بمثابة تحية إلى نساء سوريةصفحات مميزةفاديا لاذقاني

رسالة إلى صديق/ أقوالٌ من مهجع السلّ : فاديا لاذقاني

فاديا لاذقاني

(1) colored ink on paper 2012
صديقي العزيز
ما كان ممكناً، إلا بعد عسرٍ شديدٍ، أن أرسل لك نص الشهادة الذي وعدتك به! ليس لدوام حيرتي بين نصين كنت حدثتك عنهما. بل لقصة أخرى، خُّط على جسدي كلُّ حرف من سطورها، منذ اللحظة التي أعطيتك فيها وعدي. إنه، مرة جديدة،تنويعٌ جديد على معزوفة الموت المطيل.

2.
ما أرعب مزاودة الجرح على الجرح، القهر على القهر، الانكسار على الانكسار!
ذات مرة، شهدت سهرةً توّج آخرَ وقتها بشكل غير منتظر، حديثٌ سأخاله بلا نهاية، لصديقين عزيزين، كانا خارجين لتوّهما من أهوال تدمر. راح الأول، كما الثاني، يسهب دون توقف في وصف تفاصيل سفْر الجحيم، وكأن شرّيراً ماحقاً أرعن ينفث من فيه. أجسادٌ ترقص رقصاتها الأخيرة، أروقة رحيل “المحكومين”، وآخر كلمات نطقوها أو لم يفعلوا. كأن الصديقين راحا يتسابقان، فإن نسي الآخر تفصيلاً، زاد عليه الآخر، غير آبهَين لدموعٍ بدأت تُحبس، وأخرى لم تعد تستطيع لنفسها انحباساً. أما أنا، التي تتراكم في أضلعها حلاً وترحالاً مفرداتُ الغياب غير المحكية، فقد أصبت بالدوار والغثيان، وانسحبت هاربةً من غرفة الصالون، التي تحلق فيها الضيوفُ دائرتي رعبٍ سوريّ لا سبيل إلى كلام عنه، متهالكةً على مقعد حمّام الصديقة التي كانت تستضيفنا. مازلت أذكر أحاديث تلك السهرة المرعبة، المجبولة بالدم المنبجس، والرقاب المائلة على حبال العسف، قبل أن تطوي هذي أرواحَ أجسادها،عدماً مستطيراً.
فكأن الأجساد لم تكن، يوماً، ولا الوجوه ولا الأرواح.
3.
لل”محكوم” بالإعدام في “محاكمهم” الصورية، كان كلّ قول الظالم جملةً واحدةً: – زوّجناك حورية!
4.
ويلي على بلدي تحول قسم كبير من بشره إلى دمى محشوة، عاليها كسافلها، بالخوف.
5.
في نصوصي القديمة فجوات. الورق أصفر علاه غبار السنين. بعض الكلمات امّحى حبرُها وذابت ملامحها وتداخلت منها، بعضها ببعضٍ، الحروفُ. قصتي، في وضع هذه الورقة، بدأت ببساطة شديدة. أريد تدقيق جملتين. كما أريد الإذن المعنوي، من صاحبي الشهادتين، بنشر أو حذف بعض المقاطع. بدأت رحلتي مع الهذيان والحمّى. على الهاتف العادي، من مكاني البعيد، جغرافياً ليس إلاّ، لا يمكن لي طرح هذه الأسئلة! من الذي يخاف على الآخر؟ ممّ أخاف عليهما؟ أم هو الوعد الذي لا أريد أن أنكث به، وقد منحتهما إياه، آن حدثاني منذ زمن بعيد-قريب، بموافقتي الصامتة،على طلبهما ألاّ أحدث أحداً بما سمعت، كائناً ما كان الأمر؟ وإن كلمتهما على الهاتف – وقد فعلت مراراً، دون أن أجرؤ على مفاتحتهما بحرف- بأي حق أنكيء الجراح النائمة؟ (هل هي نائمة فعلاً؟) و أطلب منهما أن يعودا بالذاكرة (إن كان يجب ثمة عودة!) إلى تفاصيل قد يكونان مازالا يُعْملان النضالَ كي يُنسياهما إياها كل يوم؟
.. أهو واقعٌ أم أن خوفي بقي متثبتاً على نبرات خوفهما القديم؟
ولكن مهلاً.. ليس كل من خرج من السجن، يخرج السجن منه ببساطة. وإلا ماذا نقول في تفاصيل الإذلال المتعمد لاستدعاءات الأمن كل أسبوع، ثم بفاصلٍ ازداد حسب هوى ضابط متحكم قادر، وذلك على مدى سنوات طويلة طويلة بعد السجن؟
ولو حدث وكاد ينجح في نسيان السجن الخارجُ منه، ماذا عن متابعة مضايقات كل أفراد العائلة، بعيشهم وتفاصيل أيامهم حتى مخادع غرف زواجهم؟
6.
“ما هذا؟ سنظلّ ملاحقين إلى يوم القبر؟” قال لي أحدهما، على الهاتف، منذ مدة، وقد منعوه من السفر، مرةً أخرى. لا أخفيك، يا صديقي، أنني فرحت يومها قائلةً لنفسي إنه ربما تحرر من خوفه، كلِّه أو بعضِه، حتى جرؤ على هذا البوح في الهاتف!
7.
أقوالٌ من مهجع السلّ (مقتطف من نصّ كُتِب سنة 1995)
كنا متيقنين من أن سجن تدمر كان مصنوعاً بطريقة خاصة. جدرانه تجعلك تشعر بالحرّ شديداً في الصيف، وبالبرد صقيعاً في الشتاء. في الصيف، كنا نكره بعضنا بعضاً، لا يطيق واحدنا جسم الآخر يلتصق به حَرّاً ( إذ لا مكان في المهجع) فيزيدنا اشتعالاً. لكننا في البرد، نتناسى هذا الكره، فنمعن في لصق أجسامنا بعضها ببعض. نستمد، مما بقي يعمل من شرايينها، بعض الدفء.
ذات يوم. فرحْنا لثوانٍ، مذ سمعنا مزلاج الباب يُفتح تلك الفتحة الخاصة، التي حفظناها عن ظهر قلب. نعرف لكل فتحةِ بابٍ ما وراءها، ككل المساجين. دخل الوافد الجديد. كان شتاءً قارصاً.
– معك سترة؟ كيف سمحوا لك بإدخالها؟ انهالت التعليقات والأسئلة، من كل حدب وصوب، على صاحب السترة.
– أنا فلسطينيّ، وفي السجن الذي كنت فيه، في الأراضي المحتلة، يعطوننا هذه الستر في الشتاء!
أخذ بنا العجب كل مَعجب، في الوقت الذي لم تكن نظراتنا فيه لتشبع من التهام منظر السترة، وكأننا لم نرَ في حياتنا شيئاً كهذا من قبل قطّ! بل لم يتردد بعضنا في الإمساك، دون استئذان، بنسيجها كأنه يتأكد من سماكته، أو يستميحه بعض الدفء!
لم تكن الزيارات مسموحةً إطلاقاً في مهجع السل، وكلنا مازلنا على قمصاننا وألبستنا التي كنا عليها عند الدخول إلى السجن، منذ سنوات أغرقت في القدم. كثير منها تشقق وانفصلت خيوط نسيجها. أشفق الوافد الجديد على هياكلنا الرقيقة، ناتئة العظام تحت الألبسة الهزيلة. صرنا نتناوب على لبس السترة.
ذات يوم، من عمق السكون الكبير، وقد كان دوره في لبس السترة، قال قائلٌ منا:

– سترة إسرائيل حمتنا!
8.
” ألم أقل لكِ إننا، في مهجع السل في تدمر، بتنا نقسم البشرية قاطبةً إلى قسمين : قسمٍ عرف سجن تدمر، وآخر لم يعرفه”.

اللوحة للفنانة رندا مداح، وهي تشارك بلوحاتها في محور: بمثابة تحية إلى نساء سورية.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى