مراجعات كتب

روزا ياسين حسن في الذين مسهم السحر: آلام سورية/ علاء الدين العالم

 

 

لم تكن السنوات الممتدة بين 2012 و2016 سنوات عادية لدى السوريين، كانت أحوالاً مكثفة  السنة بعشر مثلها، لما تحمله من كثافة بالأحداث أولاً، ولا جدوى من هذه الأحداث العظام ثانياً، لذا، أصبح النظر إلى سنوات الانفجار الأولى (2011-2012) وكأنه نظرة في التاريخ البعيد. تلك النظرة إلى الوراء، إلى الانفجارات الأولى، هي الأساس الذي قامت عليه رواية “الذين مسهم السحر” لروزا ياسين حسن الصادرة عن منشورات الجمل.

من بلدة جرمانا الواقعة في ريف دمشق تنطلق الحسن في سردها الروائي، متخذة من كافتيريا صغيرة واقعة على أطراف الحي بؤرة تنطلق منها حواديت النص الذي تجتمع جلّ أحداثه في دمشق وريفها، وتتناثر شظايا حكاياه على سورية كاملة. الجميع سيُمس بالسحر/الحراك الذي انتشر على طول البلاد وعرضها. “ميفان حاجو” الشاب الكردي الذي لطالما استمع إلى سجالات الرجال في الكافتيريا التي يعمل بها حول ما يجري في البلاد، سرعان ما سيصاب بما أصيبوا به، إذ سيصادف مظاهرة تجابه بالرصاص قرب مسكنه في “الحجر الأسود” و”لأول مرة سيشعر بكل هذا الخفقان، كاد قلبه يتوقف خوفاً. أصوات الرصاص وصيحات الناس وصراخ يلاحقه وهو يجري ويجري ويجري”. لكن مفيان هذا الذي هرب من المظاهرة، سيستحيل بعد مدة ليست بالطويلة إلى “رمح” الرجل البخاخ، وسيملأ جدران حيه بالحجر الأسود بالعبارات الثورية إلى أن يُقبض عليه ويرمى في المعتقل، إن هذا التحول سيصار إليه “شيران” أخ “ميفان” أيضاً، إذ سيترك عمله في حمص بعد أن ذاق الويلات فيها ليعود إلى الحجر الأسود ويرى نفسه بعد أشهر مقاتلاً مع فصائل المعارضة هناك، بينما ستعاني “ريما العيساوي” المؤيدة للثورة بكل جوارحها من فقدان أخيها على المقلب الآخر مما تقف، ليس هذا وحسب، بل ستحمّل ــ وهي تعزي أهلها بأخيها ــ مسؤولية موت الأخ من سكان القرية الذين يرونها تقف مع “عدوهم” وهي منهم. كذلك ستضطر عائلة العميد “بهجت حسون” إلى ترك منزلها في “المعضمية” والانتقال إلى جرمانا بعد اشتعال الأحداث في الأولى، الأحداث التي ستودي بعلاقة الصداقة العميقة بين ابنة العميد “مي حسون” وزميلتها في الكلية “عائشة الحبال” حين تقف كل منهما على طرفي نقيض حتى يصبح اللقاء بينهما مستحيلاً. كما نشهد أثر التغيير على شخصية “هبة حداد” الفتاة المسيحية التي انخرطت بالثورة فوجدت نفسها تعشق “فراس الصفدي” ومن ثم تفقده بعد أن لقى حتفه وهو يستل كاميراته ويوثق أحداث حمص.

ليست الشخصيات هي من تتحول فقط بفعل الانفجار/السحر، المدن هي الأخرى تتغير وتتبدل أيضاً، فدمشق التي بدت دائمًا للسوريين المكان الأكثر أماناً وهدوءاً في العالم، ستستحيل إلى مدينة أخرى غير التي خبروها تماماً، وستدفع قاطنيها للاستفسار عن “كيف يمكن للمكان أن يبدل روحه بهذه السرعة، لتظهر روح جديدة كانت مختبئة على ما يبدو طوال زمن طويل”. لكن ليست دمشق وحدها من تتغير، المدن السورية الأخرى “حمص، حلب، السويداء..إلخ” لها ذات النصيب من التحول والتغيير، فرغم مركزية دمشق في الرواية إلا أن السرد يتحرر من قيود العاصمة حيناً ليلقي نظرة على جريان الأحداث في “2011” على باقي المدن السورية، تذهب الرواية إلى حمص، تدخل بين حارات بابا عمرو وحارات حي الزهراء، وترصد الانقسام الحاد الحاصل هناك، ثم تنتقل إلى السويداء وتعود بعد ذلك إلى دمشق، ترصد علاقة الريف بالمدينة، وأثر الانفجار على تغيير النظرة المدينية للريف، لا وبل نسفها تماماً “لم أكن أحب (دوما) كنت أراها منطقة مغلقة ومتخلفة، نساؤها مجللات بالسواد، ورجالها غاضبون متجهمون على الدوام لسبب لا أفهمه! ربما كان إحساس المديني تجاه الريف، ربما هذا ما كنت أشعر به دون وعي مني! لا أعرف”.

هذا التنوع في فضاءات النص، ينسحب أيضًا على الشخصيات. تتنوع منابت الشخصية، وآراؤها السياسية أيضاً، منها من ينتمي إلى الساحل أو إلى الجنوب أو الشرق، ومنها الموالي لنظام الحكم ومنها المعارض. ساعد هذا التنوع في تقديم صورة بانورامية عن الحالة السورية آنذاك، راصدة تحول وتأثر المجتمع السوري بكل أطيافه بما يحصل، فنرى الشرخ الذي يحصل بين العائلات الموالية والمعارضة، حيث انفرط عقد العلاقة الوثيقة بعد اندلاع الأحداث، كما حالة مي وعائشة. ساهم هذا التنوع في إلقاء مسحة موضوعية على السرد، إذ لم ينجر السرد إلى تبني موقف دون آخر، بل دأب على البحث عن مبررات لكلا الطرفين. تذهب الحسن بعيداً في تشريح المجتمع السوري، وما أصابه بعد الانفجار، تذهب حيناً حد الدراسة لما يتجاوز الحالة الروائية، فيحمل النص الأدبي بذلك مسؤولية تفسير ما حصل من منطلق سوسيولوجي أكثر منه روائيا. بعبارة أخرى، يرمي الواقع السوري بثقله على الكاتبة والنص، فيغيب المتخيل الرحب، ويحتل التوثيق مساحات واسعة في الرواية، من ذلك توثيق الكاتبة لأحداث سورية بعينها ورصد تأثير هذه الأحداث على الشخصيات كما في الحديث عن “معركة دمشق” عندما “كانت القنوات الرسمية التلفزيونية تذيع عن تفجير (إرهابي) حدث في مبنى الأمن القومي في حي أبو رمانة، وتنعى مقتل رجال خلية الأزمة. قنوات المعارضة تعرض لقادة الجيش الحر الذين تبنوا العملية!!”. أيضاً توثّق الرواية الهتافات الأولى للحراك السوري، وتوثق لبعض الفنون التي ازدهرت في سورية مع الحراك كالغرافيتي عن طريق شخصية “ميفان حاجو” البخاخ، والتصوير الفوتوغرافي عبر شخصية “فراس الصفدي” التي تتشابه مع شخصية المصور السوري “باسل شحادة” الذي توفي ــ كما فراس ــ وهو يسعى إلى نقل الحقائق بكاميرته.

يُذكر الموت في النص دائمًا، كيف لا، وهو الملازم للسوريين منذ سبع سنين؟ يستمد السرد قسوته من تكرار حوادث الموت من كلا الطرفين. الموت هو أحد أطراف القسوة الحاضرة في النص، ففي طرفٍ آخر من القسوة، تأخذنا الرواية إلى عالم المشافي الميدانية والموت اليومي جراء نقص المعدات والتجهيزات الطبية، وذلك عبر شخصية الدكتور “خالد الساعي”، من جهة أخرى، يرى صفوان الشيخ “أن التحدي هو في البقاء سالماً، في البقاء على قيد الحياة، في مواجهة كل أسباب الموت المحيطة التي تفرض نفسها بقوة، أسباب الموت المتاحة في كل ثانية. الرهان هو على البقاء، العيش، هو وحده الانتصار في حفل الموت الجنوني…”. هكذا تدعو الرواية إلى الحياة كمقاومة لكل أشكال الموت المحيطة بالسوريين، بيد أن هذه اللغة الأدبية تغيب عن الحوارات اليومية المباشرة التي يعج بها النص، حوارات لطالما خاضها السوريون آنذاك. تسيطر هذه الحوارات على مساحات واسعة من الرواية ما يمنح النص السردي حيوية طورًا، وطورًا آخر ينزلق النص إلى المباشرة الفجة، لا سيما حينما يتكرر ذات الحوار بعين المضامين لكن على لسان شخصيات مختلفة.

تتداخل ضمائر الروي في النص، تارةً تروي الشخصية بذاتها وتارةً تُروى الأحداث بصوت راوٍ، وقد تحمل “الشظية” الواحدة صوتين متناوبين في الروي، وذلك في مبنى روائي متناثر، فحكايات السوريين لم تعد متماسكة واضحة، بل تشظت كما البلاد وانفجرت مثل آلاف القذائف المتفجرة على الأرض السورية، من هنا، اختارت حسن هذه البنية المتشظية، فقسمت نصها إلى أربعة وثلاثين قسماً، يجمعها الهم السوري الجمعي وتفرقها حكايا الناس المتبعثرة هنا وهناك على الأرض السورية.

كل السوريين أصابهم السحر، الجميع ممسوس، الدكتور مس، والمقاتل مس، والأم والحبيبة…الجميع أصيب بمس الحرب والموت والفقدان. عنوان الرواية الذي يمهد للسحرية لن يأخذ القارئ إلى خيالات بعيدة بل سيأخذ بيده نحو واقعية سورية فاقت كل الأخيلة، واقعية تقطر ألماً وفقداً وموتاً، وتحمل معها سحراً أسود لا يشبه بأية حال سحر الشرق وغرائبيته التي استقى منها كتّاب العالم حكايات وحواديت سحرية مليئة بالمغامرات والحياة وليس بالخوف والموت.

عنوان الكتاب: الذين مسّهم السحر                   المؤلف: روزا ياسين حسن

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى