صفحات الثقافة

رشا عمران تاركة خدعة الشعر، متيقنة من حقيقة ما يحدث/ يوسف بزي

انتهى ذاك المجاز. انتهت تلك التورية. اللغة نفسها باتت ملعونة، لغة فصحى «رسمية»، لغة سلطة متجبّرة، ولغة منظومة متكبرة ومتعالية. وما كان موقّراً فيها صار اليوم منبوذاً ومتهماً. نحن نحدس أننا لم نستوعب بعد ما حدث حقاً ولا نعرف كيف نسميه. منذ العام 2011 بدأ الإنهدام الكبير، انهيار هائل لما ظننا أنه راسخ وصلب. إرث كامل من تقاليد الكتابة والرموز والقوانين والمعايير الأدبية والفنية، إرث ضخم من النصوص والأسماء، هو اليوم موضع شك و»مراجعة». إذ سننتبه أن مفاسد حياتنا، وإجرامية أنظمتنا السياسية، وخرابنا الحضاري، وفشلنا الأخلاقي، واستفحال الطغيان والديكتاتورية، ما كان لهذا كله أن يتوطد ويهيمن ويتمكن من دولنا ومجتمعاتنا، لو لم يكن له ذاك السند الأيديولوجي، المتواري تحت عنوان «الحداثة».

من هذا الإنتباه، ومن معاينة هذا الإنهيار، تطلع مشكلة كيف سنكتب من دون استئناف الإرث الملعون والمضجر والخاوي. كيف نكتب لغة صرنا نكرهها، نمقت كيمياءها و»جمالياتها»، وأساليبها «التشبيحية»، وخيالها المتعجرف، وتصنّعها المتعالي، والذي بات خاوياً من المعنى. وكيف نكتب أيضاً من دون استعادة التمثيل الصنمي لصورة «الشاعر» المتأله (رديف الديكتاتور «العاطفي»).

ربما من «فضائل» الحرب أنها تذهب بما كان قائماً، تخربه، تكشف هشاشته، وتفضح سره الكاذب. الحرب السورية ليست استثناء بهذا المعنى، لكنها فادحة في عمق أثرها. هي حرب في قلب «العروبة»، في معقل أيديولوجيا «الحداثة العربية». هناك حيث التربية الثقافية التي كانت قائمة على توقير بل وتقديس «الأدب الرفيع» وتقاليده و»أصالته».. وها هي تلك الثقافة بالذات تكاد تكون رديفة الشر الذي يقتل ويمد القاتل بقوة اندفاعه وتوغله في الجريمة.

الكتابة السورية تعيش هذه «التروما»، في معضلة التعبير والكتابة على الضد من كل ذاكرتها في التعبير والكتابة. كيف ستؤلف نصاً لا صدى فيه للرطانة، للكلام المنمق الضحل؟ بل كيف ستقول ما يحدث من دون أن تستأنف ما كان سائداً من لغة مغتربة، مفبركة، متعالية، كاذبة واستبدادية؟

بهذا المعنى، ليس كتاب «بانوراما الموت والوحشة» للشاعرة السورية رشا عمران، مثالاً وحيداً ولا نموذجاً استثنائياً في محاولات الكتّاب السوريين لابتداء كتابة موازية للحدث، متماهية ومتأثرة ومعبرة وملاحقة لمجريات خراب البلاد عمراناً واجتماعاً. محاولات لتأليف نص يرافق تدفق الزمن وجريانه الناري وأفعاله الرهيبة التي تعصف بالروح والجسد وتطيح بكل يقين.

ما تكتبه رشا عمران يدلنا على هذا القلق، على سؤال علاقة الأدب بالحدث، وعلى طموح «القبض على اللحظة» (التاريخية)، كما يدلنا على التحول من زمن الطمأنينة إلى زمن الثورة. ولهذا السبب تبدو نصوصها في «بانوراما الموت والوحشة» لا مبالية بـ»فن القصيدة»، إنفلات من التقنية والتوازن ومن نزعة البناء.. انفلات من الانضباط الشكلي، وتحرر واضح من المجاز والتورية.

هي شاعرة منفية، أنثى تسكن وحشتها وغربتها وكوابيسها، تعاين خساراتها الذاتية يومياً، بالتوازي مع معايشة كل لحظة من لحظات تفجّر بلدها العنيف. سيرة كاملة من وحشة شخصية وموت عمومي يتناوبان عليها وعلى قولها من دون انفصال. فهي في غرفتها لا تتوقف عن التجوال الإفتراضي على كامل جغرافيا بلدها الممزق وخرائبه. لكنه أيضاً تجوال داخلي، في كينونتها وجسدها وذاكرتها، حيث تعاين ما تهدم من جغرافية روحها وجسمها ووجدانها.

تكتب رشا عمران ثأراً من الماضي المخادع، من ذاك اليقين المزيف الذي سرق عمراً كاملاً. تكتب ضد ذاتها «الشاعرة»، ضد تواطئها مع الصمت المديد الذي كان جاثماً على حياة بلادها مموهاً بالفصاحة الركيكة. تكتب ثورتها الشخصية، معلنة يقيناً مما تراه: «متيقنة تماماً من الحدث، من الشوارع التي لم تعد مفردات في النص الشعري، من الوجوه التي انفصلت عن لامبالاتها، من الأسماء الحقيقية والأسماء المستعارة، من المدن النائية التي جردت من أحلامها، من الأحلام التي جردت من مدنها..». وفيما يشبه البيان ـ الإعتراف، تستكمل هذا البوح بيقينها الجديد: «من النساء اللواتي خلعن حجاب الخوف عن أرواحهن، والنساء الفخورات بحجاب حريتهن.. من التاريخ يلعق أرشيف الجريمة الماضية، من الحاضر يستعيد شريط المجازر اليومية… من المثقفين المفصومين، والمثقفين المحتاجين للطعن في قناعاتهم السابقة، من الشعراء الباحثين بلا جدوى عن لغة جديدة…».

كتاب مكرس لعرض أشلاء اللغة، أشلاء الصور والأفكار والموت العمومي، بل هو مكرس كتظاهرة ضد الشعر وضد القول. إعتراض على خدعة الأدب، خدعة التورية والإغتراب المتمادي في المجاز والبلاغة. بيان شخصي يمكننا تأويله كاعتذار كبير واستقالة مسرفة بمشاعر الذنب والألم. وبهذا الإصرار على التماهي بين الأنا العالقة في غرفتها الكابوسية والواقع السوري الدموي، حيث وحدتها الموحشة فائضة بصور الجثث وأكوام الدمار، وحيث الموت «الوطني» يحول جسمها وذاكرتها إلى أشلاء تشريحية، كما لو أنها جثة تحت الأنقاض.. بهذا الإصرار، تصير كتابتها كلها هي دمها الفعلي، أنفاسها الأخيرة.

لذا تكتب عبارتها الأخيرة: «ليس هذا نص شعري، هو مجرد يقين أن الحدث يحدث هناك يومياً وأنني أنا البعيدة الآن لا أكف عن اليقين به».

[«بانوراما الموت والوحشة»، صدر عن «دار نون» (رأس الخيمة، الإمارات العربية)، طبعة أولى 2014.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى