الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات الناسياسين الحاج صالح

رسائل إلى سميرة / ياسين الحاج صالح

 

 

رسائل إلى سميرة(3)/ ياسين الحاج صالح

هذه هي الثالثة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها.

*****

حتى إذا أمكن تخيل الظروف العامة المتدهورة، ربما تتساءلين يا سمور: كيف حصل أنك مغيبة منذ ثلاث سنوات وسبعة أشهر وعشرين يوماً، وأنت تعرفين أن لنا أصدقاء ومعارف، إن لم يكونوا في قيادة المعارضة الرسمية، فهم قريبون منها ولهم علاقات ونفوذ؟ هذا موضوع لا يسرني الكلام فيه، لكن لا بد مما ليس منه بد.

الحقيقة أن ما تعرفين من أجسام معارضة أصدرت بيانات وقت خطفكم، لكن كان هذا هو كل ما فعلوه تقريباً. ويبدو أن بعض شاغلي المواقع السياسية النافذة اتصلوا وقت جريمة الخطف بجهات إقليمية مؤثرة مثل وزير خارجية قطر، والظاهر أن هذا تكلم في الأمر فعلاً مع سلطة الأمر الواقع والمشتبه بارتكابها الجريمة، جيش الإسلام، لكن دون ضغط حقيقي، ودون متابعة منذ ذلك الوقت أيضاً. وللأسف لم يتابع أصحابنا المعروفون النافذون القضية، ولم ينطق بعضهم بكلمة أو يطلق تصريحاً أو يحاول ممارسة ضغط، أو يكتب مقالاً، أو يعرض مساعدة من أي نوع، عليَّ أو على أهل رزان ووائل وناظم. أخجل أن أعترف لك بذلك يا سمور. ولا أريد أن أذكر أسماء أو تفاصيل، وهناك الكثير منها.

لا تفهمين لماذا؟ أجد صعوبة في فهمه أنا أيضاً. لكن أقدّرُ أن هناك شيئان أو ثلاثة. يبدو الجماعة أولاً منشغلين بأنفسهم وعلاقاتهم وسيرهم، ولم يبدُ أن في داخل أكثرهم ما يثقّله أو يعطيه وزناً وميزة مُقدّرة، شخصية أو عامة. وثانياً: فتّشي عن السياسة! عن المصالح السياسية: من هو من، ومن هو مع من، ومع من تنفع العلاقة ومع من لا تنفع؟ نحن لسنا قوة تملك المال أو السلطة أو العلاقات، نفعنا قليل لأي باحثين عن منافع يا سمور. في الوقت نفسه نحن، أعني أربعتكم وأنا وأصدقاءً وأشباهاً لنا، خارج السيطرة، لسنا تابعين لأحد، ولا يضمننا أحد، وليست عيوننا مكسورة أمام أحد. هذا يجعلنا أشبه بذكرى مزعجة من زمن فات في عين الوجهاء الجدد، وفي أقل حال أناساً يستحسن تجنبهم من طرف هؤلاء العاقلين المنضبطين المضمونين. ولا أستطيع إلا أن أقول، ثالثاً، إن الجماعة أظهروا قلة حسّ وقلة إنسانية لم أكن أتوقع مقدارهما. أخجلُ أن أكتب يا سمور أن بعض من تعرفين لم يتصلوا بهاتف أو يرسلوا إيميلاً للتعبير عن تضامن أو للسؤال… أخجلُ لأن هذا يظهرني ساذجاً على الأقل. أضيفُ بعد هذا كله شيئاً رابعاً: الغباء. أياً تكن المصالح الشخصية والسياسية، كان يمكن للجماعة أن يعطوا لأنفسهم بعضَ وزنٍ وبعضَ استقلالية لو أعطوا قضيتكم الاهتمام المستحق، ولكانوا خاطبوا قطاعاً متنوعاً ومهماً من جمهور الثورة وجدَ نفسه غير ممثل في الهياكل التي قامت باسمها وتصدروها هم، ولوفروا لأنفسهم هامش مناورة أوسع حيال مجموعات وقوى، قد يمكن (بمشقة) فهم أنهم لا يستطيعون القطيعة معها، لكن كيف يمكن فهم أنهم لا يستطيعون نقدها والتمايز عنها والاعتراض عليها؟ ليس فقط لم يساعدونا، لم يساعدوا أنفسهم أيضاً. هذا تواضعٌ في المؤهلات، وفي الضمير، وفي الخيال، وفي المهارة السياسية. انتهازيونا الكرام محدودو الذكاء.

سأضرب لك مثالاً. قبل أكثر من عام صادفت شخصاً مهماً تعرفينه، وهو يعرفك ويعرفني جيداً جداً، وكان التقى بزهران علوش وقت جاء إلى تركيا قبل في نيسان وأيار 2015، ولم يفتح فمه بكلمة في شأنكم. أحسَّ بجفافي، فبرَّرَ نفسه بالقول: «مو طالع بإيدنا شي»؟ قلتُ له وقتها إن هذا الكلام غير صحيح. لكن قبل حين، صارَ هذا الرجلُ الذي «مو طالع بإيدو شي» في موقع مهم في الائتلاف. يصعبُ التعليقُ على الأمر. من «لا يطلع بإيدهم شي» يُستحسن أن يجلسوا في بيوتهم بدل تصدّر مواقع العمل العام المفترضة، وإلا فإن زعم «مو طالع بإيدنا شي» يخفي انحيازاً ضدنا وحسابات صغيرة وأنانية وإرضاء قوى مجرمة، لكن نافذة، على حساب المناضلين الديموقراطيين غير النافذين.

وبمناسبة «مو طالع بإدينا شي»، أعتقدُ يا سمور أن نوعية تطلعات الجماعة وروابطهم حدَّت بالفعل من خيالهم، فلم يعد «طالع بإديهم» تَخيّلُ إمكانية تنظيم أنشطة احتجاجية مثلاً أو المشاركة فيما بادرنا إليه نحن من أنشطة، أو دعم أعمال فنية، أو إطلاق مبادرة إنسانية بمناسبة ما (ذكرى الثورة مثلاً، ذكرى تغييبكم مثلاً)، أو رفع صوركم في اجتماع ما، هذا كيلا أقول مقاطعة جيش الإسلام، وربما إصدار كتيّب عن ممارساته في الغوطة الشرقية، أو إطلاق مبادرة كبيرة من طرفهم في شأن قضيتكم.

قبل أن يكون هذا خذلاناً لا يغتفر لك ولرزان ووائل وناظم، هو خذلان للثورة السورية وقيمها. ثورة المغمورين الذين لا شأن لهم.

لا يغتفر. ولم أجد طوال ما يقترب من 44 شهراً أسباباً تخفيفية تساعد على التفهم والغفران.

والمثال السابق واحد من أمثلة كثيرة متكررة، سأفصّلها لك حين تعودين، لكنها تقول إن لدينا مشكلة عميقة، عميقة جداً، في المعارضة التقليدية التي ننحدر نحن، أنت وأنا، منها يا سمور. الجماعة في موقع آخر ليس موقع الثورة، ليس في موقع قريب ممن اعتقلوا وعذبوا وقتلوا، ومن خطفوا وغيبوا، ومن هجروا، ومن يسكنون اليوم في الخيام داخل سورية وخارجها.

لا أتجنب ذكر أسماء وتفاصيل هنا من باب المسايرة، فقد صرتُ يا سمور أقل مسايرة حتى مما كنتُ من قبل. لكن لا أريد تصغير قضيتنا إلى مظلومية خاصة واتهامات وتبرير. مثلما أنت ورزان ووائل وناظم تخوضون الصراع الأقسى والأنبل، أحاول خوض صراع مماثل يُكرِّم قضيتكم، أنا الذي نجوت. والجماعة، أقول لك مرة أخرى، في موقع آخر غير كريم، ليس موقع الصديق ولا الشريك.

لكن هناك نصفٌ ملآن من الكاس كما يقال يا سمور. في العمل من أجل حريتكم يشارك أصدقاء لنا وصديقات، تعرفين بعضهم وتتوقعينهم، ولا تعرفين آخرين، كثيرٌ منهم ليسوا حتى سوريين، وبعضهم لا أعرفهم شخصياً أنا أيضاً. رغم كل شيء لسنا وحدنا يا سمور. يجمعنا بشركائنا أننا لسنا من أهل النفوذ والعلاقات، لكننا عاملون من أجل العدالة لنا ولغيرنا في هذا العالم المتدهور. يسألني عنك كثيرون في كل مكان، ويتابعون قضيتكم، ويشعرون أنهم يعرفونك. هذا يقويني، وأرجو أنه يصلك ويقويك. ويصل إلى رزان ووائل وناظم ويقويهم.

لسنا وحدنا يا سمور.

واليوم مثلما من قبل، العمل مستمرٌ من أجل حريتكم يا سمور. ولن يتوقف. أرجو أننا صنعنا قضية قوية، والأمل أن نستطيع ترجمة قوتها الأخلاقية إلى قوة قانونية وسياسية.

وأكبر أملي أن تهتمي بصحتك وأن يواتيك الصبر والعزم، إلى أن تعودي في وقت قريب.

بوسات يا قلب

ياسين

رسائل إلى سميرة (4)/ ياسين الحاج صالح

هذه هي الرابعة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها.

*****

سمور، لم يتوقف الدم خلال ثلاث سنوات ونحو ثمانية أشهر من غيابك ليوم واحد. لكن الطابع العام للصراع اليوم هو التجزؤ ومناطق النفوذ وتعدد الحروب وتوازيها. طلبنا التعددية السياسية يا سمور، فحصلنا على التعددية الحربية. وبدلاً من التعدد في بلدنا الواحد، هناك اليوم تعدد البلد.

روسيا في الساحل، ولها قواعد عسكرية في أكثر من منطقة في البلد، وحربها موجهة ضد القوى المعارضة للنظام؛ إيران في دمشق وعبر حزب الله أو مباشرة في حلب والقلمون ودرعا ومناطق أخرى، وحربها لتأمين النظام والسيطرة على البلد، بما في ذلك امتلاك عقارات وأراض في دمشق وحمص والساحل وغيرها. تركيا في جرابلس والباب، ولها حربها ضد تنظيم حزب العمال الكردستاني؛ وأميركا في الرقة والجزيرة ولها حربها ضد داعش، وعبر قوات كردية أساساً تحاصر الرقة. وقبل بدء الحصار غيَّرَ الأميركيون قواعد الاشتباك على نحو يتساهل مع وقوع «أضرار جانبية» بين المدنيين. وخلال شهري حزيران وتموز سقط بين 1300 و1500 شهيداً من ما بقي من سكان المدينة، نحو 40 ألفاً حسب التقديرات. بهذه النسبة من الضحايا المدنيين المُشرِّع سقوطهم، هذا حرب إرهابية بكل معنى الكلمة. في كل تعريفاته، الإرهاب يتضمن استهداف المدنيين أو عدم المبالاة بحياتهم بغرض تحقيق أهداف سياسية.

الحسكة والقامشلي تحت سيطرة قوات تنظيم الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركية. هناك وجود للنظام في المدينتين. دير الزور منقسمة بين النظام وداعش، ويبدو أن الروس يعملون اليوم من أجل السيطرة عليها.

أين النظام؟ لا يزال بشار الأسد هناك، لكنه نظامه منخور من داخله بعصابات ومصالح متنازعة، وبقوى نهب جائعة أطلقها ولا يبدو قادراً على التحكم بها.

وفي الغوطة الشرقية لا يبعد أن يغير جيش الإسلام جلده، وقد يجد تسوية مع النظام يتخلى فيها عن السلاح الذي راكمه وقتل به كثيرين من أهالي دوما والغوطة الشرقية، مقابل الاندارج في شبكات المصالح والنفوذ في المنطقة.

وإدلب التي أجلي إليها (وإلى مناطق في شمال حلب) سكان من العديد من مناطق البلد: داريا، القابون، برزة، الزبداني، الوعر… تقع أكثر وأكثر تحت سلطة القاعدة. قبل أسابيع قليلة هزمت جبهة النصرة التي صار اسمها هيئة تحرير الشام حركة أحرار الشام، وتكاد تنفرد بالسيطرة هناك. هذه بؤرة حرب مستمرة قد تنشط قريباً وتدوم طويلاً، وتنتزع نصيبها من الضحايا والدمار.

لم تنته الحرب، تحولت إلى حروب متوازية. وهناك أوضاع خاصة في مناطق متعددة من البلد مرشحة بدورها للتوازي والعمر المديد.

أين الثورة؟ أين الناس؟ سمور، يُقدر أن نصف مليون على الأقل قد قتلوا، ومن المحتمل أن هذا التقدير الذي ورد قبل أكثر من عام في صحيفة بريطانية زاد بعشرات الألوف على الأقل. هناك نحو 6 ملايين مهجرين خارج البلد، منهم 5,052 مليون في تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق…. و937 ألفاً في أوروبا، نصفهم تقريباً في ألمانيا. وهناك فوق 7 ملايين مهجرين في الداخل، في مناطق قريبة أو بعيدة من مواطن سكناهم الأصلية. الحركة عموماً هي من المناطق الذي كانت خارج سيطرة النظام، والتي حرص على أن تصير الحياة مستحيلة فيها، إلى مناطق يسيطر عليها النظام حيث ينجو الناس من القصف والحصار على الأقل، وإن تكن الحياة هنا أيضاً متزايدة الصعوبة. الكهرباء تنقطع كثيراً، وانقطاعات الماء متواترة، وتتراجع ملكية الناس لمدنهم ولحياتهم فيها أكثر مما كانت متراجعة أصلاً قبل الثورة، ويعيشون فيها بغربة متزايدة. الغربة ليست فقط نصيب اللاجئين المنثورين في كل مكان من العالم تقريباً (قبل عامين كان لدينا لاجئ سوري واحد في هونغ كونغ! هل صارا اثنين الآن!)، ولكنها نصيب المقيمين أيضاً، كثيرٌ منهم.

سورية التي كانت بلا داخل، وطورت عبر المظاهرات والثائرين داخلاً نابضاً بالحياة في عامي الثورة الأولين، هي اليوم بلد متعدد الدواخل والخوارج. كثير من داخل سورية خارجها، وكثير من خارج سورية داخلها. هناك سورية اليوم في تركية (فوق 12% من السوريين)، في لبنان والأردن (البلدان الشقيقان الجاران الذين يعامل فيهما اللاجئون السوريون أسوأ معاملة)، في ألمانيا، وفي كل مكان. وهناك روسيا في سورية، وإيران في سورية، والأممية الجهادية العالمية في سورية، وتركية، وحزب البي كي كي، وحتى بشار الأسد.

اليوم يعيش نحو 80% من السوريين تحت خط الفقر يا سمور، ويعيش في خيم في شمال سورية 160 ألفاً على الأقل ممن هجروا من دمشق وحمص ومناطقهما، وربع مليون من اللاجئين في تركيا (العدد الكلي نحو 3 ملايين).

ليس معلوماً عدد المعتقلين والمخطوفين، لكنه بعشرات الألوف أو فوق 100 ألف. قبل شهور صدرَ عن منظمة العفو الدولية تقرير عن سجن صيدنايا يقدر أنه ربما جرى قتل نحو 13 ألف معتقل في السجن بين أيلول 2011 وآخر عام 2015. أعدموا شنقاً، وهذا غير من يموتون من الجوع والمرض في هذا المكان الذي سماه التقرير «المسلخ البشري»، أو في فروع المخابرات.

مصير الثورة هو مصير هؤلاء الناس يا سمور، من قتلوا ومن دمرت بيوتهم، والمعتقلون والمعذبون، والمهجرون في الداخل والخارج، والمفقرون، وسكان الخيام، والأحياء الفقيرة. مجتمع العمل السوري الذي قام بالثورة جرى تحطيمه من أجل تحطيم الثورة، ونُثِرَ حطامه في كل مكان يا سمور.

في الشتات السوري، في هذا السوريات المتناثرة في القريب والبعيد، يحاول كثيرون ممن حالهم أقل سوءاً أن يفعلوا شيئاً. يعاني بعضهم، وبخاصة من الجيل الشاب، أزمات مجتمع المقتلعين المتنوعة، ويتعثرون قليلاً أو كثيراً في حلّها، يتحللون هم أنفسهم حين يخفقون في حل مشكلاتهم. البعد عن البلد، تفكك الأسرة، تفكك نظام الإلفة والتوقعات مع تحطم بيئات اجتماعية كثيرة في البلد. هذا قذف كثيراً من الشباب والشابات في أوضاع مقلقة ومزعزعة دون عون من أحد في الغالب.

لكن هناك أيضاً من يتعلمون في الجامعات أو يطورون مهاراتهم في مجالات مهنية وثقافية متنوعة ويجيدون لغات أجنبية. ربما خلال سنوات قليلة من اليوم نجد آثاراً إيجابية لذلك، تعوض جزئياً عن مأساة بلدنا. شيء قد يشبه ما حاولنا القيام به في السجن من تعلّم، ومن تغيير أنفسنا تعويضاً عما تبدد من حياتنا.

لكن كنت أدرك منذ أيام السجن يا سمور أن لا شيء يُعوِّض، ولا شيء يُعوَّض. وما هو صحيح بخصوص السجن، هو أصح بعد بخصوص هذه الحصار الشامل للثورة والتدمرة الشاملة للبلد. أنت تعرفين ذلك جيداً حين قلت في أوراقك إن السجن الذي عرفته مع رفيقاتك كان مزحة بالمقارنة مع الحصار. وأنت اليوم أكثر من تعرفين أن الحصار مزحة بالمقارنة مع الحصار داخل الحصار، الحصار المضاعف، الذي أنت بالذات رهينته. غيابك لا يُعوَّض، لا شيء يُعوِّض عنه يا سمور.

ليس في قلبي أن أقول لمحاصريك: حاصروا حصاركم لا مفر! ولا أظن أن محمود درويش كان سيقول ذلك لو كانت له حبيبة مكانك وكان هو في مكاني، وكانت الحال مثل الحال.

لكن مثله نحاول تربية الأمل. أو اختراعه.

وأول أملي يا سمور أن تكوني بصحة طيبة، وأن تبقى قدرتك على السخرية معافاة كما كانت دوماً. هذا عوضي الوحيد.

بوسات يا قلبي

ياسين

رسائل إلى سميرة (5)/ ياسين الحاج صالح

سمور، حاولت في الرسالة السابقة أن أعطيك فكرة عن الوضع الإنساني لسورية، ويقال عنه بين حين وآخر إنه أسوأ أزمة إنسانية منذ أيام رواندا عام 1994، وأكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ما أجده أنا فظيعاً هو شيئان. أولاً أن نكبتنا جرت عملياً بإشراف عالمي، وبحضور أميركي وروسي وفرنسي وبريطاني، ودون نقص في المعلومات الموثوقة، وطوال ست سنوات ونصف تقريباً (وليس ثلاثة شهور مثلما في رواندا)؛ ثم إن عنوان هذه الكارثة الوطنية والإنسانية، بشار الأسد، ليس في موقعه بعد كل هذا الوقت، بل يجري الكلام اليوم عن «إعادة تأهيل» النظام، وهو ما يعادل مكافأته على هذا المسلسل الإجرامي الخارق.

ما معنى ذلك يا سمور؟ ما معنى أن يقتل نصف مليون، وتحطم حياة الملايين، وتعمل القوى القائدة في النظام الدولي، وفي عالم اليوم، على إعادة تثبيت الأوضاع التي أدت إلى الكارثة، والطاقم الحاكم المسؤول مباشرة عن مقتل أكثر من 2% من محكوميه؟ معناه ببساطة أن موت من ماتوا لا قيمة له، أن عذاب من عُذِّبوا لا اعتبار له، وأن تحطيم حياة الملايين لا مقابل له. أعتقد أنه يقال لنا أن مئات الألوف الذين قتلوا ذهبت حياته هدراً، وكذلك صرخات كل من عذبوا، وكل آلام الأمهات والآباء والأطفال لا شأن لها ولا اعتبار، وأن هذا كله ليس ثمناً لأي شيء، ولا يعود عليكم بأي نفع. ليست الدماء ثمنا للحرية، وليس الضحايا قرابين للخلاص؛ وباختصار: موتانا ليسوا شهداء، وليست لنا لقضية. ولن تؤدي المحنة الرهيبة إلى التغيير السياسي، ولن يحاسب القتلة ولن تتحقق العدالة، ولن يُفتح أفقٌ جديداً أمام البلد، ولن يصير السوريون في موقع أفضل للتحكم بحياتهم وصنع مستقبلهم.

يعني أن موت من ماتوا لن يحمي حياة من ظلوا أحياء، وأن عذاب من عذبوا لا يضمن في شيء ألا يعذب من لم يعذبوا بعد.

هل يمكنك أن تتخيلي ذلك يا سمور؟ حين تحرم معاناتنا من أن يكون لها معنى، نخرج عملياً من الدائرة الإنسانية التي هي دائرة معاناة ومعنى، فإما أننا ندرج في دائرة الأشياء التي لا تعاني ولا تعني بينما يكون مهندسو نكبتنا وحدهم البشر، أو نكون بشراً مخفوضي المرتبة، بينما مهندسو نكبتنا فوق بشر، وربما آلهة. هل تتخيلين ذلك يا سمور؟ العنصرية تتفوق على نفسها، وعلى حساب كائن مثل داعش يستطيع أي عنصري فاشي أن يضع على وجهه قناع المتحضر المتحرر الرفيع الشأن.

حين يعتبر موت 100 منا مثل موت 1000 مثل موت 100 ألف مثل موت مليون، صفر في كل حال، فإنه يقال لنا عملياً إن كل واحد منا وكلنا معاً صفر، وإن إبادتنا ليست خسارة، ولا عواقب لها. لا بد أنهم آلهة أولئك الذين أخرجوا محنتنا على هذا النحو حتى تكون قلِّتنا مثل كثرتنا أمامهم. وبالفعل تقارب قضيتا من مدخل «الحرب ضد الإرهاب»، الذي لا يكتفي بإباحتنا، بل هو حكم مسبق بالإدانة علينا كإرهابيين أو «حواضن اجتماعية» للإرهاب، مثلما قال بشار الأسد. هكذا نسير من الحرمان من المعنى إلى الإباحة والحرمان من العدالة إلى الإبادة والحرمان من الحياة.

هذا مرعب يا سمور. أن نهجر وندان، أن نعذب وندان، أن نقتل وندان. أن يدان المعتدى عليهم والمقتولين بدل المعتدين والقتلة. مرعب أن نلعن هكذا، أن نعامل كملعونين من آلهة قاسية، متروكين لعذاب بلا نهاية، لا يجدينا شيء ولا ينقذنا شيء.

يقولون إنه لا بديل عن بشار الأسد، يجددون انتدابه علينا لأنه مضمون وتحت السيطرة. ما يريده المتحكمون بعالم اليوم هو امتلاك تغييرنا، هو أن يقرروا هم مقدار التغيير واتجاهه وإيقاعه ومحصلاته، وليس نحن. أي أيضاً ألا يكون لنا تاريخ. أو أن يكون تاريخنا بالكاد فرعاً من تاريخ المتحكمين.

وما يروّع في كل ذلك يا سمور هو أنه حكم مبرم على أحسن جهودنا بأن لا تترك أثراً، وبأن لا يثمر شيئاً كل ما يمكن أن نقوم به بإخلاص. فعلنا مثل عدم االفعل، ومحصلته في كل حال صفر. هذا تسليم لليأس، بل هو حكم بالموت، واستئناف لعمل بشار الأسد.

في هذا القصة السورية لا تشبه غيرها من قصص التاريخ الحديث المليء بالدم والعناء. القصص الأخرى إما كانت غير معلومة بهذا القدر، أو كانت محلية لم تشارك فيها القوى العالمية القائدة، أو هي لم تستمر كل هذا الوقت، أو لم تكن مهولة الكلفة البشرية البشرية والمادية ومدمرة للمستقبل مثل قصتنا. أما أن تكون القمة الدولية موحدة أو هي تتوحد بعد انقسام في بلدنا إلى جانب القاتل الأول (أو في حياد إيجابي تجاهه)، فهذا ما يجعل قصتنا عالمية، قصة العالم.

والمشكلة أن الاستخلاص السياسي الوحيد الصحيح من ذلك هو وجوب تغيير العالم. إذ ما دام العالم هو العائق أمام التغيير، وهو من ينكر على حياتنا المعنى، وجب أن يتغير كي نحيا ويكون لحياتنا معنى. لكن يا سمور هذا يعني الحكم علينا بالخروج من الفعل، من السياسة، من محاولة التأثير على مصائرنا إلى أمد يطول. تغيير العالم ليس كلمة تقال، إنه اسم لمصير رهيب. تعلمين هذه من عملنا لتغيير سورية. العالم سورية كبيرة يا سمور، وتغييره يعني تعميم الرهيب الذي أصابنا في العالم كله.

لكنه يبقى التحدي الوحيد الذي من شأن الاضطلاع به أن يعيد المعنى إلى عنائنا، ويكرم ضحايانا، ويجعل من مأساة سورية حدثاً مغيراً لعالم يجب أن يتغير. ما لا معنى له هو العالم الذي ينكر معنانا، وتغييره هو الواجب من أجلنا ومن أجل غيرنا ممن يعانون كثيراً ويعنون قليلاً.

تعرفين سمور أن معلمنا القديم ماركس كان أوجب على الفلاسفة تغيير العالم وليس الاكتفاء بتفسيره، وفيما بعد أناط تغيير العالم الذي كانت الرأسمالية توحده بالبروليتاريا، الطبقة المستغَلة والمنظمة في عالم الرأسمالية، التي ليس لديها ما تخسره من الثورة، ويمكن أن تكسب كل شيء. في عالم اليوم، المدعوون إلى تغيير العالم هم من ينكر عليهم العالم المعنى، من يطردون من التاريخ، من يقتلون ويعذبون ويهجرون، ومن يُقلّل من شأنهم طوال الوقت.

نحن يا سمور بروليتاريا المعنى، المنبوذون خارج المعنى، الملعونون المدانون الذين لا يحق لهم أن يدينوا، الذين ينكر عليهم القول في شؤون الخير والشر.

قضيتنا اليوم هنا يا سمور. في موقع غير مستقر بين إنكار المعنى علينا وبين التطلع المأساوي  إلى تغيير للعالم من أجل أن يكون لنا معنى.

ومن تغيير عالمنا القريب أولاً. الإسلاميون، وهم مشمولون بإنكار المعنى مثلنا، أضيق أفقاً وأشد أنانية من أن يكونوا قوة للتغيير وللمعنى. أنت شخصياً تجسدين أكثر من أي إنسان آخر صغر الإسلاميين، وعجزهم المتأصل عن المساهمة يسهم في تجدد العالم، مبنى ومعنى. عدميون، يائسون وبائسون.

نحن يا سمور من لا نخسر أي شيء من تغيير عالم اليوم. نحن الملعونون الذين لا معنى لنا غير العمل على تغيير عالم ينفي معنانا. نحن الذين منك ومعك.

لكن، مرة أخرى، هذا مصير رهيب وليس فكرة شجاعة تُدوّن لننتقل إلى غيرها. والمصير يملِك ولا يُمتلك. أعرف هذا منذ أن خُطفت وغيبت. أراه بعيني وبعينك.

«في عالم يهلك»، «الواحة» هي إنت في حصارك المضاعف أو المثلث. اسلمي لي يا سمور.

بوسات يا قلبي

ياسين

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى