صفحات سوريةعمر كوش

رهان السوريين الخاسر/ عمر كوش

بعد انطلاق ثورة الخامس عشر من آذار / مارس 2011 في سوريا، بدأت السياسة بالعودة تدريجياً إلى المجتمع السوري، وراح سوريون كثر يتحدثون ويتجادلون في السياسة، التي حرموا منها طوال أكثر من أربعة عقود، إذ بالرغم من ممارسات النظام الأسدي الهادفة إلى خنق الحياة العامة منذ اليوم الأول للثورة، باستخدام كافة المقدرات والوسائل، بغية تغييب السياسة ومنع الاجتماع والاحتجاج، مهما كان الثمن، فقد تشكلت كيانات سياسية مختلفة، في داخل سوريا وخارجها، تجسدت في صور تنظيمات، اختلفت من حيث قوتها وشعبيتها، وأخذت مسميات هيئات ومجالس ومنابر وتيارات وحركات. وفي سياقها تشكل “المجلس الوطني السوري”، و”هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي في سوريا”، ثم “تيار مواطنة”، و”حركة معاً”، و”تيار التغيير الوطني”، و”المنبر الديمقراطي”، و”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وسوى ذلك كثير.

وراهن سوريون كثر، بخاصة في الداخل، على أن تشكل هذه الكيانات السياسية مظلة سياسية للثورة، بل وأن تقود الثورة وتدعمها، وتؤثر على مساراتها، وتساعد حاضنتها وناسها. لكن، وبعد انتظار مديد، تبيّن أنّ معظمها إن لم نقل جميعها – بات عالة على الثورة، بدلاً من أن تعيلها وتعينها، نظراً لأنها تميزت بتركيبات هشة، وبأداء ضعيف، وانحياز إلى التجاذبات والمماحكات، والمهاترات الشخصية، وضعف الخبرة السياسية، فيما عرفت الثورة السورية تحولات عديدة وعميقة في مسارها، نتيجة توغل النظام بالقتل والمجازر والجرائم، وتحولت من ثورة حرية إلى ثورة تحرر.

ولم تتمكن مختلف تكوينات المعارضة السياسية السورية من مدّ جسور مع الثائرين السوريين وحاضنتهم الاجتماعية، وحتى تلك الكيانات الهشة، التي أطلقت على نفسها وصف “معارضة الداخل”، مثل “هئية التنسيق الوطني لقوى التغيير الوطني” وغيرها، بقيت تمثل “دكاكين صغيرة”، تضم شخصيات مترهلة، عاطلة، ومتقادمة سياسياً، ومنبوذة من طرف قوى الثورة، وخصوصاً منهم الشباب.

ولعل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وقبله المجلس الوطني السوري، كانت أمامه فرصة كي يلعب دور المظلة السياسية للثورة وناسها، لكن الأمور لم تكن كذلك، إذ أن كل من المجلس والائتلاف لم يقم أياً منهما بالدور المأمول منه، بمعنى أنه لم ينهض بمهمة دعم الثورة، المطلوبة منه، حيث لم يمأسس أسلوب عمله، عبر لجان ومكاتب متخصصة، ذات استراتيجية واضحة ومحددة، بل احتوت تركيبته العامة على جملة من الشخصيات “المنتهية الفاعلية”، سياسياً وتنظيمياً.

وحين تشكل الائتلاف، كرر أخطاء المجلس ذاتها، واختصر عمله على اجتماعات فارغة، شبه دورية، وعلى ما تقوم به شخصية رئيس، لجأ إلى “الاستخارة” في اتخاذ القرارات، بدلاً من أن يلجأ إلى هيئة سياسية منتخبة، بالرغم من أنه عيّن هيئة سياسية لم يستشرها أو يكترث بها هو نفسه، وراح يلوّح بالاستقالة أمام وزراء خارجية ما يسمى “أصدقاء الشعب السوري” إلى أن فعلها. ولعل المكتب الوحيد الذي عرف في الائتلاف هو وحدة التنسيق والدعم، إلى جانب المكتب الإعلامي، الذي لم يسمع أحد بدوره الإعلامي، بالرغم من أن طاقمه يضم أكثر من ثلاثين شخصاً، معظمهم لا عمل له سوى نشر بعض الأخبار، وتسريب المهاترات، وصولاً إلى قيام أحدهم بضرب أحد العاملين معه.

وبعد توسعة الائتلاف، قدمت إلى الهيئة العامة كتلة ديموقراطية، أسهمت في انتخاب رئيس جديد، وهيئة سياسية، وتبين أن الائتلاف بحاجة إلى إصلاح نظامه الداخلي، بل وتغييره، ولا يمتلك أية استراتيجية واضحة، من دون عمل مؤسساتي، ومن دون خطط، سواء لجهة دعم الثورة أم لجهة التنسيق مع الجيش الحر وقيادة أركانه، وسوى ذلك كثير.

ومن المنطقي أن تكون أولى أولويات قيادة الائتلاف الجديدة هي وضع استرتيجية للعمل باتجاه الداخل السوري، وتأمين الدعم اللازم له، والبدء في التواصل مع قوى الثورة في الداخل، وتنظيم المجموعات المسلحة من الجيش الحر وسواه، ودمجها لتشكيل جيش وطني مقاوم للاحتلال الأسدي. من هنا يمكن أن نفهم زيارة أحمد العاصي الجربا، رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية لمناطق في محافظة درعا، والتصريحات التي أطلقها، وكشف فيها السعي نحو تشكيل جيش وطني، تأكيداً للاستفادة من التطورات التي حصلت على الأرض طوال الفترة الماضية، القاضية بضرورة توحيد فصائل الجيش الحر، ودمجها من أجل حماية المناطق المحررة، والدفاع عن الحاضنة الاجتماعية للثورة.

ولعل السبب الرئيسي في انفلات العسكرة ومجاميعها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو المحررة، هو غياب مظلة سياسية، قادرة على القيادة، وعلى التأثير. ولا يعدم الأمر وجود أسباب أخرى أيضاً، لكن طريقة تعامل تشكيلات المعارضة مع الثورة وحاضنتها الاجتماعية، مازالت تنهض على قطيعة وانفصال، حيث نسي المعارضون ناسهم في الداخل، ونسوا أن الثورة هي التي أعطتهم الأهلية لكي يتحدثوا باسمها، ومنحتهم القدرة على رفع وتيرة أصواتهم، بعد أن سكنوا الصمت فترات طويلة. والمثير في الأمر أنهم، بعد اندلاع شرارة الثورة، راحوا ينشئون دكاكين صغيرة، نصبوا أنفسهم رؤساء عليها، ونسوا الثورة وناسها، بل وركب بعضهم على الثورة، بوصفها مطيّة، وراح يزاود على غيره، بالحديث عن بطولاته وفيضانات نضالاته في غابر السنين وحاضر الثورة.

بالمقابل، استمر مدنيون سوريون في فعل مقاومتهم، بالرغم من تراجع مظاهر الحراك المدني السلمي، بعد أن نشأت مجاميع مسلحة، بعضها بعيد كل البعد عن فعل المقاومة، بمختلف مظاهرها. ولعل العسكرة المنفلتة من رباطها وعقالها، أنتجت مظاهر و”هيئات شرعية” و”إمارات”، لها أجندات وأهداف مختلفة عن أهداف الثورة السورية ومطالب ناسها، مع أن الناس في الثورة أحسوا بأنهم أحياء، حين قرروا الخروج من بيوتهم والنزول إلى الساحات والشوارع للاحتجاج على الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة عقود، وبالتالي، فهم ليسوا بحاجة إلى هيئات وإمارات منحت نفسها شرعية مفقودة، ومشكوك بها، ومطعون فيها، كونها جاءت من أمراء العسكرة وتوابعها، وانبثقت عن مجموعات ليست مفجرة للثورة، ولا قادتها في أي يوم من الأيام، بل استغلت فراغ القوة الحاصل بعد انحسار سلطة النظام الأسدي، الفاقد الشرعية مثلها، كي تحتل الفضاء العام في المناطق المحررة، وتصادر الحريات التي خرج من أجلها الثوار السوريون. وقد تحولت إلى سلطة استبداد جديدة، تحاول إشغال مكان سلطة الاستبداد القديمة، وتقوم بأفعال لا تليق بثورة السوريين، حتى باتت تعيث فساداً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بدلاً من ان تنخرط في حركة المقاومة الشعبية وتكون عوناً لها. وعليه تبدو ضرورة، أن يبرهن الائتلاف بحلته الجديدة على قدرته في إقناع السوريين بأنه يشكل البديل المقنع، من خلال تحوله إلى مظلة داعمة للثورة وناسها، بالفعل والقول. ليس بالكلام والتصريحات والوثائق والأدبيات، بل في الممارسة والسلوكيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى