صفحات الثقافة

رقصة المهاجرين السوريين/ أيمن الأحمد

 

 

قبل مئة عام كتب الشاعر الإيطالي جوزيبي أونغاريتي (1888 – 1970): “في مؤخرة القارب يرقص المهاجرون من سوريا/ في مقدمة القارب شاب وحيد يوم السبت في هذا الوقت/ اليهود هناك تحت/ يحملون موتاهم/ في شرانق حلزونية/ في اهتزاز أزقة الضوء”.

كتب الشاعر الإيطالي، المصري المولد، هذه القصيدة ما بين 1914 – 1916، خلال الحرب العالمية الأولى، وضمّها في ديوانه الأول “غبطة الغرقى”.

مئوية النص واستحضاره الآن يترافقان مع مشاهد قوارب الموت السورية التي تقطع البحر المتوسط بحثاً عن حياة مفقودة في بلادهم.

لكن لماذا كان السوريون يرقصون في مؤخرة القارب وهم يغادرون وطنهم؟ ولماذا شكّلت تلك الهجرة خلال الحرب العالمية الأولى حالة التقطها الشاعر الإيطالي؟

تستدعي علاقة السوريين بالبحر إرثاً غابراً من أجدادهم الفينيقيين، وأساطير عوليس وقدموس وأوروبا صور. يومها كان البحر المتوسط بحيرة السوريين ينشرون من خلالها ثقافتهم وأبجديتهم وخشب أرزهم وزجاجهم ونبيذهم.

لكن البحر لم يعد للسوريين كما كان لهم زمن الفينيقيين، منذ الحروب المتعاقبة التي اندلعت في يومياتهم، وأحرقت بيوتهم وذكرياتهم، ولم يبقَ لهم سوى استعادة سيناريو أجدادهم بركوب البحر رفيق أملهم وكمين موتهم الحالي.

فالاضطرابات السياسية والاجتماعية والدينية والتجنيد الإجباري من قبل الدولة العثمانية أدّت إلى موجات هجرة كبيرة للسوريين عن طريق البحر المتوسط بدأت ما بين 1850 – 1860. ولم تنته الحرب العالمية الأولى إلا وكانت سوريا قد دفعت الضريبة مرة ثانية من ناحية هجرة أبنائها خاصة من المسيحيين والدروز.

ذهبوا هذه المرة إلى أبعد ما يستطيعون. عبروا البحر من جديد إلى الأميركيتين بعيداً عن الحروب التي لا تنتهي في بلدهم. ومن قصد منهم شواطئ أوروبا أولاً لم يمكث كثيراً بعد الحالة الاقتصادية التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى، فلحقوا بمن سبقهم من السوريين إلى الأميركيتين أيضاً.

لم يملك السوريون حينها أي شيء يدل على قوميتهم أو دينهم أو جنسيتهم سوى وثائق تركية، فأطلق عليهم لقب “تركو” دون تمييز بين عربي أو غير عربي، وبين مسلم أو مسيحي.

لطالما كان ثمة مشهد مفقود من حكايات وقصص السوريين مع البحر، مثلما غاب الحديث عن السوريين في أشهر حادثة غرق عرفها التاريخ الحديث “التايتانيك”، لتكشف لنا ليلى سلوم إلياس في كتابها “الحلم فالكابوس” عن السوريين الذين ركبوا متن التايتانيك 1912، وغرقوا بصمت في الأدوار السفلى من السفينة أو ما عرف ببرج بابل.

يقول أونغاريتي: “أن تموت/ مثلما تسقط القبّرات الظمّاء/ ميتات أمام السراب/ أو كمثل السُماني/ بعد أن تقطع البحر/ ها قد خبت خفقة الريش/ إن السماني تموت/ عند أول أشجارها”.

لطالما كانت الحرب هي السبب في خسارة السوريين لوطنهم، فالحرب الدائرة الآن، التي تجاوزت عامها الثالث، دفعت ملايين السوريين (بحسب أرقام الأمم المتحدة) لترك منازلهم والهجرة حتى صاروا أكبر مجموعة لاجئة في العالم.

يتابع أونغاريتي في قصيدة أخرى: “قرفصتُ قريباً من ملابسي/ ملطّخاً بالحرب/ سجدت مثل راع بدوي/ قبالة الشمس”.

البساطة التي تمنحها نصوص أونغاريتي تشبه حياة السوريين ما قبل الحرب الحالية ببساطة عمقها وتعقيداتها الكبيرة. كلتاهما تعمّدتا بتعويذة الحرب، يستحضرها أونغاريتي من مشاهداته لأهوال الحرب خلال مشاركته جندياً في الحرب العالمية الأولى. وتستدعيها الجغرافيا السورية في يوميات السوريين المعقدة دينياً وعرقياً وسياسياً.

نصوص كثيرة لأونغاريتي تحاكي حسرة السوريين كما في هذا النص: “لم يتبق من هذه البيوت/ سوى طلل من جدار/ ولم يتبق حتى القليل من كثيرين/ كانوا يشبهونني/ ولكن لم يضع من القلب صليبٌ واحدٌ/ إنه قلبي البلد الأكثر حسرةً”.

بعد مئة عام على نص أونغاريتي لا أحد يرثي الغرق السوري الجديد ولا المهاجرين الراقصين في آخر القارب. عزاؤنا في بداية نص آخر لأونغاريتي معنون بـ”سأم”: “لمن تُهدي قطرةً من بكاء/ على إنسانيةٍ فاقدةِ الهمّة؟”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى