صفحات الرأي

رحلة التقريع: الجذور الإسلامية للإسلاموفوبيا/ وسام سعادة

 

 

هل يقول المصابون برُهاب الإسلام، سواء كانوا متديّنين أو لامتديّنين، غربيين أو شرقيين، شيئاً آخر عن «المسلمين»، يختلف جذريّاً عمّا يقوله الإحيائيّون والصحويّون الإسلاميّون عن عامة المسلمين، وعمّا يقوله بدورهم، الكثير من المسلمين عن الإحيائيين والصحويين هؤلاء؟!

بمعنى آخر، جاز السؤال، من بعد الفطن إلى اقتباسات الإسلاموفوبيا التي يحرّرها عرب ومسلمون «ليبراليّون» بأنفسهم، إلى «الجذور الإسلاميّة» لرُهاب الإسلام نفسه، أو قُلْ للفضاء المشترك الذي يغذّي كلا من نزعات رُهاب الإسلام ومحاباته، ويفسّر لنا سهولة المزج أو التنقّل فيما بينها، أو تأطير إحداها لغاية محدّدة ثم العروج على الأخرى.

فلئن بعثرنا وفتّشنا في الأوراق لن تكون الصورة النمطية عن المسلمين في كتابات الأمير شكيب أرسلان أو الشهيدين حسن البنا وسيّد قطب مختلفة بشكل جذريّ عن الصور النمطية السلبية عن المسلمين لدى الإسلاموفوب. تقريع المسلمين بشكل يحاكي الفوقية الكولونيالية بازاء السكّان الأصليين هو أسلوب، بادر اليه بخلفيات ومقاصد مختلفة، دعاة النهوض الإسلاميّ الحضاريّ والدينيّ بوجه الإمبريالية الغربية، ذات المرجعية المسيحية أو ما بعد المسيحية!

بطبيعة الحال، فإنّ المصاب برُهاب الإسلامْ لن يُسَرّ كثيراً حين يطالعه عنوان كتاب شكيب أرسلان «تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وجزائر البحر المتوسط»، لكن ماذا لو أعيد قراءة مقاطع عديدة من جواب الأمير شكيب على سؤال الشيخ محمد بسيوني عمران من جزيرة سمبس برنيو (جاوه)، «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟»

فلو أنّك قرأت اليوم لكاتب غربي أو «ليبراليّ» عربيّ تصريحاً من قبيل «وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنهم فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار لا يساكنهم في شيء إلا ما نزر، ولم أعلم من المسلمين من ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر، ولم يكونوا متأخرين عنهم إلا بعض أقوام منهم» لوصّفت هذه الكلمات بأنها إسلاموفوبية. ولو قرأت «المسلمون يريدون سلطاناً يشبه سلطان الأوروبيين بدون إيثار ولا بذل» لقلت هذا خطاب أقصى اليمين المتطرّف. ولو سمعت من يقول «من أعظم عوامل تقهقر المسلمين الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة واحتقار الموت» لسألت عن غيرة الدين حيال هذا الكلام. لكنه لشكيب أرسلان، في نص نشره له وقدّمه في مجلة «المنار» رائد النهضة الإسلامية الحديثة، الشيخ محمد رشيد رضا، ويمكن أن ترصد نماذج متقاربة من هذا الكلام لدى معظم أقطاب النهضة الإسلامية.

يقوم هذا النمط الخطابي الإحيائي والنهضوي بتقريع المسلمين، من خلال فصل حاد بين أقنومين هما «الإسلام في ذاته» و»إسلام المسلمين». هذا الفصل الحاد الذي اعتمده كل من السيد جمال الدين الأفغاني في الرّد على ارنست رينان، والإمام محمد عبده في الرد على جبريل هانوتو. المنطق الدفاعي لهذا الفصل الحاد يقول: المشكلة ليست في الإسلام في ذاته، بل أنّ الإسلام في ذاته هو الحل، أو هو يوافق الحل (الحداثوي)، إنما المشكلة في الأنماط التاريخية المعروفة لـ»إسلام المسلمين». لكن، ما حصل مع النقلة إلى القرن العشرين، هو أنّ هذا الفصل الحاد، بين الإسلام في ذاته وبين إسلام المسلمين، صار يؤسّس عليه أدباً تقريعيّاً إسلامويّاً للمسلمين، يحاكي، عن قصد أو من غير قصد، أسلوب تناول «الرجل الأبيض» لأبناء المستعمرات. وهكذا تكثر نعوت وأوصاف للمسلمين في كتاب أرسلان والبنا وقطب، ترميهم بالخمول والتبلّد والتأخّر والتخلّف والجهل، وتشترك في ذلك مع أقصى الإسلاموفوبيا اليوم، وإنْ كانت تجترح معالجة مختلفة: معالجة تأخّر المسلمين بالإسلام نفسه، وبالحمية والحماسة.

فما يأخذه مثلاً، شكيب أرسلان، الأمير الدرزي المتعبّد على طريقة أهل السنّة، على مسلمي العصر الحديث أنّهم فقدوا الحماسة، في حين «تخلّق به أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها، فتجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقاً، وتتلقى الأسنّة والحراب عناقاً، ولقد كان مبلغ مفاداتهم بالنفائس وتضحيتهم للنفوس في الحرب العامة فوق تصور عقول البشر». هو هنا، يحتج بالتصادم الدموي بين الشعوب الأوروبية في الحرب العالمية الأولى، ليظهر ما الذي فقده المسلمون. وهذه، بالمناسبة، لم تكن نظرة الأمير لوحده، ففي القرن الذي سبقه ذاعت تهمة استشراقية للإسلام ككل، منسيّة اليوم، بأنّه تحوّل إلى دينٌ استسلاميّ لا يحبّ الحرب، دين أطاحت توكّليته بجهاده. طبعاً، نحن نرى اليوم كيف انقلبت التهمة نقيضها، تماماً مثل تهمة أخرى، بأن المسلمين سيظلّ يتناقص عددهم، وخصوبتهم، في العصر الحديث، في حين أنّ الإسلاموفوبيا الحالية هي على المقلب الآخر: رُهابها مذعور من الديموغرافيا الإسلامية، سواء المهاجرة إلى أوروبا أو المحيطة بها!

ما انتقده أرسلان، وتبنّاه رضا، هو أن مسلمي عصرهم «أصبحوا، إلا قبائل منهم، يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام في قلب واحد». بل يسأل أرسلان «أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس، وإنفاق الأموال بدون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم؟»، ويحمل على تفشي ظاهرة «الموت لأجل استمرار الموت» بين المسلمين «وهو الموت الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم».

نصّ أمير البيان مركّب وثريّ وشائك. المركز فيه اعتماده أسلوب تقريع المسلمين على قاعدة نظرة ملحمية إلى ماضيهم، ونظرة داروينية إلى الصراع بين الأمم في العصر الحديث، وإحالات متواصلة للمصادر النصية المنزلة، إنما بتوظيفية يشاركه فيها سائر آباء الاحيائية الإسلامية: إذ تبدو الأمور معهم كما لو أنّ نبي الإسلام يتبنى نظرة سلبية للمسلمين المتأخرين عن زمانه. في هذه اللمحة بالذات، ثمة مشترك بين الإسلاموفوبيا والإحيائية الإسلامية على اختلاف أنماطها وأصنافها وحيلها. بالتوازي، فكما نرى، يستمرّ التقريع، وينقلب المبرّر نقيضه: التقريع كان، عند مستشرقي القرن التاسع عشر، لأن المسلمين «يتوكّلون» ولا يكافحون، واقتبس أرسلان ورضا والبنا وقطب النظرة نفسها في القرن العشرين، سوى أنهم دعوا إلى نقضها بإلاسلام نفسه، أو في فيئه. أما التقريع اليوم، فلم يعد بدعوى «أنهم يهابون الموت» بل بدعوى أنّهم لا يهابونه، وأنّهم انتحاريون. حتى إن مهاجمي مكاتب شارلي ايبدو، وما كانوا بانتحاريين، بل مسلّحين عاديين بأسلحة عادية، فلا هم فخّخوا سيارة ولا حوّروا مسار طائرة ولا تزنّروا بالموت، إلا انّ الميديا تعاملت معهم كما لو كانوا انتحاريين .. غصباً عنهم!

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى