صفحات سورية

رشى هزيلة لقيادة الدولة والمجتمع/ علي سفر

 

 

لم تختلف أدوات النظام السوري في تعاطيه مع مواطنيه عما كانت قبل عام 2011، فالخضوع لسلطته يؤدي إلى منح حق الحياة ضمن جنته، حيث يستطيع السوري الذي يعمل في مؤسساته الأكل والشرب والتنفس والزواج وإنجاب الذرّية، ويمكن له الارتقاء في وظيفته، ليصبح مديراً أيضاً يجول ويختال في أروقة مؤسساته، بعلم الأجهزة الأمنية التي تتولى تحضير ملفات الإدانة له في حال قرّر التمرد. وخارج هذه المؤسسات، يمكن للسوري في حال أراد أن يطوّر وضعه أن يمارس مهناً مختلفة، فهو يتاجر ويصنع ويحرث. ولكن عليه أن يشارك واحداً من اثنين؛ الدولة عبر الضرائب الباهظة القيمة أو أحد أفراد النظام وحاشيته، ليتمكن من العمل من دون أن تركبه لعنة الدفع المستمر للدولة، فعبر الشراكة مع المتنفذين يصبح حق الدولة الضريبي خفيفاً غير ذي تأثير على الأرباح.

وفي المقابل، يؤدي عدم الخضوع لسلطة نظام الأسد إلى حرمانه من إمكانية العيش في سورية، فرفض ممارسات النظام التسلطية كان يؤدي إلى الاعتقال أو الهرب بعد استشعار خطر الأجهزة الأمنية، أو إلى الموت الذي كان آخر الحلول المنتهجة من النظام مع معارضيه السياسيين، أو أولئك الذين يخرجون عن آليات تحكمه بالسوريين. وهنا يسأل كثيرون عن الكيفية التي مكّنت، وما زالت تمكّن، النظام من إرضاء الخاضعين لسلطته، فهل كانت قمعية ذات وجه متجهم دائماً؟

يعرف كل من درس آليات السيطرة في الحقبة الأسدية، المستمرة منذ عام 1970، أنها تقوم

“يؤدي عدم الخضوع لسلطة نظام الأسد إلى الحرمان من إمكانية العيش في سورية”

على مبدأ الثواب والعقاب، أو العصا والجزرة، فهو يدأب على تقديم الرشى للجميع، ففي البلاد التي بات كل شيء فيها يخضع لدولةٍ تسلطيةٍ يقودها نظام فئوي، تصبح إصدار القوانين أشبه برشوةٍ ترضي فئةً من فئات المجتمع دون غيرها. وفي المقابل، يتم إرضاء الفئة المتضرّرة بقانون جديد، أو عبر غض النظر عن ممارسات غير مقوننة، ليشعر الجميع بأن النظام يراعي مصالحهم، وبأنه لا توجد ضرورة للخروج على سلطته. وضمن هذا السياق، يمكن فهم عبارة “كنا عايشين” التي كثيراً ما ردّدها المنتمون للتيار الثالث، وهم يبرّرون رؤيتهم الرافضة للثورة.

يتذكّر السوريون أنه، وبعد الجولات الدموية التي خاضها النظام مع تنظيم الطليعة المقاتلة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، كيف فتح النظام الباب واسعاً للتيار الديني الذي رضي بحكمه سورية، ومنحه، تحت رقابة أجهزة المخابرات، صلاحيات واسعة أدّت إلى اتساع المد الديني، ففضلاً عن تسهيل بناء الجوامع وسيطرة وزارة الأوقاف على الخطباء، صار للتجويد معاهد سميت (معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم)!

وعلى الرغم من أن أفراد التيار العلماني المؤيدين للأسد كانوا يستشعرون خطر المد الديني وينبهون إلى تناميه، إلا أن النظام كان يبالغ في ادّعاء سيطرته على كل الأوراق، ويُظهر لهؤلاء أنه “علماني” بطبيعته، وأنه منفتح ثقافياً، حيث تنشر وزارة الثقافة الكتب والمسرح والسينما، وأنه يشجع الفن والفنانين، فيقيم لهم المهرجانات الفنية، ويقلد المتميزين منهم الأوسمة ويمنحهم العطايا.

وفي الأشهر الأولى للثورة السورية، وضمن الإجراءات التي حاول النظام عبرها تفكيك جبهة معارضيه، ألغى بشار الأسد قانون الطوارئ، وشطب المادة الثامنة في الدستور، والتي كانت تخوّل حزب البعث السيطرة على الدولة والمجتمع، محاولاً رشوة المعارضة السياسية، لكن هذه الرشوة، على أهميتها، لم ترض السوريين الذين جرّبوا سياساته الداخلية طويلاً، ثم أصدر مرسوماً أعاد فيه الجنسية السورية للأكراد المجرّدين منها، بعد أن ظلت قضيتهم عالقة عقودا، غير قابلة للحل، بسبب تعنت النظام، واستفادته من بقاء المشكلة معلقة، في سياق ضربه مكونات المجتمع السوري ببعضها.

وعبر آلية الرشى نفسها غض النظر عن تشكيل أفراد يعارضون بعض سياساته بنعومة أحزاب سياسية، لكن أداء الأخيرة اللاحق ظل يوحي بأنها صنيعة أجهزته الأمنية. وأصدر مراسيم معيشية تتناول حياة المواطنين، مثل مرسوم تثبيت الموظفين المؤقتين في وظائفهم، وغيرها.

ولكن كل ما سبق لم يجدِ، ولم يمكنه من لجم التمرّد الثوري الذي استمر مدنياً وسلمياً حتى بلغته العسكرة، وتحول حربا شاملة، أمسك فيها النظام بزمام السيطرة، وصولاً إلى تمكّنه من استعادة مساحات كبيرة من مناطق خرجت عن سيطرته سابقاً، بمعونة حلفائه الإقليميين والدوليين ودعمهم المادي والعسكري.

ويلاحظ المتابعون للشأن السوري، أخيرا، أن المصالحات التي تقودها روسيا في المناطق التي يُهجر السوريون منها قسرياً، تقوم على الرشوة، بدلاً من البناء على حل سياسي يرضي الجميع، فهو يسمح للمقاتلين المعارضين أن يعيشوا أولاً، ثم يقدّم لهم الخيار: العيش في الشمال أو في مناطقه، شرط تسوية وضعهم وإلحاقهم بجيشه أو مليشياته!

وجاء جديد البدع في سياسات رشى النظام، قبل أيام، حينما حاول إرضاء منظمات المجتمع المدني، عبر الإعلان عن مشروع قانون لتعديل مواد في القانون العام، تفرض عقوبات مشدّدة على كل من يعقد زواجاً خارج المحكمة قبل إتمام المعاملات التي ينص عليها قانون الأحوال الشخصية. وشدّد العقوبات على كل من يعقد زواجا لقاصر لم يتم الثامنة عشرة من عمره خارج المحكمة المختصة، من دون موافقة من له الولاية على القاصر. وفي مقابل هذه الخطوة، أعلنت مؤسسة الاتصالات التابعة للنظام عن تطبيقها سياسة حجب المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت، في خطوة غير مسبوقة، توحي بوجود رغبة في الحفاظ على قيم الأسرة السورية المحافظة!

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى