صفحات الثقافة

رفع الكلفة مع الأبدية/ غي غوفيت

 

 

أشْيَاءٌ عدِيدَة

 

تركتَ في العشب والطِّين

شتاءً بأكمله يُعاني المظلَّة الحمراءَ الجميلةَ

ويُصدِئُ نتوءاته، تركتَ الشَّمألَ

تهدم أعشاش الأطيارِ

 

في صمتٍ، تركتَ أحواض الورود مُهمَلة

ودون رعاية تركتَ شجرةَ التفَّاحِ

التي تثري الأرضَ. عن حاجة

أو عن شرود

 

تركتَ أشياءً عديدة حواليكَ تموت

إلى حدِّ أنَّه ما بقي لكَ حتَّى ترِيحَ عينيكَ

عدَا مجرى هواءٍ يَعبر بيتَكَ.

وما زلتَ مُنذهلاً

مِن البرد يقبض عليكَ في أوج الصَّيف.

 

 

صيّاد الماء

 

ترْسانَة للرِّثَاء

 

I

 

مِن جزِّ أعشاب شهر أكتوبر-الأخيرة

قبل الحشد الأحمر وحزم الشِّتاء،

 

اليأس (أو ماذا أيضا إذا الغد

لا يوجد؟) اليأس يخنقك،

 

وأقلُّ ما يقال إنَّنا نقاوم الأدمعَ

ممتزجين بالدَّقيق الأخضر.

 

 

حيالنا الآلةُ في جرأة تَنفث

هي أيضا كأنَّها قد تسمَّمت

 

بذلك الدِّفق مِن الدَّم الرِّيفي

بينما ربَّة الفنِّ في المئزر عند العتبة

 

كي تقطع الطَّريقَ عن الهواجِس السَّوداء،

تُشارِكُ وهي تصرخُ: احذرْ

 

العشبُ يبقّعُ قميصَكَ

(ليس اليأس بذاك السُّوء، بل إنَّه

 

ضربٌ من التَّعزية، قُرصُ الدَّواءِ

الذي يقع عند المساء دون أن يُحدث صوتاً

 

في شراب المحبِّينَ القُدامى.)

 

II

 

(ونقول إنَّ الرَّبيع من أجلنا

تزوَّج تحت الزَّعرور المُزهر،

 

إنَّ كلَّ شيء أُعدَّ للسَّفرِ

بلا عودة إلى أعمقِ الفُرجة:

 

السُّقوفُ الحمراء، والأعمدةُ الفقريَّةُ

المزرقَّةُ للهضابِ والأشجار التي هي

 

بعدُ مكتوفة الأيدي في الفضاء

كما لو أنَّه لا شيء يمكن أبدا

 

أن يتغيَّر، رغم المطرِ،

والرِّيحِ، والبَرَدِ، والمحنةِ

 

الشَّائعةِ للعازف الذي يرتاب

داخل الأوبرا في حبِّه الموسيقى

 

وفي سماعها، وأيضا في تحمُّلها

والذي مع ذلك يبقى جالسًا

 

بين ملحقات الرِّثاءِ

كما تلك التَّماثيلُ في آخر الحديقةِ

يحيكُ الصَّمتَ للآلهة المُرهَقَةِ.

 

III

 

ونقول إنَّنا آمنَّا بالسَّعادَةِ

كما الأطفالُ يرمون بالرَّاية

 

فوق القليل من الماءِ في الفناء الخلفي.

هم يعلمون أنَّ أيَّ شيء بإمكانهِ

 

أن يقلب البحر على صالبه،

لكنَّهم يتظاهرون أنَّهم ينتظرون

 

موجةً أعلَى، موجةً تُؤلِمُ،

تَنزع عنهُم نُكهةَ

 

رفع الكِلفةِ مع الأبديَّة. نحن أيضا

توهَّمنا أنَّ الأرض كانت تدورُ

 

بين أحضاننا، وأنَّه يمكنها أن تظلَّ كذلك

مثلما الشَّمسُ حول شجرةِ التفَّاحِ

 

يا للخمود الوديع، حين الدُّودةُ

تحت اللِّحاء كانت،

 

والأدوات ُ مشحوذَة في المرأب المحتدِمِ

والدَّمُ في العضلاتِ يغلي،

 

عضلاتِ قصَّاب الأحلام.

 

VI

 

لكنَّ الموتَ مرَّ بيده الثَّقيلة

في خصلة شَعر الصَّيف

 

والشَّمسَ الأخيرةَ صنعَت أمامنا

شُعلةً مِن بهرجِ الزَّيزفونِ

 

الذي يرشُّ بالأرجوانيِّ والذَّهبي

حديقةَ حبِّنا المغلقَةِ وأعينَنا

 

عادةً، ثمَّ حلَّ الضَّبابُ،

ودموعُكَ، والشِّتاءُ وهو يُعلِّق

 

في أسلاك المدَى الشَّائكةِ

فستان أوَّلِ حفلة راقصة،

 

غير المدروز جيِّدا والوعد المنكوث

بتحويل ماءِ الأيَّام إلى نبيذ،

 

بتحويل الماءِ، كلَّ يَوم،

و البحرِ، و العطشِ،

 

والوجهِ المُمضِّ للعالَم،

كلَّ يَوم

عبثاً.

 

V

 

هكذا، مساءً بعد آخر،

صرنا بشرًا،

 

مقرِّين بالتَّعب، و البَرد،

وأبعاد الأجسام وقد أُعيدت

 

فجأة إلى الجاذبيَّة،

كما لو أنَّ التفَّاحةَ في تكوُّرها

 

محمولةً بأيدينا الهزيلة، مُفلتةً منها،

كانت على الأرض قد نشرت

 

في داخِلِنَا بقايا الفردوس العتيق.

هكذا، ليلة بعد أخرى،

 

صرنا وحيدين

كما مرايا غُرفِ الأطفالِ

 

في البيت المُصادَرِ: مَفتوحةً

علَى بساط الملائكة التي تكمِدُ،

 

ودون أيِّ أُفق مذَّاك

عدا الهَدمِ، حجارة فحجارة،

 

هَدمَ ما كان ظِلَّةً لسريرِنا،

ما كان قصَّةَ الحبِّ التي

 

عن التِّكرار لا تنقطعُ

يا للأسر الواهيِّ للوقت والسَّأَمِ.)

 

IV

 

على الجلاَّدِ والضحيَّة

أن يتمازجا الآن أو يندثرا،

 

تمَّت المهمَّة والأعشابُ رُدَّت

إلى المقذرة التي تبخِّرها الغربان،

 

ومنذ الآن بتنا قادرين على المُرور

من القُرمة الخضراء إلى سلَّة الزَّهر الدَّسمة

 

في الغُرف من دون أن نغسل أعيننا

إذ أنَّ رؤوسنا تدحرجت في مكان ما

 

ساكبةً حمُولة أدمُعها

قرب شجرة التفَّاح التي تَندف المدَى:

 

قد أُمسِكَ بالجسد الذي كان يَعتقد

أنَّه يأخذ الحبَّ الوحيدَ ويمسكه بين الذِّراعينِ

 

حيث الكلُّ خسارة، حيث الكلُّ ينتهي

منهارا كما الجدارُ أو مثلما نبتةُ الشَّوكِ

تلك العتيقةُ التي كانت تُتلفُ الحاصدةَ.

صيَّاد المياه

 

 

أُسُودٌ

 

القافلة وقعت في العشب العالي

وما بقي ما عاد إلاَّ حفرة هائلة

في اللَّيل حيث تَذهَب كلُّ الطُّرقاتِ

التي وحيدةً تركناها تمضي،

 

على مَضض، كما الغريباتُ اللَّواتي

يُتقِن قراءةَ الانتظارِ المتعذِّر دعمهُ

في أعيُننا وقراءَةَ الرُّعبِ من أن نَموت هُنا.

باكرا جدًّا خفضنا جفوننا،

متوهِّمين أنَّنا نقطع أجنحة الرَّغبة حتَّى الأبدِ،

لكنَّ أحلامنا كانت أُسودًا قد انحنت

علَى الماء الذي عفَّنتهُ الشَّراشِفُ،

أُسودًا تظلُّ تَزأر

عندما القافلة مع النُّجوم تَرتجُّ.

صيَّاد الماءِ

 

الصَّعاليك

هذا الجسد الرَّحِبُ المفتوحُ قبل الفجرِ

والذي في اللَّيل بالكاد يَنغلِقُ

يا مطبخَ الطُّفولةِ إذا نَويتَ أن تُسَلِّمه

فخطوةً خطوةً إلى الذين، هم في الظلِّ مثلنا،

يَرتضُون المَوتَ في الأمكنة البعيدةِ عن نيرانِكَ،

على الطُّرقات في البحر أو أعلى من السُّحبِ،

بعد عُبور الحاجزِ وتَهشيمِ آخر الصُّورِ

التي كانت من الشَّعر قد أمسكت بهم.

كانوا ضيوفَك عن بغتة، كانوا عندكَ

عمَّالَ السَّاعةِ الأخيرةِ، هؤلاء المحبِّين الذين

يأتي المطر بهم مع الرِّمال الألِقَةِ

نحو بحرٍ أكثرَ وِسعًا، عديمِ الفائدَةِ،

والآن كلُّهم، وصِقالةُ الحُلم مع اللَّيل قد وقعَت،

إلى حدِّ أنَّه ما ظلَّ غيرُ انتظارِ الجميع،

كلُّهم يتذكَّرون بطنَكَ وكبتَيكَ

وعينَيكَ المطمورتين في أنوار الشِّتاء اللَّطيفةِ

ودفأكَ الرَّديءَ جدًّا

وحديقتكَ المَليئةَ بالطُّحلب ذي العطر المتلبِّد

كما جدائلُ الملائكة في أشجار أعياد الميلاد.

أيَّتُها الذَّاكرةُ، يا سجينةَ الرِّيح، أيَّتُها الجميلةُ

أيَّتُها التي لا أحد من هزيمتها يُطلقها

حتَّى وإن ضيَّع اسمَهُ وزوجتَهُ وذاكرةَ جنونِهِ،

متاعَنا الوحيدَ في هذا المكان معدومِ الجذور

(وما الذي به نُواجه القلق الذي يشدُّ بعضَنا

إلى بعضنا، مع أنَّنا كلُّنا عن بعضنا غُرباءً

وأكثرَ عزلةً من خشَب البَقس المَصلوبِ

في صيف الحظائر الجهنَّمي، نعم، أيُّ خيط آخرٍ

كي لا نخضع في المتاهة

وجود المومياوت المُقفرِ؟)

 

أيُّها المطبخُ المفتوحُ جدًّا، أيُّها الحميميُّ في آلامكَ

مُنذ الأبدِ، في كامل الأزمنةِ، إلى حدِّ أنَّك تقدرُ

أن تقول امضوا إلى أيِّ مكان آخر وانظُروا إذا كنتُ هناك،

نحن نعلم ساخطين أنَّك موجود هناك،

أنَّك مثل اللَّيل تَنتظرُ

تمجيدَ الأصواتِ والضِّحكاتِ والأكَلَةِ

حَيث، كما القلبُ المشدودُ جيِّدا إلى المغرَفةِ

يَسكب الرَّبيع في الأطباق، أنتَ تبتسمُ

لأشباح المرآة الصَّدئة

وتُضيِّع في خطوات ما قد مضَى

تُضيِّع الذِّكريات البيضَ والسَّوداءَ

وعطرَ اللَّيلكِ العنيدَ وهو يُوصِدُ الرِّواقَ

كما الغرفةُ المغلَقَةُ حتَّى الأبَدِ، حَيث واحدًا واحدًا

يَمرُّ الأمواتُ الأعزَّاءُ والآخرونَ.

على غرار ذاك الذي في هضاب أثيوبيا العتيقةِ

كان قد عانق وردةً زاهيةَ اللَّون – جُُهد ضائعٌ-

وذاك الذي حبًّا لحصانٍ أصابهُ الجُنُونُ،

جمعتَ الكلَّ حول المائدة،

الصُّدورَ، والرُّؤوسَ، والأرجُلَ، وجناحَي المنزِلِ،

دون أن نُهمِل حصَّة كلٍّ مِنهمُ:

الماءُ، والملحُ، والسُكَّريَّةُ، والأواني،

وبمرور الوقت، النَّارُ انطفأت

الأشباحُ استعادت وُجوهَها مُفرطةَ الأحزانِ

حِلمُكَ! أنتَ تُعيد تَسوِيةَ الخشباتِ المتأوِّهةِ

وعََدْيَةَ السلَّمِ الصَّامتةِ  قِطعةً  قِطعةً،

تُعيد تَسويةَ تلكَ اللُّعبةَ المُلغِزةَ

والتي طالما وقع خلطُ أوراقها: حياةُ المطبخ الرِّيفي.

 

*شاعر وكاتب فرنسي من مواليد 1942، بدأ مدرِّساً، ثمَّ صاحب مكتبة، ثمَّ ناشراً، جاب عديد البلدان الأوروبيَّة، ثمَّ حطَّ الرِّحال بمدينة باريس. يعمل الآن عضواً بلجنة القراءة بإحدى دور النَّشر.

 

من أعماله

 

في الشِّعر:

-ترحُّل / فاتحة لبيت بلا حيطان / النَّائم قرب السَّقف / مديح لمطبخ ريفي / طريق الورود / الحياة الموعودة / صيَّاد الماء / على خطِّ الهضاب / ماريانا / قلامات ضئيلة لنهارات جميلة /…

في الرِّواية:

صيف حول الرَّقبة / طفولة كالمرأة البيَّاضة / قبر الجدي /…

في القصَّة:

رحيل / كانت، لحسن الحظِّ دوما عارية / فرلين الآخر /…

في المقاربة:

الشَّاعر أشيل شافي / نصب الرقَّة التِّذكاري / الشَّاعر أُودن أو عين الحوت / …

المترجم: محمد بن صالح

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى