لم تكن من “لوازم” الشِّعر “المعروف” يوماً.

 

وزاد الطين بلّة أنه لم يقعْ على أوزان نظامية، ولم “تشنّف” سَمْعه قافية من أيّ نوع! باختصار، انسحب عديد من “الأكابر” والدبلوماسيين العرب الذين كانوا يحتلّون الصفوف الأولى، وظل الشاعر “المسكين” في عزلته العالية، يغالب ارتجاف صوته ويَدَيْه!

 

ومذاك أقسمتُ أن “أحترم” نفسي، وأن لا أعرض بضاعة مصيرها الكساد أو التجاهل على أحد.

 

وهكذا رفضتُ بإصرارٍ، مشوبٍ بالغضب والاستنكار، طلب أصدقائي المصريين بالقراءة، وكذلك الأمر الإلحاح المجامل لأدونيس. واستطعتُ أن أتحصّن بادئ الأمر بفكرة أنني لا أحمل معي قصيدة جديدة، فما كان من حسن طلب إلاّ أن نبش مكتبته حتّى عثر على ديواني الأوّل، وكان رفضي قد تحوَّل في هذه اللحظة إلى ثورة انزعاج داخلية، لا أعرف ما إذا كانت موضع ملاحظة الآخرين أم لا؟

 

وهكذا مرّت “العاصفة” بهدوء، وأصختُ سَمْعاً إلى محمّد سليمان الذي وَصَلَه “الدور”. كانت سجائري قد نفدت، في هذا الجوّ الملبّد، فاغتنمتُ فرصة انشغال محمّد سليمان بالقراءة، وأخذت تدخيناً بسجائره الإنكليزية. وبعد محمّد سليمان جاء “الدور” على محمّد عفيفي مطر الذي أظهر قَدْراً من الممانعة بادئ الأمر، ثمّ استجاب، فقرأ هو ، أيضاً، قصيدة لا أعرف متى بدأت، وأين انتهت.

 

ثمّ قرأ حلمي سالم قصيدة قال إنها غير منتهية، أكثر ما شدّني إليها طريقته المميزة في الإلقاء. وبعد حلمي سالم كان “الدور” قد وَصَلَ إلى مضيفنا حسن طلب الذي قرأ قصيدة قصيرة، نسبياً، تلاعب فيها باللغة والألفاظ تلاعباً مثيراً في مقاطع منها، وعادياً في مقاطع أخرى. ووَصَلَ الدور إلى غسّان زقطان الذي كان مذهولاً، فتضامن مع نفسه ومعي، ولم يقرأ.

 

ثمّ لاحظ، بطرافة، أن مكتبة حسن طلب لا تضمّ أياً من مجموعاته الشِّعرية!

 

هكذا انتهت الأمسيّة بقراءة من أدونيس الذي قرأ قصيدة قصيرة جميلة من ذاكرته بادئ الأمر، فاستعذبها الحضور، فطلبوا الاستعادة، فأعاد أدونيس قراءتها ثانية، بطريقته المؤثّرة في الإلقاء. ثمّ قرأ مقاطع من كتابه الشِّعري الأخير “شهوة تتقدّم في خرائط المادّة”. ظل هدير القصائد مخيّماً في حجرة مكتبة حسن طلب، الملبّدة أصلاً بالدخان، حتّى هدأ روع الجمع، والتقط الشعراء و”القرّاء” (هم ثلاثة أو أربعة، لا أذكر) أنفاسهم. وكان الحديث الذي أعقب القصائد، ولم يتصل بها، مهمّ إلى حدّ كبير. ففيه حَدَثَت مكاشفة بين أدونيس ومحمّد عفيفي مطر حول “واقعة” كان اتهم فيها الأخير أدونيس بـ “السطو” على الرافعي. أمّا الذي سأل عن سرِّ “الحكاية”، فكان جابر عصفور.

 

قال أدونيس إنه لم يقرأ الرافعي إطلاقاً، أمّا المقطع الذي ظنَّ عفيفي مطر أنَّ أدونيس أخذه من الرافعي، فهو اقتباس من كتابة عربية قديمة، لم يتمكَّن من تحديد صاحبها. فقال عفيفي مطر، خجلاً، أو تهرّباً من متابعة الموضوع: لعلّ الرافعي هو الآخر اقتبس هذا المقطع من الأصل نفسه!

 

وسأل الدكتور عصفور أدونيس: ماذا بشأن بعض الأعمال الأولى التي لم تضمَّها إلى أعمالكَ الكاملة؟ فقال أدونيس إنه العمل الأوّل الموسوم بـ “دليلة”، وهي قصيدة كتبها عام ١٩٤٨ حول المأساة الفلسطينية عندما كان ما يزال في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولم تنُشَر إلا في العام ١٩٥٠.

 

أكّد أدونيس أنه لم يخفِ أياً من دواوينه الأولى، وإن قام بإجراء بعض “الصياغات” عليها، وضمّها إلى أعمال لاحقة.

 

وهنا سألتُه عن قصّة “الصياغة النهائية” التي ظهرت على بعض كُتُبه، فقال: إن الصياغة التي قام بها مجرّد حذف وتعديل، وليست إضافة. وأشار في هذا الإطار إلى التباس وقع فيه الناقد العراقي حاتم الصكر حول “الصياغة النهائية”، إذ إنه كتب مقالاً نُشر في صحيفة “الثورة” العراقية، ثمّ أعادت نشره مجلّة “الناقد” التي يرأس تحريرها رياض الريّس، إذ قرأ الناقد، حسب أدونيس، بعض الأخطاء المطبعية التي وردت في القصائد على أنها تعديلات لجأ إليها الشاعر!

 

تشعَّب الحديث وتفرَّع، فوَصَلَ إلى “قصيدة النثر” وإلى إيقاعيّتها، فقال عفيفي مطر، بعصبية، إنه يودُّ لو يعرف كيف تنطوي هذه القصيدة على إيقاع؟

 

فردَّ عليه جابر عصفور الذي أوضح الفارق بين الإيقاع والوزن، وانتهى إلى الاعتراف بأن أدوات النّقّاد العرب لا تزال قاصرة عن وَضْع تصوّر حاسم لهذه الاشكالية.

 

في هذه الأثناء، كان مضيفنا حسن طلب يروح ويجيء حاملاً معه أطباق الطعام، وقد ذكَّرني وجهه بمنحوتة لأخناتون، كنتُ رأيتُها في اليوم السابق في متحف القاهرة. فقلتُ للصديق جابر عصفور إن حسن طلب له وجه شبيه بأخناتون، فلم يوافقني، إذ قال إن الذي يشبه أخناتون تماماً هو الراحل أمل دنقل.

 

كانت الساعة قد أوشكت على الاقتراب من الثانية بعد منتصف الليل، وكان عليَّ أن أعودَ إلى الفندق لحزم حقائبي وتناول فنجان من القهوة استعداداً للرحيل.

 

وكان وداع القاهرة والأصدقاء صعباً. فكم من موعد تأجّل، وكم من لقاء لم يتمّ، وكم من حديث ابتسر.

 

لا أقول وداعاً للقاهرة ..

القاهرة

كانون الثاني/يناير ١٩٩٠

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى