صفحات سوريةعبدالله أمين الحلاق

ردٌ غير مؤجل لياسين الحاج صالح


عبدالله أمين الحلاق *

في آخر لقاء بيننا في دمشق، قال لي ياسين: «أنت تراهن على نمو ظاهرة المؤرخين الجدد في اسرائيل، إيلان بابيه وغيره، لبلورة رؤية ووعي مدني اسرائيلي تجاه الفلسطينيين. هذا أمر ليس بهذه البساطة التي تتخيلها، والنخبة السياسية الحاكمة الاسرائيلية لن تسمح أو تستجيب لذلك بمحض إرادتها، ولنتخيل أن النظام السوري يمكن أن يسمح ببلورة رؤية مدنية وواقع ديموقراطي في سورية كما تفترض أن ذلك ممكن في اسرائيل، هل ذلك ممكن برأيك؟».

لم أجُبه يومها. كان ذلك اللقاء واحداً من لقاءاتي وياسين قبل اندلاع الانتفاضة السورية، ولم يتسنَ لنا اللقاء مجدداً بعد بدء الثورة. ذلك أن ياسين الحاج صالح توارى عن الأنظار يومها، ولا يزال. وربما كان غيابه الاختياري يحمل الجواب عن سؤاله يومها لي ولإياد العبد الله. هل يحتمل النظام السوري الديموقراطية والرأي الآخر؟

القمع الممنهج الذي يرتكبه النظام ضد الانتفاضة اليوم امتداد لسلسلة تاريخية من سياسات وارتكابات استبدادية دموية بعمر هذا النظام، وهي وصلت إلى هذا الحد غير المتصوّر من القتل والتنكيل بحق هذا الشعب، نظراً الى تمدد واتساع رقعة المعارضة من معارضة نخبوية على مستوى أحزاب ومثقفين في العقود الأربعة الماضية مروراً بربيع دمشق 2001- 2002، إلى انتفاضة شعب ضد نظام استبدادي ملوكي لمّا تشهد المنطقة العربية صنواً له إلا توأمه الذي حكم العراق.

ما قد يكون ياسين الحاج صالح مناسبة للحديث عنه، هو دور المثقف النقدي العربي والسوري في زمن الثورة، وهو ما كنا كتبنا عنه نصوصاً كثيرة أثناء الثورة السورية، وما زال يشكل هاجساً لنا وللكثيرين وسط ثورة خلقت مثقفيها الذين ولدوا معها، وأعادت مثقفين معارضين للنظام السوري إلى خانة الفعل والمساهمة في التغيير في شكل أكبر، وهؤلاء لم يترددوا للحظة في الانخراط بالثورة كتابةً وتنظيراً لها، وحتى تظاهراً في حالات كثيرة. لن ندخل هنا في خانة الحديث عن مثقفي السلطة المتمسحين بأحذيتها ممن نراهم يومياً على الشاشات ونقرأهم في الصحافة. الموضوع وببساطة هو خيار المثقف النقدي بين أن يعيش حالة اغتراب عن الواقع ويحيد بنفسه عن المشاركة في صنع التغيير، أو يبقى متصالحاً ومنسجماً مع أفكاره وبنيته الأخلاقية والضريبة التي ربما يكون قد دفعها في مواجهة الاستبداد.

«النقدية واللاتماهي»، التي يفترض أن تكون ملازمة لهذا المثقف هي البوصلة التي تحدد اتجاه تفكيره وعدم انجراره إلى تقديس الثورة ورفعها إلى مصاف القداسة، وهذا مهم جداً. ذلك أن الثورة السورية لم تسِر بشكل خطي منذ بدايتها وحتى اليوم. الثورة تشهد انحرافات قد تتحول إلى كارثة إن لم يتم التنبه لها ومحاولة حشد تضامن واسع من قبل الجمهور الثائر لمصلحة الدفاع عن أفكار الثورة التي قامت لأجلها. باختصار، عليك كمثقف أن تنتقد الثورة وتحاول المشاركة في فعالياتها وأنت داعم لها ولأهدافها في الحرية وإسقاط النظام وبناء الديموقراطية، وأن تكون في حالة قطع ولا مهادنة مع من قامت الثورة ضده.

تسمية أيام الجمعة وانفلات العنف من عقاله في كثير من المناطق الثائرة وتديين الشعارات قد يكون باباً مهماً لنقد مآلات الثورة بعد أكثر من عام من انطلاقها. وهو لن يكون، في الآن عينه، مناسبة لبعض المتثاقفين ليكونوا في خندق النظام باسم معارضتهم لأسلمة الحراك، أولئك الذين يعتبرون أنفسهم معارضين للاستبداد وهم يبحثون عن ثورة علمانية قوامها شعب علماني خالص من كوكب آخر. هؤلاء لا يكفون عن التمسح بأحذية النظام السوري وإن بشكل غير معلن وبواجهة شكلية معارضة للاستبداد.

الشعبوية والنخبوية على طرفي نقيض، بخاصة في زمن التغييرات العاصفة التي نشهد، لكن النخبوية قد تتحول إلى حالة داعمة للحراك الثوري من دون أن تكون شعبوية والتحاقية مجردة من أي حس نقدي. إنها نخبوية فقط لجهة المحمول الفكري والمعرفي لها، لكنها يفترض أن تكرس تلك الثقافة في اللحظات التي يتغير فيها مسار التاريخ في منطقتنا العربية لمصلحة الفعل الذي يغير وجه هذه المنطقة، أي الفعل الثوري. هذا ما يكتشفه قارئ كتاب «أساطير الآخرين – نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده» لياسين الحاج صالح. ذلك أننا نمرّ كشعوب عربية ومثقفين وكتّاب وغير هؤلاء أمام استحقاق تغييري استقلالي اسمه «الاستقلال الثاني»، وهو «الاستقلال عن الاستبداد المتوحش الذي عرفه العالم العربي طوال أربعين عاماً، بعد الاستقلال الأول عن الاستعمار الاوربي بعيد الحرب العالمية الثانية».

لكن، وطالما أننا تحدثنا عن متثاقفين يجدون في الخوف من الإسلاميين والتطرف الديني بعد الثورات مبرراً لهم للاستقالة من المساهمة في الفعل التغييري الراهن، فلا بد من التعريج على الاستقلال الثالث، وهو «الاستقلال عن السماء»، أي «إعادة ترتيب العلاقة بين السماء والأرض على أسس دستورية». أي باختصار: معركة التنوير في مواجهة الظلاميات الدينية، وهو استحقاق مفروض في المستقبل بعد إنجاز الاستقلال الثاني، بعكس أوروبا التي ابتدأت معركة بناء دولها بما يمثل الاستقلال الثالث عندنا.

وإذ يرحل الفنان خالد تاجا عن هذه الدنيا قبل أيام، نبقى ضمن دائرة الحديث عن المثقفين المساهمين في الربيع السوري. خالد تاجا كان من أوائل الموقعين على بيان الـ 99 مثقفاً عام 2000، والذي انطلق معه ربيع دمشق الموؤود، وأكمل في الاعتصامات ووقفات التضامن مع المعتقلين والمطالبة برفع قوانين الطوارئ قبل أعوام، إلى مشاركته في تظاهرات الثورة السورية في حي الميدان وغيره. هنا تجدر تحية كل مثقف سوري لم يوفر جهداً في دعم هذه الثورة، وعلى رأسهم من يمتلكون مخزوناً معرفياً بنوا جلّه قراءةً وتفكيراً في سجون هذا النظام ومعتقلاته، ومنهم صاحب «أساطير الآخرين»، ذلك الذي يحفل سجله بنصوص وأبحاث ومقالات لامعة لم يتردد للحظة في أن يكرسها كلها لمصلحة الثورة السورية وانتفاضة هذا الشعب. مثقف ألمعي اسمه: ياسين الحاج صالح.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى