صفحات العالم

رسالة الأسد الى العالم: يبقى النظام أو لا يبقى أحد


عبدالوهاب بدرخان *

زلزال… حرق… تقسيم… افغانستان أو افغانستانات أخرى… في المنطقة. بهذه التحذيرات توجّه الرئيس بشار الأسد الى الدول الغربية التي يعتقد أنها تريد التدخل عسكرياً في سورية، وهو يحاسبها مسبقاً على ما يعرف جيداً أنه لم يحدث ولن يحدث. فالجهات الخارجية كافة،عربية وأجنبية، لا تطالبه منذ ثمانية شهور بأكثر من وقف القتل وإراقة الدماء. واذا كانت قوات حلف الأطلسي امتنعت عن أي تدخل برّي في ليبيا، والقوات الاميركية تستعد للانسحاب من العراق، وقوات «ايساف» تستحثّ الأيام والساعات لمغادرة افغانستان، فليس لدى أي طرف دولي – بعد هذه التجارب – رغبة معلنة في ارسال جنود الى سورية أو أي بلد عربي أو مسلم. فممَ يحذر الأسد، اذاً؟ من تأييد الشعب السوري في انتفاضته على النظام، ومن التضامن مع ضحايا آلة القتل، وبالتالي من السعي الى أي تدخل حتى لو كان لأغراض انسانية بحتة، حتى بالتعاون والتنسيق مع النظام نفسه.

خلاصة الموقف على رأس قمة النظام هي أن على العالم أن يتركه يتصرف ليخمد الانتفاضة، ويحاور من يشاء أو من يتيسّر له، ويطرح ما يسميه اصلاحات ويمضي في دوره الاقليمي كالمعتاد. أي ان السقوط والرحيل والتنحي ليست على أجندته مهما بلغت الضغوط، أما الضحايا والدماء فلم تكن لها قيمة في أي يوم إلا في ارواء شجرة النظام واستمراره. واذ تحدّث عن افغانستان فإن الترجمة العملية لموقفه هي بكل وضوح: إما أن يبقى النظام أو لا يبقى أحد.

كان الرئيس السوري أسمع تحذيراته وتهديداته لجميع زائريه من الخارج، ولا سيما الوفد البرلماني الروسي ووزير الخارجية التركي والوزراء العرب والسياسيين الذين استدعوا من لبنان، ولعله شعر بأنه لم يجر تلقي الرسالة كما أراد، لذا اختار «الصنداي تلغراف» لضمان وصولها. بل انه مدرك أن الأزمة بلغت منعطفاً خطيراً فرأى أن يحدد نياته مسبقاً. ذاك أن استشعار اقتراب الموقف العربي الى تغيير محتمل قد يفتح ثغرة لتدخل خارجي، انما ليس التدخل الذي يعنيه. فالعقوبات الاوروبية والاميركية، والمبارزة الدولية الدائرة منذ شهور، وجهود الأشقاء والأصدقاء والأعداء، لم يكن لها هدف سوى اقناع هذا النظام – وسواه – أو اجباره على عدم اهدار دم الشعب بهذه السهولة الاستبدادية. فهذه هي «القيمة» الاخلاقية الرئيسة التي يحاول «الربيع العربي» حفرها في جينات الحكام كما في الأرض وفي القلوب والعقول.

حرصت اللجنة الوزارية العربية عندما التقت الرئيس السوري على أن تكرر على مسمعه أمرين يناقضان نظرية «المؤامرة» التي ينطلق منها المضيف، وهما أولاً ان مهمتها لا تتعلق بـ «اسقاط النظام» وثانياً ان لا بحث في اي تدخل عسكري في سورية. أما العنوان الذي أعطي لمهمة اللجنة فهو «المساعدة العربية» لسورية شعباً وحكومة لأن المشكلة الداخلية تفاقمت على نحو خطير ووصلت الى طريق مسدود، ولم يعد مقبولاً عربياً ولا دولياً أن تستمر على هذا النحو. وكان واضحاً أن المطلوب أولاً أن يبادر النظام الى وقف فوري للعنف، وثانياً أن ينهي الغموض والتسويف في شأن الاصلاحات بإعلان جدول زمني للشروع في حلّ سياسي للأزمة. أما بالنسبة الى الحوار الذي اقترحت الجامعة العربية إجراءه في مقرها وبرعايتها فأكدت اللجنة اهتمامها بضمان أمن المعارضين جميعاً ما يعني أنه غير متوافر في الداخل، فضلاً عن ضرورة خلق جو مناسب من خلال وقف القتل وإطلاق المعتقلين وسحب الوحدات العسكرية من المدن والبلدات. أما الأكثر وضوحاً فهو ان الجانب العربي أراد عملية محددة متفقاً عليها والتزاماً بتنفيذها في مهلة زمنية معروفة من دون تأخير، واذا لم ينجح المسعى العربي فإن سورية ستواجه عندئذ ضغوط التدويل التي سيكون العرب من المساهمين فيها، مع التأكيد دائماً ان الأمر لا يتعلق بتدخل عسكري. لكن وقف القتل والعنف يحتاج الى ضمانات وإجراءات (قرار والتزام علنيّان، سحب الآليات العسكرية، مراقبة محايدة، وتعاون أكبر مع المنظمات الانسانية الدولية التي سمح لها النظام بالدخول لكنه قيّد حركتها…).

بمعنى آخر ارتبط نجاح المسعى العربي بتنازلات لم يبدُ النظام مستعداً لها. فالقبول بالمطالب الثلاثة الأساسية لا بد من أن يدشّن سلسلة من التنازلات، في حين أن النظام عزا ويعزو مصدر قوته الى معاندته ورفضه الرضوخ الى أي ضغط أو نصيحة من الخارج. استطراداً كان على اللجنة العربية، بصفتها حكومية وتمثل أنظمة عربية، أن توافق على «الخطة» التي يقول النظام أنه يعتزم البدء بتنفيذها لحلّ الأزمة. لكنها خطة تفضح نفسها كل يوم مع سقوط أي قتيل. وفي أي حال، أبدى النظام اهتماماً بإظهار الايجابية حيال التحرك العربي، بل لعله تطلع الى احراز تفهم لروايته للأحداث أو الى اختراق المواقف داخل الجامعة العربية، ضماناً لتعطيل أي قرار يراه في سياق «المؤامرة» عليه وجزءاً منها.

في أحسن الأحوال، كان يمكن أي اتفاق بين الجامعة ونظام دمشق ان يكون فاعلاً ومجدياً لو أنه أبرم قبل خمسة شهور على الأقل. وبسبب التعقيدات الكثيرة التي طرأت فإن أي اتفاق يعقد الآن سيستخدمه النظام لتمرير مرحلة ولإضعاف زخم الانتفاضة. وبعد تصريحات الأسد الى الصحيفة البريطانية لم يعد هناك أي شك في المنطق الذي يفكر النظام ويتصرف في ضوئه. فهو يبدي استقواءً مبنياً على ثلاثة عناصر على الأقل: 1- تعطيل أي قرار دولي ضدّه. 2- التهديد بإشعال المنطقة. 3- ارتياحه الى كون المعارضة لا تزال مفككة ولم تستطع أن تطرح مشروع بديل من النظام.

لذلك يجدر العمل لجعل مطلب حماية المدنيين قائماً وممكناً. فمع اصرار النظام على البقاء وعلى الاستمرار في القتل، ومع استبعاد أي تدخل عسكري خارجي وازدياد الصدامات المسلحة بين العسكريين النظاميين والمنشقّين، تبدو فكرة الملاذات الآمنة التي سبق أن طبقت في العراق (1991) والبوسنة (1993) ورواندا (1994) صيغة ملائمة للتعامل مع المعضلة السورية الراهنة. وعلى رغم صعوبة تطبيق هذا الخيار إلا أن ثمة تفكيراً جدياً في طرحه ليشمل جغرافياً معظم المدن الكبرى والبلدات التي يتركز القمع الدموي عليها، على أن يُدرس بعناية لأن أي خلل قد يؤدي الى كوارث انسانية، كما حصل في مجازر رواندا والبوسنة (سريبرينتسا). فمن بين التجارب الثلاث وحده ملاذ شمال العراق حقق المتوقع منه لأنه كان بحماية اميركية مباشرة، فيما فشلت الأمم المتحدة في تجنيب اللاجئين مخاطر الهجمات المعادية. وبديهي أن اعلان أي ملاذ آمن يترافق بحظر جوي فوقه، ما يعني تلقائياً وجود تدخل خارجي لا يزال صعب المنال. لكن استمرار الأزمة من دون أفق حل سياسي لا بد أن تأتي اللحظة التي تفرض على المجتمع الدولي بلورة أي خيار لئلا يشكل الاحجام عن التدخل تزكية للقتل ومشاركة فيه.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى