صفحات الناس

روايات عن السجون السورية تتحدث عن فوضى ومآسي المعتقلين فيها

جنود يرغمون النزلاء على حفر خنادق ويقتلون من يبدو مرهقا

بيروت: آن برنارد وهويدا سعد*

قضى أحمد حمادة عاما كاملا في السجن في ضاحية دمشق عندما ربطه الحراس بالسلاسل مع زملائه، واقتادوهم جميعا إلى نقطة تفتيش عسكرية نائية، لحفر خنادق للجنود. حينها أدرك أن الحكومة «فقدت عقلها»، لا لأنهم خاطروا بالهرب من السجن، بل بسبب العنف الوحشي الذي أعقب ذلك.

ظل الأسرى الخمسة مكبلين سويا، حتى في أوقات النوم والراحة. ومن تبدو عليه علامات الإرهاق الشديد كان يقتل، وقال حمادة، الذي اعتقل في إحدى نقاط التفتيش لقيادته مظاهرات مناهضة للحكومة إنه أجبر على حمل جثتين.

أنهكته وجبة قشر البيض، وقشر البطيخ وقطعتين من الخبز يوميا، ولم يصمد على تلك الحال سوى 12 يوما إلى أن حذره أحد الحراس بأنه سيكون التالي في قائمة القتلى. في اليوم التالي استخدم حمادة وزملاؤه الأربعة معاول والصخور لكسر الأصفاد وفروا. ولم تمض أيام حتى عاد لقيادة المظاهرات مرة أخرى. ووصف هروبه بـ«المعجزة».

تشير رواية حمادة، التي رواها عبر «سكايب»، وروايات السجناء الآخرين إلى مزيج متفاوت من الفوضى والسيطرة داخل السجون ومراكز الاعتقال السورية، المليئة بوقائع من الوحشية غير المتوقعة. ويعتقد معارضو الحكومة بوجود أكثر من 200,000 شخص في هذه السجون، على خلفية الحرب الأهلية الدائرة في البلاد.

قصص السجون، التي لم يتسن التأكد منها من مصدر مستقل، تكشف عن انهيار جزئي للنظام أسفل السطح لنظام لا يزال قائما، إضافة إلى المفاوضات اليومية التي يجريها السجناء والحراس للنجاة من النزاع المتقطع الذي لا يمكن لجانب فيه أن يضمن أمنه بشكل كامل.

ففي مدينة حمص المضطربة، قال أحد السجناء السابقين، محمد، إنه عقب الثورة التي قام بها السجناء العام الماضي بعدما وصلت مياه البول إلى ارتفاع بوصة داخل الزنزانة إلى حد أنهم كانوا يخوضون فيها بأقدامهم، فإن السجن المركزي سادته حالة من الهدوء امتدت لعدة أشهر. فقد افتقر الحراس إلى القوة اللازمة، وربما الرغبة، لاستعادة السيطرة عبر القوة ولم يتمكن السجناء من الهرب لأن المبنى محاط بقناصة تابعين للحكومة. وقال محمد، في روايته من بيروت طالبا ذكر اسمه الأول فقط: «أخبرناهم، إذا حاولتم الدخول فسوف تقتلون بعضا منا، وبعدها سنستولي على بنادقكم ونقتلكم». وأضاف «لذلك عقدنا هدنة لا يحاول بموجبها السجناء الهرب في مقابل نقل السجناء إلى زنزانات أوسع ومنحهم مزيدا من الحرية والطعام».

كان السجناء يستخدمون الهواتف الجوالة ويقومون بتقوية الإشارات عبر الهوائيات التي صنعوها من علب الصودا وأغطية القدور مسترشدين بالتعليمات التي وجدوها على «يوتيوب». صنع البعض منهم سيوفهم الخاصة باستخدام مراوح سقف المغلفة المغطاة بورق الصنفرة لشحذ الصلب الذي استخرجوه من إطارات الأسرّة، وفقا لمحمد، الذي قال إنه دخل السجن لأنه كان يعمل على توفير الغذاء للأسر المحاصرة في حمص وأطلق سراحه في يونيو (حزيران) في تبادل للأسرى.

ونتيجة لمنع الحكومة السورية لعمليات التفتيش التي تقوم بها منظمة الصليب الأحمر وجماعات مستقلة أخرى صار من المستحيل معرفة عدد الأفراد الذي يتعرضون للسجن والأوضاع التي يعيشونها. لكن المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو جماعة معارضة مقرها في بريطانيا، قدر عدد السجناء منذ أبريل (نيسان) وحتى الآن بنحو 30,000 شخص وأن نحو 200,000 شخص تم إيداعهم مرافق الاحتجاز خلال عامين ونصف من الصراع.

وقد تحدث سجناء سابقون عن الكثير من حالات التعذيب والاغتصاب في السجون والمعتقلات المؤقتة، والتي وثقت جماعات مثل «هيومن رايتس ووتش» الكثير منها.

لكن رواية حمادة تلقي الضوء على الوضع الحالي للسجن سيئ السمعة، فرع الاستخبارات الجوية في حرستا الواقعة على مشارف دمشق، وكيف ينتهي الأمر بالسوريين إلى هناك. قال حمادة إنه نشأ فقيرا في مدينة سقبا القريبة. وترك المدرسة في الصف الأول الإعدادي للعمل كمحار وكان يحلم ببناء منزل خاص بعائلته. وعندما اندلعت الثورة ضد الرئيس بشار الأسد في مارس (آذار) 2011، صار مطرب المنطقة وكان يعرف بـ«بلبل الليل» لقدرته على قيادة حشود المتظاهرين بالأشعار والغناء. في المظاهرة التي خرجت في سقبا كان يلف وجهه بعلم سوريا القديم كرمز للثورة. وأشار إلى أنه حصل على سلاح خلال عام، على الرغم من استمراره في أعمال الإغاثة الإنسانية مثل مساعدة المستشفيات الميدانية، الخطوة التي قام بها والده، الإمام الذي يذكر القمع الوحشي للانتفاضة الإسلامية المسلحة عام 1982 بنوع من القلق.

تم اعتقال حمادة في نقطة تفتيش، وتعرض على مدى 45 يوما للتعذيب والاستجواب على يد المحققين، دأبوا على استجوابه عن نوع السلاح الذي يحمله، ومن زوده به، والسبب في حمله السلاح وقادة المظاهرات. أوسعه الحراس ضربا على قدميه بالعصا وصعقوه بالكهرباء وأكياس البلاستيك المحروقة، التي كانوا يتركونها لتنصهر على جلده. في النهاية قاموا بربط يديه خلف عنقه وقاموا بتعليقه من ذراعيه، إلى أن اعترف بأنه أحد أفراد المقاومة السورية.

نقل حمادة شبه عار إلى الزنزانة التي اكتظت بـ117 سجينا آخر. كان السجناء ينامون واقفين ورأس كل منهم على كتف الآخر. نتيجة الازدحام أصيب بمرض الصدفية، وكان السجناء يقايضون حصص الخبز بالمضادات الحيوية، وأنه قضى يومين دون أن يتذوق طعاما. أما صيام ثلاثة أيام فساعده في الحصول على سروال.

لكن ذلك لم يكن أسوأ ما حدث لحمادة، بل كان سباب الحراس لأخواته وأمه، وقال: «كنت أبكي سرا كل ليلة، لم أكن أريدهم أن يروا دموعي».

في إحدى الليالي تم اقتياده هو وتسعة آخرين مصفدين بالسلاسل إلى نقطة تفتيش تابعة للفرقة الرابعة، فيما سماه الجنود «تدريبا ميدانيا»، لحفر الخنادق أو الموت.

لم يكن السبب الذي دفع السلطات إلى المجازفة بفرار السجناء باستخدامهم للعمل خارجه واضحا. وقال حمادة إن الجنود أخبروه أنهم بحاجة إلى الخنادق لكي يحتمي بها الجنود في نقطة التفتيش من هجمات الثوار. وقال إن معتقلين سابقين قالوا إن الجنود لم يرغبوا في إهدار العدد المحدود من الجنود أو الطاقة في حفر الخنادق بأنفسهم، وربما لأنهم ابتكروا عقابا جديدا للنزلاء في شكل عمل قسري.

وقال حمادة: «كنت أستعطف الجنود للنوم بضع دقائق. وأحيانا كنت أقبل أحذيتهم لمزيد من المياه. وأحيانا كانوا يوافقون وفي بعض الأحيان كنا نتعرض للضرب». وأضاف: «كان الحديث إلى الجنود ممنوعا من الناحية العملية، لكني كنت أعلم من وجوده الجنود ما إذا كان الحديث معهم ممكنا أو مستحيلا».

أحد الجنود الذين كانوا يتحدثون معهم أخبره باقتراب إعدامه، وهو ما جعل حمادة ومن معه يستترون بالعمل في الخندق الذي يحفرونه وقاموا بكسر السلاسل. وما إن انكسرت الأصفاد، بات من المستحيل إخفاء نواياهم، واستلهموا الخطة من فيلم «أسد الصحراء» الذي يروي قصة كفاح عمر المختار التي كان المقاتلون يقومون فيها بربط أرجلهم قبل المعركة كي لا تحدثهم أنفسهم عن الهرب. وقال حمادة: «لم أرغب في أن أتقهقر أو أغير رأيي». وقال لزملائه «نحن في عداد الأموات الآن»، وتفرقوا وفروا. حاول الجنود إطلاق النار عليهم لكنهم لم يصيبوا أيا منهم.

ساروا في طريق مزروع بالألغام، لكنه نجا – كان غير مصدق وهم على بعد 150 ياردة من خط المواجهة ناحية الثوار في عربين.

سمع أبو حسن، قائد الثوار في هذه المنطقة، إطلاق نار كثيفا في تلك الليلة على الجانب الذي تسيطر عليه قوات الحكومة، ووضع رجاله على أهبة الاستعداد. لكنه دهش عندما رأى رجلين يقفزان في خندق الصرف الصحي وخرجا رافعين أيديهم إلى الأعلى. صاح أحدهم باسمه، أبو رامي شكور، وجثا على ركبتيه ساجدا لله. وأدرك أبو حسن (اسم مستعار لأسباب أمنية) ناشط سجن لفترة طويلة. وكان الآخر حمادة (لأن السجناء تفرقوا في اتجاهات متعددة لم يكن متأكدا مما حدث للبقية).

وقال أبو حسن: «أنا لا أعلم كيف نجوا»، ثم نقل الرجلان إلى مستشفى ميداني ثم إلى مسجد في سقبا حيث انطلقوا في موجة من البكاء والدهشة والسعادة، بحسب فيديو يوثق ذلك.

وقال حمادة: «كنت مثل المولود الجديد. كنت أخشى أن أموت دون أن أرى والدتي».

لكن حمادة يخطط الآن للمشاركة في القتال، كي يهاجم السجن، لأنه يخشى أن يتعرض النزلاء للعقاب وسط شائعات بإعدام الكثير من الحراس لسماحهم للسجناء بالهروب. وقال: «ينبغي أن أسعى لإنقاذهم».

عاد حمادة إلى الغناء في احتفال أقيم لأبناء المعتقلين وبعد أيام من هروبه كان يقود مظاهرة من 200 شخص في أحد الأزقة. كان الأولاد يرقصون وهو ينشد «سوريا حرة وعزيزة»، «نحن نطالب بالحرية».

* خدمة «نيويورك تايمز»

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى