صفحات الثقافة

رحيل المخرج التشيلي الملتزم راؤول رويز


راو بصري هدم الجدار بين الواقع والمتخيّل

نديم جرجوره

لطالما تساءلت عن سرّ القدرة الكامنة في نفوس سينمائيين عديدين على إنجاز أفلام صادمة ومؤثرة، وهم في مرحلة الشيخوخة، أو بعد ان تجاوزوها بقليل. سرّ القدرة على الإبهار، دائماً. الشيخوخة، أو ما قبلها بقليل أو ما بعدها بقليل أيضاً، مفتاح النضج الحقيقي. أو المدخل الأجمل إلى ابتكار أنماط من الاشتغالات البصرية، الذاهبة بهم إلى أقصى التجريب. أو ذروة الاختبار. أما الأقصى، فبداية جديدة. والاختبار، إمكانية الاستمرار في صنع معجزات الصورة، وتفاصيلها الإنسانية الحيّة.

سؤال اللغة

برحيل المخرج التشيليّ الفرنسي راؤول رويز (مواليد بيورتو مونت في تشيلي، 25 تموز 1941) أمس الجمعة، يُمكن، ببساطة شديدة، إعادة طرح سؤال اللغة السينمائية في مقاربتها أحداث العالم ونصوص الحكايات المرمية على قارعة الطريق، المحتاجة إلى عقل ومخيّلة وانفعال كي تُصبح عمارات شاهقة في صنع الإبداع. لعلّ فيلمه الملحميّ الأخير «ألغاز ليشبونة» (2010)، الذي بلغت مدّته أربع ساعات ونصف الساعة تقريباً، أقرب إلى شهادة حسّية عن براعة أحد أجمل السينمائيين وأقدرهم على تفكيك الذات البشرية، ومواكبة تبدّلات الراهن، والتوغل في اللامتناهي من الأسئلة الصعبة. «ألغاز ليشبونة»، المأخوذ عن كتاب لكاميلو كاستيلو برانكو، أخذ مُشَاهده إلى حقل واسع من الاختبارات المتعلّقة بانفعاله وشغفه وجنونه وهوسه وتهويماته، وعراقيل الدنيا التي تحول دون بلوغه سكينة ما. فيلم روائي متخيّل، عن واقع حادّ: الرواية المكتوبة في القرن التاسع عشر، الموصوفة بكونها «تحفة الأدب البرتغالي»، مفتوحة على «الحياة اليومية للأرستقراطية البرتغالية». فيلم محبوك بعناية صائغ محنك جعله هيامه بالصورة السينمائية قادراً على اجتراح «معجزات سينمائية شتى»، حقق توازناً مطلوباً وبديعاً بين تحليله السينمائي تفاصيل العالم الأرستقراطي هذا وفضائه المعقود على التناقضات والعبث، والشكل المانح قوّة البلاغة الكتابية في إمكانية جنوحها إلى مغزى الصورة، ومنابعها الموروثة من الفكر والجماليات والتقنيات. بين مضمون صادم بإعادة رسمه ملامح هذه الطبقة وتلك المرحلة، وشكل معقود على سلاسة السرد والبوح والتوهان، بدا «ألغاز ليشبونة» ـ الذي أعاد ربط المخرج بالنمط الأحبّ إليه والمفضّل عنده، أي إعادته إلى إحدى أبرز ميزاته المتمثلة بكونه راو ـ نصّاً بصرياً «دمج قصص الناس بعضها بالبعض الآخر، وأعاد إحياء الموتى، والتقى نبلاء خائري القوى، ومغامرين عديمي الذمّة، وصبايا حاملات».

المخادع الجميل. الخبيث الفاتح أحلامه على قبح الدنيا وجمالها معاً. المنشغل بتعب صحّي أدركه منذ بلوغه الخامسة من عمره. المغادر أمكنة. الذاهب إلى أمكنة أخرى، أي إلى تجارب أخرى. المشغول بمعنى اللحظة وانفتاح التاريخ عليها. أو انفتاحها على الأزمنة. السينمائي المطلّ على العالم من بلده تشيلي، والمتقد عشقاً للسينما من بلده فرنسا. الراحل عن سبعين عاماً. هو نفسه المحتال الجميل في إجابة ظلّت رديفاً للتشبّع بعشق الفن وصيرورته إبداعاً في مقارعة أحوال الناس ومشاغلهم: عند بلوغه العاشرة من عمره، شاهد «جاندارك» (1948) لفيكتور فليمنغ. ألحّ عليه شعور غريب لا يُقاوم: الدخول في الفيلم، واختراق الصورة. ألحّ عليه شعور طاغ أشعل فيه الرغبة في ضمّ إنغريد برغمان (جاندارك) بين ذراعيه، لإنقاذها والهرب معها من أتون الخراب والفوضى والمتاهات. قال: «اكتشفتُ (حينها) أن مخرجاً سينمائياً يستطيع أن يفعل هذا. أن يُنقذ شخصية محكوماً عليها بالإعدام. هذا ما فعلته في أفلامي، لاحقاً». قيل في تعبيره هذا إنه «تحليل فرويدوي». غير أن لراؤول رويز تحليلاً آخر وُصف بأنه «ماركسي»: أدرك الشاب أنه بفضل «الموجة الجديدة»، التي وُلدت من رحم التبدّلات الحاصلة في أوروبا وغيرها في الستينيات المنصرمة، يُمكن إنجاز أفلام بإمكانيات تمويلية ومالية قليلة، متوافرة في تشيلي.

التزام الإبداع

بين الفرويدي والماركسيّ، برز راؤول رويز مخرجاً منتمياً إلى ذاك الجيل من السينمائيين التشيليين الملتزمين سياسياً، كميغيل ليتين وهيلفيو سوتو. لهذا، لم يستطع البقاء في بلده إثر انقلاب الحادي عشر من أيلول 1973، الذي قاده أوغستينو بينوشي ضد سلفادور الليندي، ما دفعه إلى المغادرة، والعيش في المنفى الفرنسي. هناك، عام 1974، حقق «حوارات المنفيين»، المستوحى من تجربته كـ«لاجئ سياسي». بفضل تأثّره بكتابات الفيلسوف بيار كلوسّوفسكي، حقق رويز نتاجاً «معجوناً بالفكر، مشحوناً بالعقل» كما قيل: «الدعوة الربّانيّة المعلّقة» (1977)، عن قسيس مرتبك بسبب نزاعات إيديولوجية ضجّت بها بيئته الدينية، و«فرضية اللوحة المسروقة» (1978)، المرتكز على تأمّلات حول الفن وأسراره. لاحقاً، تأثّر بالسوريالية. لكنه، منذ بداية الثمانينيات، اختار درباً آخر: إنجاز أفلام أخفّ «وطأة فكرية». قرّر اختبار مجال مختلف. بدأ تحقيق نصوص موسومة بالمغامرات، ما أتاح له فرصة تحرير مخيّلته من أي قيد، وإطلاق العنان لها: «الأكاليل الثلاثة للبحّار» (1982) و«مدينة القراصنة» (1983)، الذي مثل فيه المبتدئ حينها ميلفيل بوتو المتحوّل لاحقاً إلى الممثل المفضّل لدى المخرج، و«العين التي تكذب» (1992).

هيامه بالأدب والنصوص الأدبية القديمة (في صغره، تغذى عقله وقلبه بأدب فرانتز كافكا وإدغار آلن بو، لكنه تخصّص بالمحاماة وعلم اللاهوت) قاده إلى «الزمن الضائع» (1999)، المأخوذ عن الكتاب المعروف بالعنوان نفسه لمارسيل بروست: هنا أيضاً تجلّت موهبة راؤول رويز، بل عبقريته، في جعل مدّة فيلم ما أشبه برحلة قصيرة في داخل الذات البشرية وعوالمها المتداخلة والمتناقضة والمعقدة. ساعتان وخمسون دقيقة، جعلها رويز اختباراً سينمائياً بامتياز، بطرحه السؤال التاريخي: أين هو الحدّ الفاصل بين الواقع والمتخيّل. مارسيل بروست (مارتشيلّو مازّاريلاّ) وجد نفسه أمام «لوحة غريبة»، إثر إلقائه نظرة على ألبوم صُوَره الفوتوغرافية، هو الذي عانى أوجاع مرض دفعته إلى أن يرقــــد على ســــريره. في اللوحة هذه، التي أبدع رويز في رسمها متتاليات بصرية مدهشة، تداخلت شخصيات رواياته بتلك المحيطة به في الواقع. الأدب معطـــوفاً على السيــــنما. أو السينما مفتوحة للخيال «المنــــقوص»، إذا صحّ الوصف، الذي يتمتع به الأدب إزاء اكتمال جمال الصُوَر السينمائية.

ظلّ راؤول رويز عابقاً بالسينما حتى اللحظة الأخيرة: «إنه رجل قادم من عصر آخر. عرف كل شيء عن كل شيء»، كما قال صديقه المنتج فرانسوا مارغولان. العصر الآخر؟ كأن راؤول رويز اختزال عصور وحالات. كأنه عصر سينمائي قائم على مفردة أساسية: مزج ثقافات مختلفة بعضها بالبعض الآخـــــر. هذا دأبه. هــــذا عشقه. هذا منظور إليه في أفلامه الطويلة والقصيرة. في اشتغالاته الفكرية والجمالية أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى