ابرهيم الزيديصفحات الناس

رمضان ليس كريماً/ إبرهيم الزيدي

 

 

ليس رمضان جارنا، وإن حمل اسمه. ذلك الجار لم يكن وجوده في بلدتنا هدى للناس، فقد صرنا بفضله على صلة وثيقة بكل فروع المخابرات، وارتقى على سلّم ما لفّقه لنا من اتهامات، ليتحول بفضلنا من مدرّس مادة التربية الوطنية، إلى مدير مدرسة!

لقد مشى في سيرة الطلاب والمدرسين، خمس سنوات حافياً قبل أن يرتدي حذاء الإدارة.

وليس ابنه، وإن كان الولد سر أبيه. ولأنه سرّ أبيه، فقد طغى اسم الوالد على اسم المولود، فصار اسمه ابن رمضان، وقد اغتبط الولد بهذه التسمية لما لها من منافع ودلالات يعرفها كل من راجع أقسام الأمن ومخافر الشرطة.

لم يكن رمضان مسلحاً بمسدس، كما يُعتقَد، أو بقلم كما ينبغي. كان سلاحه يتمثل في أذنيه. هل سمعتم أو رأيتم أحدا سلاحه أذناه؟! لقد انتشر هذا السلاح في الأوساط الاجتماعية والسياسية والثقافية السورية منذ مطلع ثمانينات القرن المنصرم، وقد أدرك ابن رمضان سرّ ذلك السلاح، وقدرته الفتاكة، فامتلكه منذ نعومة أظفاره، التي فقدت نعومتها مبكراً، فكان يخمش الحياء في وجوه أقرانه من أطفال الحي، كلما وشى بهم إلى آبائهم أو أمهاتهم. تطورت موهبته، مع تقدمه في العمر، وتخلى عن الأظفار، لصالح سلاح الأذنين، فاستعادت أظفاره نعومتها، وقسى قلبه.

رمضان ليس هو العم رمضان، ذلك الرجل الطيب الذي قضى شطر عمره يعمل مستخدماً في المركز الثقافي. فالعم رمضان، كما كنّا ندعوه، لم يكن قد كرّس عمله الوظيفي لخدمة الإدارة وملحقاتها من الأقسام الأخرى كما هو مطلوب منه؛ بل امتدت خدمته الى صالة المطالعة، حيث يتوافد تلامذة المرحلتين الإعدادية والثانوية، في الأشهر الثلاثة التي تسبق الامتحانات، فكان يتعهد لهم تأمين الماء البارد، وأحياناً يقدم لهم الشاي في غياب الموظفين الذين يحملون بعضاً من صفات رمضان وابنه.

وليس هو الشيخ رمضان، خطيب المسجد الشرقي، صاحب المبالغات الفقهية، الذي كان مسدسه اللغوي مثابراً على إطلاق الفتاوى على الأهداف النسوية حصراً: صوت المرأة، عطرها، حجابها، مشيتها، وضحكتها. لا بل كانت طلقاته تصل إلى مخدعها الزوجي، فملأ أحلام النساء بالخوف من الله الغفور الرحيم وترك غرائز الرجال عارية!

ورمضان ليس “خلف”، ذلك الاسم الشائع في المحافظات التي تقع في القسم الشرقي من سوريا، الرقة، الحسكة، ودير الزور. خلف هذا، استعمله أبناء تلك المحافظات اسماً، لكل من يستهدفهم في القصف، ولذلك تكثر الدعوات عليه في مواقع التواصل الاجتماعي كلما اشتدّ القصف.

ورمضان ليس باباً يتثاءب، أو نافذة تتكئ على جدار، أو عجوزاً يبحث عن نعش لينام، وهو ليس شاعراً بروليتاريّاً يكتبنا بعيداً من أوزان الموائد البورجوازية، كلما بلل الشوق قميصه البالي.

رمضان طفلٌ طار من النافذة في حلب، قبل أن تنمو حقيبته المدرسية بين كتفيه! وأرملة تجلس في ظلّها في الرقة، وعجوز يفتّ أوجاعه في صحن الليل بدرعا، وامرأة حمصية سقطت من يديها أصابع الأسئلة. رمضان كل هذا وذاك.

رمضان ليس هذا ولا ذاك. رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وليس مزاداً دينياً، أو قاتلاً يحلم بالجنة.

رمضان يعرفه السوريون الصائمون عن الفرح. رمضان يعرفه السوريون الذين يحلمون بوجبة في مضافة الأمم المتحدة. رمضان هو صرخة مارتن لوثر كينغ: “علينا أن نتعلم العيش معاً كأخوة، أو الفناء معاً كأغبياء”. رمضان حالة حب، وفي الحب البقاء للأصدق، وليس للأقوى. فقيمة الإنسان ليست بما يملكه، بل بما يمنحه، وقد اختبر السوريون كل المانحين الدوليين والإقليميين ولم يبق لهم إلا بعضهم، فهل بقي لديهم ما يمكن أن يمنحوه لأخوتهم في اليأس، قبل أن يفقد الحزن قدرته على تنقية النفوس من التباسات المواقف إذ لم يعد في الغد متسع لانتظار الجائعين.

لقد تركونا كلهم في حراسة الجوع ليثبتوا لنا أننا أبناء وطن من كلام، ولن تهنأ بنا سوى البلاغة. لقد تركونا نتعلم الرياضيات بجمع الجثث وطرحها، والشهداء غير القابلين للقسمة على اثنين، وذهبوا… تاركين لنا رمضان! فهل بالصوم وحده يحيا الإنسان؟

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى