الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات الناسياسين الحاج صالح

رسائل إلى سميرة (9)/ ياسين الحاج صالح

 

 

 

هذه هي التاسعة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها.

هل أنتِ على علم بما يجري حولكِ، سمور؟ لا شك أنك تسمعين أصوات القصف، وربما تُقدِّرين مما تسمعين من أصوات، ومن تصرفات سجانيكِ، أن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة. مختلفٌ جداً يا سمور. يبدو أن إمارة جيش الإسلام تلفظ أنفاسها الأخيرة، على يد قوات الاحتلال الروسي التي تقود الحرب والتفاوض معاً، وتترك لمن في أمرتها من جماعة النظام التعفيشَ وإعلانَ النصر وإذلالَ السكان. والسؤال اليوم ليس ما إذا كانت الإمارة ستنتهي أم لا، بل كيف تكون النهاية وماذا سيكون المصير: نقلٌ إلى الشمال، مناطق حلب وإدلب، لكادر جيش الإسلام وعائلاتهم، كما وقعَ لمقاتلي حرستا قبل أيام؟ أم إلى درعا؟ أو يعملون كشرطة محليّة وفق بعض المعلومات، التي إن صَحَّت فلن يكون هذا غير مخرج قصير الأمد.

وفي كل حال يبدو أن الجماعة سيُسلِّمون سلاحهم الثقيل والمتوسط الذي استعرضوه قبل نحو ثلاثة أعوام، واستخدموه فقط لفرض سلطتهم في دوما. كم أتذكَّرُ ذلك الاستعراض يا سمور؟ كأنما كانوا يعرضون لعيوني بالذات كم أن حراسةَ سجنكِ قوية! سلاحهم يُذكِّرُ بسلاح النظام الكيماوي الذي لم يُستَخدَم إلا ضد السوريين قبل نزع قسم منه من النظام (والتغاضي الدولي عن الاحتفاظ بقسم آخر، وعن استخدامه، ضد السوريين طبعاً).

لا أستطيع إلا أن أُرحِّبَ بانكسارِ دوام الوضع الذي غَيَّبَك، وبكسر إمارة حُرّاس الغياب الأشرار. لكني كنت أفضّلُ نهايات أخرى، لا تقود سكان دوما والغوطة الشرقية إلى هجرة بيوتهم وأراضيهم.

كنتُ أُفضِّلُ صحوةَ ضمير من طرف أحدٍ ما في «جيش الإسلام»، فيحررونكم ويعتذرون منكم ومن جمهور الثورة.

كنتُ أُفضِّلُ أن يتفكَّكَ «جيش الإسلام» داخلياً، وتتحررين مع رزان وائل وناظم.

كنتُ أُفضِّلُ أن يُهزم «جيش الإسلام» على يد مقاتلين محليين يحررونكم، ويدافعون عن القضية العامة التي خانها التشكيل العسكري الديني المتعصّب.

وكنتُ أُفضِّلُ، ولا أزال، أن ينال قادة هذا التشكيل الإجرامي عقابهم العادل، العسكريون منهم والدينيون. لكن فاتَ وقتُ هذه الأماني.

سجناءُ النظام السابقون، الذين انقلبوا سجانين بينما المنطقة التي يُسيطرون عليها محاصرةٌ من النظام، أي سجينة، لا يزالون سجانين عليكِ وعلى شركائك، بينما سجنهم يضيق، حتى لا يكاد يكون أكبر من سجنكِ يا سمور.

يبدو أن آخر ما يتخلى عنه متسلطون هو سلطتهم على مصائر غيرهم. ظلَّ النازيون يأخذون ضحاياهم إلى معسكرات الاعتقال حتى وجيوشهم تتراجع وسلطتهم تنهار. ولم تتخلَ داعش عن مخطوفيها، ومنهم فراس واسماعيل يا سمور، حتى بعد أن طُرِدَت من الرقة (هل رويتُ لكِ ما جرى؟ هل قلت لك إن 80% من المدينة مدمّر، ومنها بيتنا؟). ولكانت دولة الأسديين احتفظت بزنازينها ومعتقليها حتى اللحظة الأخيرة لو اقتربت هذه اللحظة. وكانت قريبة.

ربما يظن أولئك المتسلطون أنهم طالما يمسكون بمصير بشرٍ، فإن مصيرهم لن يكون مصيراً بشرياً مثل مصير البشر. هذا يُذكِّر بأن السلطة هي سلطةٌ على بشر، أن المتسلطين يحتاجون إلى مُتسلَّطٍ عليهم، أجساد مباحة للخطف والتعذيب والتغيبب، أنهم مثل صيصان منتوفة الريش دون ذلك.

أكثر ما يحبط في قصتنا السوريّة يا سمور هو فوزُ القَتَلَة بالحصانة، حتى قَتَلةُ داعش أُتِيحَ لهم أن يخرجوا من الرقة بعد أن كانت تدمرت المدينة بالكامل تقريباً! إذا كان هناك شيء واحد ثابت في تقلبات قضيتنا خلال سبع سنوات، فهو أن أبواب نجاة كبار القتلة من مصير ضحاياهم كانت مفتوحةً على الدوام. كم كنتُ أودُّ أن أراهم، وترينهم، على حقيقتهم: صيصان منتوفو الريش، تافهون، مثيرون للاحتقار.

*****

وضعنا معقدٌ يا سمور.

أعترفُ أني لا أزال أشعر بالضيق من وصفٍ متواترٍ لقضيتنا السورية بأنها معقّدة. هذا لأن التعقيد هنا لا يعني فقط أنها تحتاج تحليلات مركبة للواقع مما نحاول القيام به، بل ويزكي الانصراف عنها وتفضيل تبسيطها. المشكلةُ أن التبسيطَ يعني تفضيلَ المألوف الذي لا يُوجِعُ العقل، ومن هذا المألوف عنفُ الدولة وشركائها من تحتها (الشبيحة) أو من فوقها (الروس والإيرانيون وأتباعهما)، الذي يصير غير مرئي مهما يكن هائلاً، وهو ما يجعل الإبادة أمراً مُحتملاً. أشتغلُ على ذلك في هذه الأيام. وكخلاصة مؤقتة يمكن أن أقول إن «سبب» الإبادة هو الدولة. كقوة «مُحتكِرة للعنف» و«سيدة» لا يحقّ لأحد «التدخل» في شؤونها الداخلية، يمكن للدولة أن تتصرف حيال محكوميها كإلهٍ دنيوي، يُدين من يشاء ويقتل من يشاء. هذا يجب أن يتغير إن كنّا لا نريد أن تكون الإبادة مستقبلنا، ومستقبل العالم.

لكن حين أجدُ نفسي أواجه صعوبةً في شرح وضعي/ وضعنا، وحين يبدو معقداً حتى لمتعاطفين حولي في ألمانيا اليوم، وقبل في تركيا، أضطرُ لتفهم التجنب العام للاهتمام بقضيتنا. أَتفهَّمُ على مضض، ولا أقبل. الأوضاع «المعقدة» مثل وضعنا يُفتَرَضُ أن تحفز على قفزة في المعرفة والتقييم. ووجعُ العقل هو ما يُفترض أن يحفز أهل العقل على تغيير مألوفاتهم المريحة. أحاولُ يا سمور الاستجابة لهذا التحدي بقدر المستطاع. أشعرُ أننا في أزمة، في العالم كله، أزمة في الفكر وفي السياسة وفي التنظيم، وفي الضمير، وأن قضيتنا «المعقدة»، ربما تكون الموقع الأنسب للنظر في هذه الأزمة. هذا لأنها قضية عالمية، موقعاً وتشابكاً وآثاراً، وتاريخاً وثقافة، لأن العالم عندنا ولأننا اليوم في العالم.

أحاولُ، يا سمور. أنتِ سندي في ذلك اليوم وأنت غائبة، مثلما كنتِ سندي في حضورك. تُعطينني القوة والوجهة.

*****

هناك اليوم ثغرةٌ في جدار سجنكِ المظلم، ثغرةٌ يدخل منها ضوءٌ وأمل، ولكنها ثغرةٌ للمخاطر أيضاً. لا ندري ماذا يمكن أن يفعل سجّانٌ سجين، سجنه يصغر ويضيق، وعقله لم يكن كبيراً في أي وقت، وضميره مختنق. أظن أن من هم مثل سجانيكِ يوجعهم عقلهم من أصغر فكرة، فيهربون إلى عضلاتهم في مواجهة الأضعف. لذلك هم مخيفون. ولا ندري ماذا يفعل السجّان الأكبر، سجّان جميع السجانين الأسدي، وهو عوَّدَنا طوال نصف قرن على أنه أسوأ من أسوأ توقعاتنا. لكننا نعلم اليوم أنه ليس سيّدَ نفسه، ليس المتصرف بأمر نفسه.

«لديَّ حلمٌ»، يا سمور. أن أسمعَ صوتكِ قريباً، وأن أراكِ، وأن نُرتِّبَ لحياتنا التي انقطعت منذ نحو أربع سنوات وأربعة أشهر. حلمي أن تخرجي إلى الضوء، تتنفسين وتزيحين أثقال سنوات الغياب المظلمة، نمشي معاً ونتكلم، نعيش «حياة كالحياة».

لا أريد أن أفكر بالصعوبات الكثيرة والكبيرة لنقلةٍ لكِ من السجن والغياب إلى المنفى. لا تشغلي بالكِ بالأمر، أرجوكِ! ستكونين بقربي، وبقربنا أصدقاء كثيرون متنوعون، شَغَلَ بالهم غيابك. ومنهم ومنا، ومن أصدقاء متنوعين لنا، يتكوّنُ مجتمعٌ متعاونٌ، جديرٌ بأن يُعاش فيه يا سمور.

من خبِروا ما خبِرنا يا سمور في جولة أولى قاسية في سنوات شبابنا، وجولة ثانية أقسى في سنوات الكهولة، لن يستحيل عليهم خوض تجربة المنفى اليوم. هناك جديدٌ واحدٌ فقط يا سمور: المنفى هو االعالم! لكن من سَبَقَ أن عرفوا أن الوطن هو المنفى، هل يصعب عليهم شيء؟

بوسات يا قلبي

ياسين

موقع الجمهورية

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى