الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات مميزة

رزان زيتونة: امرأة تتمرن على العدالة/ ضحـى حسـن

شهادات من رفاق رزان زيتونة الذين عايشوا نضالها المدني

بيروت – داخل أحد الأبنية في العاصمة السورية دمشق، فُتح باب المنزل ببطء شديد. أطلّت فتاة ثلاثينية من الباب بحذر وبادلتُها إيّاه على الفور. الموقف لا يحتمل الخطأ. تتدخّل “هرّة” شقراء وتُخرِج رأسها من الباب، وللحظة قررت أن أستدير وأعود أدراجي مؤنِّبةً نفسي على “دخولي إلى البناء الخطأ للمرة الثانية، وعدم تدقيقي في العنوان الذي أرسلَتْه لي و..”، قبل أن أتحرك نادتني باسمي.. حملت نفسي بهدوء ودخلت إلى المنزل. فأنا لم أكن قد التقيتها وجهاً لوجه قبل آب 2011.

الفتاة العنيدة، الواضحة، صاحبة القلب الطيب، هي الانطباعات الأولى التي تتركها رزان زيتونة لديك، وتتراكم هذه الصفات يوماً بعد آخر. رزان هي أكثر شجاعةً وصلابةً وصبراً مما ظننت.

منذ أيام، خطف ملثمون رزان زيتونة وفريق عملها وائل حمادة، سميرة الخليل، وناظم الحمادي من مركز “توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا” في دوما بريف دمشق.

“رزان من أقرب الصديقات. شريكة الحلم والاتجاه والتفكير”، يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، “هي أشجع النساء السوريات أو الأشجع إطلاقاً. وإذا تمثّلت الثورة السورية بشخص واحد فقط، فهذا الشخص هو رزان، هي أكثر الناس توارياً عن الواجهة، وأكثر من يتطابق فكره مع عمله وممارسته”.

بدأت رزان زيتونة (مواليد 1977) عملها كناشطة حقوقية بعد تخرّجها مباشرة من كلية الحقوق.تركّز نشاطها آنذاك في متابعة المعتقلين وأُسرِهم وتوثيق انتهاكات النظام. “أعرف رزان منذ أكثر من 15 عاماً. كانت مريضة جداً في أول أيام الثورة، فطلبتُ منها أن ترتاح، وأجابتني: قضيت عمري عم استنى هاد اليوم، بدِك ياني ارتاح؟!”، تقول منى، الأم التي تحوّل منزلها إلى حضن للناشطين الهاربين من الأمن.

في منزل الأم منى اجتمعوا معاً؛ رزان وناظم وائل وسميرة وياسين وغيرهم كثيرون، “رزان إنسانة عنيدة بطلب الحق، شفافة ورقيقة إلى حد الهشاشة أمام المظلوم، الثورة لمن يعرف رزان هي كل حياتها”.

اعتادت رزان الإنتقال من منزل إلى آخر منذ بداية الثورة السورية في محاولة لتضليل قوى الأمن التي كانت تبحث عنها، ولطالما فاجأت المتظاهرين بوجودها بينهم في التظاهرات. كما عملت زيتونة مع معظم الناشطين أو “الثوار” وفق ما كانت تحب أن تسمّيهم. “رزان ملهتمي الأولى في هذه الثورة، كل ما أشعر بالضعف أقول لنفسي إن رزان محاصرة وتعمل بجهد جبار”، تقول المدوّنة رزان غزاوي، وتضيف: “زيتونة ليست ثائرة فحسب، بل هي تحلم بأن تكون سوريّة أكثر الدول عدلاً في العالم”.

أسّست رزان زيتونة مع مجموعة من الحقوقيين والناشطين لجان التنسيق المحلية في سورية، التي تحوّلت بسرعة كبيرة إلى شبكة إعلامية إغاثية في كل المحافظات والمدن والبلدات السورية،”كانت تخاف على كل من حولها، وعندما يكون القصف في أشده تقول لي: عم إسمع صوت حبات المطر وعم إحلم إني عم أرقص تانغو بإيطاليا”، على ما قالت لنا ياسمين البرازي منسّقة المكتب الإعلامي للجان التنسيق. “لم يتوقف عمل رزان على النشاط الحقوقي والتوثيقي وتنسيق التظاهرات والمشاركة بها والعمل في اللجان، بل كانت تزور أيضاً مقرات الجيش السوري الحر، وتحاور عناصره وتنظّم لهم ورشات مرتبطة بحقوق الأَسرى والقانون وغيرها. أصرّت على أنّ من يحمل السلاح، عليه أن يعرف ما هي حقوقه وواجباته”.

ضمّت لجان التنسيق المحلية عدداً كبيراً من الناشطين داخل سوريا وخارجها، ووزّعت مهامهم بدقة. “التقيت رزان في أول تظاهرة خرجت في حرستا، المرة الثانية كانت في زملكا في عيد الميلاد، هذه المرة الأولى التي تعرفت عليها وتحدثت معها”، توضح ماجدة، الفتاة التي بدأت عملها في اللجان قبل عامين تقريباً، وتضيف: “بدأتُ العمل مع رزان الحازمة والصارمة أثناء العمل، وأكثرهم طيبة في الحياة العادية. تحب الثورة والناس، لم ترفض يوماً مساعدة من طلب مساعدتها، ودائماً تعمل فوق طاقتها”.

انتقلت رزان زيتونة وفريق عملها من دمشق المحاصرة من النظام وشبّيحته إلى الغوطة المحررة، من دوما، عربين، سقبا، مسرابا، المليحة، حمورية، جوبر، حرستا، وحزة، ثم عادت إلى دوما، وأطلقت هناك ما بدأت بعمله منذ بداية الثورة “مركز توثيق انتهاكات حقوق الانسان في سوريا”.

“عندما وصلنا إلى الغوطة الشرقية بدأنا بجولة في معظم مدنها وقراها. في البداية كانت رزان مهتمّة برصد المؤسسات الثورية والكتابة عنها، ومن ثم اهتمت بالمؤسسات القضائية والشرطة والسجون، وأصدرت تقريراً عن حالة  القضاء والسجون”، يقول أسامة نصار، الشاب الذي تنقّل مع رزان منذ وصولهما إلى الغوطة، وبقي هناك بجانبها، وتابع: “تعمل رزان على كل الجبهات معاً، لديها مواقف صارمة وحادة من أشياء كثيرة، أحياناً تزعج من حولها بحدّتها، لكن لولا هذه الحدة لما كان استمر العمل”.

21 آب 2012 ضرب النظام السوري منطقة الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية، ما أسفر عن مقتل أكثر من 1500 مدني. مركز توثيق الانتهاكات قام بتوثيق معظم الحالات هناك وعاش التجربة ذاتها. قالت رزان يومها: “أحاول استرجاع تفاصيل ذلك اليوم ببطء شديد علّي أنفجر بالصراخ والنواح، كما يفترض بشخص “طبيعي” أن يفعل. يرعبني الخدر الذي أحسّه في صدري، والضباب الذي يلف الصور المتلاحقة في ذهني. ليس هكذا تكون ردة الفعل بعد نهار حافل بالتعثّر بالأجساد التي صُفَّت إلى جانب بعضها البعض في الردهات الطويلة المعتمة، ولُفّت بالأكفان البيضاء أو البطانيات القديمة، لا يظهر منها إلا وجوه مزرقّة ورغوة جمدت على زوايا الأفواه، وأحياناً خيط من الدماء يختلط بالزبد. على الجبين أو على الكفن، كتب رقم، أو اسم، أو كلمة “مجهول””.

يروي منهل باريش من أعضاء لجان التنسيق سابقاً، حديثاً دار بينه وبين رزان يوماً: “في أحد الأيام قالت لي: منهل بدّي أعمل معك حوار. سألتها عن السبب فأجابتني: لازم نوثّق قبل ما نستشهد”، ويكمل: “أجبتها “قصدك نموت”، فضحكت، وقالت: بعيد الشر!”.

لم يستطع الجيش السوري الحر والكتائب الإسلامية فك الحصار عن الغوطة الشرقية، كما لم يسمح النظام للمواد الغذائية والطبية بالمرور إلى المنطقة المحررة. رزان وفريق عملها اختبروا الحصار بكل أوجهه، وكتبت في مقالها الأخير في NOW عن الحصار: “قُدِّر لي أن أعيش تجربة الحصار مع صديقة قضَت سنوات عدّة من حياتها في المعتقل. يندر أن يمر موقف من غير أن تقارن الحصار بالسجن، تقول إن التجربتين متشابهتان إلى حدّ بعيد في أوجه كثيرة”، سميرة الخليل هي هذه الصديقة.

سميرة الخليل، هي زوجة الكاتب ياسين الحاج صالح، اعتقلت من قبل قوات النظام في الثمانينات بسبب انتمائها إلى حزب العمل الشيوعي، وبقيت في سجن دوما لمدة أربع سنوات، وانضمّت لاحقاً إلى صفوف المتظاهرين والناشطين منذ بداية الثورة السورية، ثم افترقت عن زوجها الذي اضطر بعد فترة إلى التخفي بسبب ملاحقة الأمن له.

“كنت أراقب طريق منزلها من نافذة مطبخي، وعندما تعجّ الساحة بين منزلي ومنزلها بالأمن أو عناصر الجيش أُسرِع للاتصال بها والاطمئنان عليها، إذ كانت سميرة تسكن وحيدةً في المنزل”، تقول لينا الوفائي صديقة سميرة منذ الثمانينات، وزميلتها في المعتقل بدوما، ورفيقة الحماس والنضال والثورة. “بعد أكثر من عام غادرت سورية وهي ذهبت للداخل أكثر، لحقت ياسين إلى الغوطة وأنا رحلت إلى المنفى، اليوم أعيش عقدة ذنب الناجي، وصديقتي خطفت من جهة مجهولة”.

تعرّضت رزان زيتونة وفريق عملها في الأشهر القليلة الماضية إلى تهديدات وحملات تخوين عديدة، لم يكن مصدرها النظام كما اعتادت، بل هذه المرة من طرف آخر لم يتقبّل فكرة ما تقوم به. “الأمر أصبح صعباً جداً في الغوطة الشرقية، بالنسبة لناشطة سلميّة مدنية بسبب الواقع العسكري في المنطقة، ووجود قوى متشددة قد لا ترغب بتواجدها وعملها الذي يكرّس المدني ويقدّم المعونات الإغاثية للناس من دون أية أجندات”، تعلّق الكاتبة ريما فليحان، “رغم كل شيء كانت رزان مصرّة على البقاء حتى يسقط النظام، وإنها لن تغادر مهما حصل”.

عمل رزان وفريقها في الغوطة الشرقية لم يقتصر على توثيق الانتهاكات، بل قاموا أيضاً بمساعدة العديد من الناشطين بتأسيس مؤسسة خاصة لدعم المشاريع الصغيرة والمبادرات، وأسّست مع”منظمة سوريات من أجل التنمية”، ثلاثة مراكز في الغوطة للنساء، تحمل اسم “النساء الآن”، كما عملوا على تنفيذ مشاريع ثقافية، فأنشأوا مكتبة عامة وقاعة مطالعة في عربين وحمورية، وكانوا على وشك افتتاح المكتبة في دوما قبل اختطافهم، ومشاريع اقتصادية أخرى صغيرة لتمكين النساء.

“كانت حواراتنا عملية: ما هي نوعية الكتب المطلوبة لإنشاء مكتبات. المشاريع المختارة للنساء. وسائل اتصالهن بالعالم الخارجي. حول طبيعة العمل الممكن لهن في ظروف الحصار. تفاصيل لا تمت إلى عالم الكتابة، ولا إلى المصطلحات النخبوية الرطينة. نتحدث بجمل مقتصدة، كلمات بسيطة جداً، مفردات اعتيادية، وعابرة، مثل موتنا اليومي”، تقول الكاتبة سمر يزبك، “تُعلِّمُك الصبر والصمت، وكيف يمكن لك أن تفكّر بسوريا قادمة، يعيش فيها أطفال القاتل والقتيل، في مستقبل ممكن. وكيف يمكن أن تزيدك الكراهية تسامحاً وغفراناً. الغفران القائم على القصاص العادل بالتأكيد. إذا كان مقدراً للثورة السورية أن ترفع أيقونتها، فصورة “رزان” ستحضر في المرتبة الأولى، وخطفها ورفاقها يمثل الفعل الأكثر وضوحاً لسرقة جوهر الثورة، وانزياحها عن هدفها الوطني العادل، هكذا أستطيع وصف رزان زيتونة: امرأة تتمرن على العدالة، بصلابة الحديد، ورقة الفراشة، وتحمل الثقلين ًمعاً، ثقل الهشاشة، ومكابدة صيرورة المعنى.”

موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى