صفحات الثقافةصفحات العالم

رسالة إلى المثقفين السوريين: أين أنتم؟

 


أمجد ناصر

لا أحد يعلم، على وجه اليقين، عدد شهداء الانتفاضة السورية الراهنة. ففي نظام بوليسي بالمطلق، كالنظام السوري، تحتكر الأجهزة الرسمية سلطة الأرقام والاحصاء، كما تحتكر سلطة النطق والرواية. ولكن

التقارير الصحافية المبنية على روايات شهود العيان تقول إنهم تجاوزوا المائتي شهيد إضافة الى آلاف الجرحى والمعتقلين، سوى أولئك الذين انقطعت أخبارهم تماماً.

هذا يعني أن النظام السوري تفوَّق على نظامي بن علي ومبارك في حصده للأرواح في أول جولة انتفاض ضده، ومن الصعب التكهّن بالمدى الذي ستذهب إليه بنادق رجال أمنه و”شبِّيحته” في صدور فتيان سوريا قبل أن ينتهي إلى ما انتهى اليه النظامان المذكوران. كل هذا الدم. كل هذا التغوّل في الأمن. كل هذا التفنن في إحداث “الصدمة والرعب” (العقيدة الأمنية-النفسية التي استعارها النظام السوري من جورج بوش الابن في حربه على العراق) لم تحظ بالقليل من حبر المثقفين السوريين المعلن.

أقصد تحديداً: شعراء وكتاب سوريا. قرأنا بيانات لمثقفين عرب تندِّد بقمع

النظام السوري لشعبه ولكننا لم نقرأ بياناً واحداً للكتاب والأدباء السوريين في الداخل، لم نسمع أصواتهم على الفضائيات التي تدأب على تقديم أصوات النظام الكاذبة، المنافقة، المزيفة للحقائق وأصوات شهود العيان وناشطي المجتمع المدني وحقوق الانسان الشجعان الذين زجَّ ببعضهم في السجون (فايز سارة، محمود عيسى، مثلا).

لا يتسامح

أعرف أن النظام السوري لا يتسامح مع من يختلف معه في الأحوال العادية. صنع من عدم التسامح هذا علامة فارقة وشم بها أجساد السوريين وجعلها عبرة لمن يعتبر. ولكنَّ هذه الحقيقة يعرفها، أيضاً، الشبان السوريون الذين قرروا أن يهدموا جدار الخوف الذي أقامه نظام الأب والابن حول سوريا منذ أربعين عاماً. هذه الحقيقة المكلفة، بالطبع، لم تفت في عضد الذين قرروا، من دون اتفاق مسبق، أن يمرَّ ربيع الحرية العربي في بلادهم. أن تتفتح زهوره في مدن حوران وشوارع دوما وأزقة بانياس وأحياء اللاذقية وغيرها من البلدات والدساكر السورية التي صبغت بلون الأقحوان.

أتذكر أن المثقفين السوريين كانوا أكثر تجرؤا على سياسات النظام عندما كان حافظ الأسد الرهيب يحكم البلاد بيد من حديد. أتذكَّر، هنا، تحديداً وقفتهم ضد التدخل السوري في لبنان. لم يبق مثقف سوري يحترم نفسه لم يوقع على ذلك البيان. أتذكر، كذلك، محاضر لقاءاتهم مع القيادات البعثية الحاكمة في أوائل الثمانينات التي استدرجتهم إلى فخّ سميّ “حواراً وطنياً” ثم بطشت بهم.

ما زالت كلمة الشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان الشهيرة: لماذا يكذب النظام، التي قالها في تلك اللقاءات، ترنّ في أذني. تلك الجملة اقتبسها الصحافي اللبناني الراحل سليم اللوزي وجعلها عنوانا لعدد من مجلته “الحوادث” ودفع ثمنها الباهظ عندما وجد بعدها، بوقت قصير، جثة مشوهة في أحراش جبل الشوف في لبنان. يقال إن يده اليمنى التي ظن القتلة المأجورون أنها خطت تلك الكلمات قد ذوّبت بالأسيد!

كلُّ هذا يخيف. من يتذكَّر “مآثر” النظام السوري ترتعد أوصاله لا شكَّ. ولكن ليس بعد هبَّة درعا التي تحولت انتفاضة عمت ربوع سوريا. ليس بعد أن هطل الرصاص كالمطر على المتظاهرين السلميين في حوران وبانياس واللاذقية وتلبيسة والبيضا. ليس بعد صرخة سميح شقير المفّزعة “يا حيف”.

فبعد أن حطم الشبان السوريون جدار الخوف السميك، الذي شيده النظام بأنين معارضيه، لم يعد الخوف مبرراً. لم يعد الصمت مقبولاً، فماذا يعني أن تكون مثقفاً سوريا وتصمت على رصاص الأمن الحاصد؟ ما جدوى الكلمة إن لم تقل الآن وهنا؟ كيف يمكن لشاعر أو كاتب يرى بلاده تترنَّح تحت ضربات رجال الأمن والشبِّيحة ويدير ظهره أو يضع يده على فمه؟

من السهل قول قولي هذا من لندن وليس من دمشق. لست قريباً من يد النظام كي ترمي بي في أقرب سجن. أعرف ذلك. لا شجاعة، كذلك، في قولي هذا ما دمت بعيداً عن غيلان الأمن السوري وبطش سجانيه. لسنا في الثمانينات عندما كانت مسدسات النظام كاتمة الصوت تتجول في أوروبا. ولست أحرّض أصدقائي وزملائي على ما أنا في منجى منه. ولكني لا أجد أمامي، في هذا الوقت السوري الصعب، سوى هذه الكلمات “السهلة”. سوى هذا الموقف “غير مدفوع الثمن”. لا أملك وأنا أرى الدم السوري يسيل بيد نظام من مخلفات الحرب الباردة، نظام قزَّم سوريا العظيمة، كبح جماح خيالها، أعاقها عن النمو، حولها مزرعة أبدية للجنرالات وأبنائهم وأحفادهم، سوى هذه الكلمات المدفوعة بحماسة قد تبدو للآخرين زائدة.

وكما قال “حكيم” الثورة التونسية، الرجل الذي يمسّد شعر رأسه الأشيب بيده المرتجفة أمام الكاميرا، أقول لأصدقائي المثقفين السوريين: لقد شابت نواصيكم وأنتم تنتظرون هذه اللحظة التاريخية التي أتاحها لبلادكم هؤلاء الفتيان الشجعان فلا تتركوا دمهم يسيل بلا نصير. لا تخذلوهم في خروجهم الكبير إلى الحرية. لا تتركوا الرصاص يخمد جذوة الأمل. هذا وقتكم. هذا أوانكم. إنه وقت كلماتكم المحبوسة، قسراً، في الصدور.

النظام البوليسي الذي فاق كذبه آلة قمعه لا يزال يكذب. إنه يراوغ للإفلات من استحقاق التاريخ، فضيقوا عليه الخناق. الأيام الأفضل التي حلمت بها قصائدكم ونصوصكم قد وصلت… في غيابكم غير المفهوم حتى الآن

 

الجزيرة نت .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى