صفحات الثقافة

رسالة إلى قلبي/ عقل العويط

 

 

أيها القلب، يا قلبي؛ قَدَرُكَ أن تُحِبّ، ولا شيء يوقف حبّكَ إلاّ الموت. لستُ أدري إذا كان ثمة وجودٌ واقعي أو افتراضيٌّ للقلب بعد هوان الجسد. لكنْ، لو قُدِّر لي أن أعرف، لأيقنتُ أن حبّي لا يوقفه زوالٌ ولا موت، بل يظلّ شارداً في براري التكوين، باحثاً عن موضعٍ يأوي إليه، وعن ليلٍ يسترشد بأحلامه.

ليس من مناسبة لهذا الاعتراف، ولا غاية له. لكني أعترف لأني أهوى الاعتراف. أنتَ أيها القلب، يا قلبي، تَخفق مذ كنتُ جنيناً، بل قبل ذلك بكثير، ملاحقاً ظلالكَ التي تسبق مجيئكَ، ساهراً على الهواجس التي لا تكفّ سيولها عن التفجر المجاني.

أنا هو الشاعر الذي يعترف، هنا. لا تهمّني شهرةٌ أدبية. ولا جوائز. ولا مقالات تقريظ. تهمّني أنتَ، يا قلبي. وخصوصاً عندما تتكهرب، وتُصاب، فتتخربط الإيقاعات، ويتدفق عبور النبع في الشرايين. آنذاك، تصدح من أجلكَ الموسيقى الكونية، ويحفّ بكَ حاملو الأبواق، من الجانبين.

لو أُتيح للشاعر الذي أنا، أن يكون وصيّاً، لرفض أن يكون وصيّاً على قلبه. أنتَ، يا قلبي، لا ترتضي، على كلّ حال، الوصاية ولا الهيمنة العقلية. كلّما تأمّلتُ أحوالكَ، رأيتكَ واقفاً على جبلٍ خفيٍّ عالٍ لا تخشى أوجاع الانتظار، ولا الفراق، ولا أنواع التعذيب العاطفي. وهي جليلةٌ ورهيبة.

لقد ابتُليتَ، يا قلبي، بالعواطف كلّها تقريباً، وهي أعلى مراتب البلاء، لكنكَ لا تزال ماثلاً في العراء البهيّ، غير آبهٍ، ولا مكترث. هذه الحقيقة الاعترافية، ليست مدعاةً للرأفة ولا للشفقة. فهذا هو قَدَرُ القلب مطلقاً، وينبغي له أن يكون وفيّاً لأقداره. بحسب علم الحساب، يُفترض بكَ، يا قلبي، أن تترك الشرفات وملاعب الخيال، وأن تخفض جناحيكَ، وتسدل الستائر، هاشلاً متخفياً، لكي لا يعرف بكَ أحد، ولا يمتحنكَ أحد. لكنكَ تَخفق. ومن حقّكَ أن تفعل. أنا الشاعر، أُحسّ، كلّما خفقتَ أيها القلب، أن الأرض كلها، ومَن عليها، على علمٍ بالمسألة. لكأن خفقانكَ هذا، شأنٌ متصلٌ بجنون القلب الكوني.

تقيم يا قلبي في ذاتكَ. في ليل الذات الأعمق. وفي العقل الكلّي. مكتفياً بالنجوم والهواء والسهر على أحلام الثعالب والصفحات الموعودة بالحبر. أنتَ لا تهوى فنون الاستعراض، لكنكَ إذا شئتَ أن تخرج، فأنتَ تخرج مع الصمت العليل، ومع الظلال والعواصف وقوافل الجنوح، حاملاً على رأسكَ إكليل التيه، مضفوراً بتاج العزلة الكونية التي لا يدركها سوى عازفي الموسيقى في الأوقات غير المحسوبة بين الأوقات.

سلامي إليكَ، يا قلبي!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى