صفحات الثقافة

رقّة العراق والشام

 

    محمود الزيباوي

تشهد محافظة الرقة في شمال شرق سوريا صراعاً محتدماً بين الجيش النظامي والقوى المعارضة. بعدما أعلن المعارضون سيطرتهم على عاصمة المحافظة، شهدت المنطقة قصفاً متواصلاً، وأكدت المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمى إليزابيث بيريز أن تزايد القتال أدى إلى موجة نزوح أكثر من عشرين ألف عائلة من منازلها في الرقة إلى محافظة دير الزور، ونقلت وسائل الإعلام “عن مصادر عسكرية سورية أن الجيش بدأ بإرسال تعزيزات من القوات الخاصة المحمولة جوا إلى مدينة الرقة تأهباً لعملية عسكرية واسعة لاستعادة المدينة المسيطر عليها من قبل المسلحين”. بين الكر والفر، تتكرر فصول الحرب المدمرة في سوريا، وتخرب مدنها التاريخية الواحدة تلو الأخرى.

تقع محافظة الرقة في المنطقة الشمالية الشرقية من الجمهورية السورية، على الضفة الشمالية لنهر الفرات، عند الحدود التركية، وتحيط بها محافظتا دير الزور والحسكة شرقاً، ومحافظتا حماة وحمص جنوباً، ومحافظة حلب غرباً. تتألف هذه المحافظة من منطقة الطبقة ومنطقة تل أبيض ومنطقة الرقة التي تشكلّ مركزاً لها. تبلغ مساحتها حوالى عشرين ألف كيلومتر مربع، ويقدّر عدد سكانها بمئات الألوف يعمل معظمهم في الزراعة وتربية الحيوان، وهذا العدد قليل إذا ما قورن بمساحتها، غير أنه في تزايد مستمر. انتقلت هذه المنطقة “حديثا” من طور البداوة، وشهدت نمواً كبيراً في الستينات والسبعينات من القرن الماضي نتيجة للهجرة من المناطق المتاخمة لها، بعد بدء العمل في مشروع سد الفرات الذي ترك أثراً عظيماً في تغيير البنى الاجتماعية والاقتصادية في مناطق المحافظة.

تحمل المحافظة اسم عاصمتها، الرقة، وهي مدينة تقع على رابية تحتل الطرف الأيسر من الفرات، وسط سهل فسيح مترامي الأطراف، تجاورها مدينتان “تركيتان”، حرّان من الجهة الشمالية الشرقية، وأورفا من الجهة الشمالية الغربية. كانت حرّان قديماً، مدينة من مدن بلاد النهرين القديمة، ترتفع عند منبع نهر بليخ، أحد روافد الفرات، وهي بحسب الرواية التوراتية، المدينة التي استقر فيها النبي ابرهيم إثر هجرته من أور. أما أورفا، فهي في كتب التراث الرها التي اشتهرت في الحقبة الهلينستية باسم أديسا. ذكرها ياقوت الحموي في “معجم البلدان”، وقال إنها “مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام”، و”إسمها بالرومية أذاسا”، وهي بتعريف الحميري في “الروض المعطار في خبر الأقطار”: “مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار”. هكذا تقع الرقة المعاصرة بين سوريا وتركيا، وتتصل بأرض العراق شرقاً من طريق الفرات الذي يبلغ بابل عبر قناة اصطناعية تُعرف باسم نهر عيسى.

أرض الرقة موغلة في القدم، ولها اسماء عدة تقلّبت وتغيّرت بين زمن وزمن، فهي توتول المحطة النهرية العظيمة التي دمّرها حمورابي، وهي نقفوريوم ثم كالينيكوس، وهي في العهد الروماني ليونتوبوليس التي برزت كمحطة للقوافل وحارسة ثغور، وهي في العهد الإسلامي الرقة التي فتحها غياض بن غنم بعدما أعطى أهلها “أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، لا تُخرَّب ولا تُسكن إذا أعطوا الجزية التي عليهم ولم يحدثوا مغيلة، وعلى أن لا يحادثوا كنيسة ولا بيعة ولا يظهروا ناقوساً ولا باعوثاً ولا صليباً”، كما نقل البلاذري في “فتوح البلدان”. وجمع الإمام القشيري في القرن التاسع أخبار الرقة الإسلامية في كتاب يشهد لثرائها في القرون الأولى، ويُعرف هذا الكتاب باسم “تاريخ الرقة ومن نزلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والفقهاء والمحدثين”.

الرقتان

يتحدّث أهل التاريخ والإخبار عن “رقّتين”، قديمة، و”محدثة” تُعرف باسم الرافقة، وهي مدينة عباسية متصلة بالرقة، بناها الخليفة أبو جعفر المنصور، وأتمّها المهدي، وسكنها الرشيد. “الرقّتان الرقة والرافقة”، يقول ياقوت الحموي في معجمه، وقد قام العرب بتثنية الرَقة والمرافقة “كما قالوا العراقان للبصرة”، ومنه قول الشاعر عبيد اللَه بن قيس الرقيات: “ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا/ وجاش بأعلى الرَقتين بحارُها”. يختزل اسم الرقة طبيعة أرضها، “وأصله كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماءُ وجمعها رقاق”، ومنه قال الأصمعي: “الرقاق الأرض اللينة من غير رمل”، وأنشد: “كأنها بين الرقاق والخمر/ إذا تبارين شآبيبُ مطر”. والرقة “مدينة مشهورة على الفرات بينها وبين حَرّان ثلاثة أيام معدودة في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي”،  “ويُقال لها الرقة البيضاء”، وهي “بين العراق والشام”. فتحها عياض بن غنم صلحاً، وقال ربيعة الرقي في وصفها:

حبذا الرقة دار أو بلد/ بلد ساكنه ممن تود

ما رأينا بلدة تعدلها/ لا ولا أخبرنا عنها أحدْ

إنها برية بحرية/ سورها بحر وسور في الجدد

تسمع الصُلْصل في أشجارها/ هُدهد البر ومُكاء غرد

لم تُضَمن بلدة ما ضمنت/ من جمال في قرَيش وأسد

أما الرافقة، فهي “بلد متصل البناء بالرَقة وهما على ضفة الفرات وبينهما مقدار ثلاثمئة ذراع”، “وعلى الرافقة سوران بينهما فصيل وهي على هيئة مدينة السلام ولها ربض بينها وبين الرقة، وبه أسواقها، وقد خرب بعض أسوار الرقة”. ينقل ياقوت الحموي هذا الوصف في نهاية زمن الخلافة العباسية، ويضيف معلّقاً: “هكذا كانت أولاً، فأما الآن فإن الرقة خربت، وغلب اسمها على الرافقة، وصار اسم المدينة الرقة، وهي من أعمال الجزيرة مدينة كبيرة كثيرة الخير”. بناها الخليفة المنصور على مثال مدينة بغداد، “ورتب بها جنداً من أهل خراسان وجرى ذلك على يد المهدي وهو ولي عهده، ثم إن الرشيد بنى قصورها، وكان فيما بين الرقة والرافقة فضاء وأرض مزارع، فلما قام علي بن سليمان بن علي والياً على الجزيرة نقل أسواق الرقة إلى تلك الأرض، وكان سوق الرقة الأعظم فيما مضى، يُعرف بسوق هشام العتيق. فلما قدم الرشيد الرقة استزاد في تلك الأسواق، وكان يأتيها ويقيم بها فعمرت مدة طويلة”.

في “الروض المعطار في خبر الأقطار”، يميّز الحميري بين الرقة والرافقة، ويحدّد صفات كلٍّ من المدينتين. الرقة “مدينة بالعراق مما يلي الجزيرة، وكل أرض إلى جانب واد ينبسط عليها الماء عند المد فهي رقة، وبه سميت المدينة”، وهي “واسطة بلاد مضر”، ومضر قبيلة عربية استوطنت الجزيرة، فعُرفت المنطقة برمتها بديار مضر، “ومن مدنها الرها وسروج وشمشاط ورأس العين وغيرها. والرقة على شارعة الفرات في الشمال منه، وعليها سوران، وهي في فحص يبعد عن الجبال على مسافة أكثر من يومين، وفي شرقيها جبلان يسميان المنخرين”. تقع الرافقة إلى جنب الرقة، “وهي مدينة واسعة عظيمة بها ينزل الأمراء، وهي مدورة كهيئة الطيلسان، ولها ربض في شرقيها عليه سور، ولها جامعان: جامع في الرافقة وجامع في الربض، والسور الخارج آخذ من الفرات إلى الشمال، وأسواقها في الربض وبساتينها شرقاً إلى الفرات، وحكى البلاذري أن الرافقة لم يكن لها أثر قديم وإنما بناها المنصور”.

من العمران إلى الخراب

شهدت الرافقة عصرها الذهبي في عهد هارون الرشيد الذي انتقل للإقامة فيها، فتوسع عمرانها، وشيّدت فيها القصور، وازدهرت تجارتها. في “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة”، يستعيد ابن شداد رواية الطبري، ويحدد مراحل نمو الرقتين، وأفول نجمهما في ظل حكم بني حمدان. بحسب هذه الرواية، “سار المنصور إلى الشام فنزل الرقة فاستحسن مكانها، فأمر ببناء مدينة في بقعتها، فمنعه أهل الرقة فهمّ بمحاربتهم ثم كفّ”. بعدها، “خرج الرشيد من بغداد وسار إلى الرقة فاتخذها موطنا، وبنى سورها”. عمرت المنطقة في العهد العباسي الذهبي، وشُقّت فيها قناة للماء كانت تروي الأراضي الواقعة في القسم الشمالي منها، وعُرفت هذه القناة باسم نهر الذهب. تضعضعت أحوال الرقتين في عهد الأسر المتنازعة التي ظهرت بعد تفتت الخلافة العباسية، وضعف شأنها. بحسب ابن شداد، استعادت المنطقة شيئاً من نفوذها في عهد سلاطين الأسرة القلاوونية والدولة المملوكية، ولما ملكها الملك الأشرف صلاح الدين خليل “غرس بها بساتين كثيرة وجلب إليها الغروس من كل بلد، حتى النخل والموز، وبنى بها الجواسق والحمامات”. عانت المنطقة من الحروب الصليبية، كما عانت من الغزوات المغولية التي قضت عليها.

باب بغداد

تناقل الرواة خبرا مفاده أن أبا جعفر المنصور بنى أربع مدن وقال إنها لا تخرب أبداً، هي بغداد في العراق، والمنصورة في السند، والمصيصة في آخر الشام، والرافقة في أرض الجزيرة. خربت الرقة، وخربت من بعدها الرافقة، وقضى عليها تيمورلنك في العقود الأخيرة من القرن الرابع عشر. عادت المنطقة إلى طور البداوة، غير أنها حافظت على أطلال مجدها القديم، وأبرزها “قصر البنات” المبني على بقايا مدينة الرافقة التي باتت اليوم جزءاً من الرقة الحديثة، و”الجامع العتيق” الذي جُدّد في عهد نور الدين محمود بن زنكي وأخيه مودود، حاكم الرقة من عام 1167 إلى عام 1171. بنى المنصور الرافقة على مثال بغداد ذات السور المستدير، غير أن طبيعة الرافقة اقتضت أن يكون سورها نصف دائري، على شكل حدوة حصان، وكان له بابان عظيمان، احدهما لا يزال قائماً في الجانب الشرقي من المدينة الحديثة، ويُعرف باسم “باب بغداد”، أما الثاني فهو “باب الشام”، ولم يبق له أثر. كشف علماء الآثار عن العديد من كنوز رقة المطمورة، بعضها محفوظ اليوم في متحف المدينة القائم في بناء السرايا القديمة. ووضع العالمان صونيا فرا ولوك ويلي دوهوفل، بحثاً خاصاً بهذا الموقع التاريخي نقله إلى العربية عبد الرحمن حميدة، ونشرته مطابع وزارة الثقافة في عام 1981، وعنوانه  “الرقة وأبعادها الاجتماعية”.

دخلت الرقة في النسيان، وتحولت في زمن العثمانيين إلى “إيالة” ملحقة طوراً بحلب وطوراً بدير الزور. وفي عهد الاستقلال، أُلحقت المنطقة إداريا بدير الزور، وتحولت في زمن الوحدة بين مصر وسوريا إلى مركز لمحافظة أُطلق عليها اسم محافظة الرشيد، ثم أعيدت تسميتها باسم محافظة الرقة عام 1962. في تلك الحقبة، شُيّد سدّ الفرات، وأحدث هذا البناء تحولا جوهرياً في المنطقة، فعمرت من جديد، بتنوع سكانها الإثني، حيث جمعت بين الاسر العربية، والكردية والتركية والأرمنية والشركسية. تطورت أوضاع محافظة الرقة بشكل كبير في العقود الأخيرة، وها هي اليوم تحترق في أتون حرب تدخل سنتها الثانية من دون أمل يلوح في الأفق.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى