صفحات الحوار

روزا ياسين حسن: لسنا مخيّرين في أن نكون معنيين بالوطن أو لا!

 

 

 

«الذين مسّهم السّحر.. “من شظايا الحكايات”» (دار الجمل – 2016)، هي آخر روايات الكاتبة السورية روزا ياسين حسن (1974)، التي كانت في طليعة السوريين المنتفضين في آذار/ مارس 2011 ضد طغيان نظام الأسد، مطالبة برحيله لتنعم سوريا بمستقبل يليق بكل السوريين الذين مسّهم السّحر.

تبدأ الرواية، رواية كل السوريين الذين نادوا بالحرية والكرامة، في 2011، لكنها تعود عبر حكاياتها إلى ما قبل ذلك بكثير، وتتلمّس الأسباب التي أوصلت البلاد إلى خضمّ حرب شرسة، وحوّلت ثورة تنادي بالديمقراطية والحرية إلى دمار شامل! وفيها تطرح أسئلة عن أسباب تراجع المجموعات العلمانية والديمقراطية، وكذلك المجموعات الدينية المعتدلة، لصالح سيطرة التطرّف وسيادة لغة الكره والعنف؟!

فضاء الرواية، على الرغم من طرحه لأزمة سياسية وطنية، إلا أنه يدور حول قصص الناس العاديين عبر رصد تفاصيل عيشهم الصغيرة، وعبر رصد حيواتهم الداخلية ورغباتهم ومشاعرهم وتغيّرها عبر الزمن، في محاولة لقراءة المجتمع السوري الملوّن عبر مجموعة مختلفة من الشخصيات، متناقضة متصارعة وتنتمي إلى الفئات والجماعات المختلفة والمتصارعة في سوريا، سواء أكان اختلافها سياسياً أو دينياً أو طائفياً أو عرقياً. حيث ترصد روزا تلك الاختلافات والصراعات التي تمتدّ لتغدو صراعات طبقية وثقافية. الواقع والتخييل نهجان يجتمعان في الرواية لصنعها، بالإضافة إلى استخدام العديد من التقنيات الروائية مثل تقنية “تعدّد الأصوات”، فيدور السرد في دوران مستمر بين الرواة المختلفين لمحاولة إحاطة الحكاية من مختلف الجوانب. وهي تقنية طالما استخدمتها الروائية، كما يتشظّى السرد في تنقل مفاجئ بين الأماكن والتواريخ، ويمتلئ بالحوارات والمونولوجات الطويلة.

رمان التقت صاحبة «أبنوس» و«نيغاتيف» و«حراس الهواء» و«بروفا»، ليدور الحديث معها حول روايتها الأخيرة «الذين مسّهم السّحر»، وملامح مشروعها الروائي بعد خمسة أعمال ترجم بعضها إلى عدة لغات، كما دار حديثنا عن أثر المهجر على نتاجها الأدبي بعد أربع سنوات من إقامتها في ألمانيا، ولمعرفة ما يشغلها الآن على صعيد الكتابة الإبداعية، فكان هذا الحوار ..

جميع السوريين (بغض النظر عن موقفهم من النظام)، جميعهم مسّهم السّحر كما تقولين في الرواية، أيّ سّحر هذا الذي مسّهم ومسّك معهم؟

الرواية كلها، برمتها، هي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، ولا أعرف إن كانت قد تمّت الإجابة عنه. على كلٍّ فأنا أفضّل النصوص التي تثير الأسئلة بدلاً من الإجابة عنها، وأفضّل أن يجيب قارئ الرواية عن هذا السؤال بالذات: أي سحر مسّنا؟! ولكن ما يجدر قوله، إن كل ما حاولته هو التأكيد على أن لحظة السحر لم تكن آنية، بل هي نتاج تراكمات وتحولات وحتى انزياحات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وصولاً إلى التبدلات الثقافية التي احتاجت إلى لحظة السحر تلك كي تغيّر المشهد السوري.

ما هي حدود الواقعي والمتخيل في «الذين مسّهم السّحر»؟ ومشروعك الروائي امتاز بالاهتمام في التدوين والتوثيق، حتى وُصفت أنك تحسنين الإنصات الى أصوات الآخرين. في روايتك هذه، أصوات مَن نقلتِ لنا؟

أعتقد بأن الرواية هي نصّ ديمقراطي، الروائي الذي لا يجيد الإصغاء للآخرين، ولا يسمع إلا نفسه، لن يتمكّن من كتابة رواية! لكني أرى أيضاً إن كلّ نصّ روائي هو مزيج من الواقع/التوثيق والتخييل، بين المعاش والمفترض، بين جمود الوثيقة وألاعيب الأدب. و«الذين مسّهم السحر» هي ذلك المزيج أيضاً. أحياناً يتداخل الأمران وأحياناً ينفصلان. النص الروائي خلطة من التجربة الخاصة وما نقرؤه ونسمعه ونحسّه ونتخيّله ونتمناه مع رشّة من بهارات الكاتب/الكاتبة الخاصة التي تميّزه/ها عن غيره من الكتّاب، وهنا تتولّد لذعة النص المغايرة.

بما يخصّني فأنا أحاول أن أخرج الوثيقة/الواقع من وثائقيتها الجامدة باتجاه الأدب. ففي الوثيقة لا يمكنك أن تقرأ دواخل الشخصية ولا مشاعرها، لا يمكنك تفكيك الحدث وقراءة تفاصيله وما يحيط به، ولا مراقبة تطورات السرد، لا يمكنك ببساطة أن تطرح الأسئلة! هناك من قال يوماً بأننا، كلنا، نكتب الوثيقة بشكل أو بآخر، لأننا كلنا نكتب الواقع، مهما اعتقدنا بأننا نكتب التخييل! فكل ما نكتبه يدور في النهاية في رؤوسنا وحول حيواتنا، وما تخييلنا إلا جزء من قدراتنا “الواقعية”! بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع هذا الرأي، فإن أهم ما يميّز الأدب عن “الوثيقة” هو تحريض الجمال الكامن في داخل كل منّا عبر التقنيات الروائية. وأما هذه الأخيرة :”التقنيات الروائية” فقد كانت مكثّفة أكثر من أي وقت مضى في «الذين مسّهم السحر»، التعدّد الكبير والعمودي للشخصيات المتناقضة والمتصارعة أحياناً، ذاك الذي يعكس الموزاييك الاجتماعي المتشظّي اليوم للمجتمع السوري، الأمكنة المختلفة بأحداثها المتنوّعة المتوازية، تطلّبت تقنيات أكثر تعقيداً. تقنية تدوير الحكاية التي أحبّ استخدامها بقيت أيضاً، حين يتغير السرد بين الراوي العليم والشخصية في دوران مستمر يحيط القصة من كل جوانبها، والتشظّي السردي الذي أعشقه في الروايات، وغيرها من التقنيات تجعل النص مستفيداً من الوثيقة مبتعداً عنها باتجاه السرد التخييلي.

في نهاية الرواية لم تضعي نقطة (.) كما هو المعتاد في النهايات، بل كتبت “وللحديث بقية…”. أهو نوع من الأمل؟ وهل تستطيع الكتابة الروائيّة برأيك التنبؤ أو استشراف المستقبل؟

أعتقد أن وظيفة الكاتب/الكاتبة تكمن في تحريض القراء على إعادة تعريف مسلّماتهم ومساءلة إجاباتهم الجاهزة، وليس تبديل المسلّمات بالمسلّمات والإجابات بالإجابات. ربما يمكن للروايات أن تفكّك الواقع، تحلّل مكوناته، تسبر عمق الشخصيات، تتقصّى تلك التفاصيل العميقة في الأشياء، ومن هنا ربما أمكنها أن تتلمّس تطوّر الواقع ومآلاته، فهي تعمل على إرغام الواقع على إظهار نفسه بكل قباحاته وتعقيداته، وبكل جماله أيضاً! لكن على ما يبدو، ومن خلال قراءة التاريخ العربي، سيبقى الكتّاب للأسف حاملين أبداً للعنة “كاساندرا”، تلك الكاهنة اليونانية التي وهبها “أبولو” نعمة النبوءة شرط ألا يصدق نبوءاتها أحد! أنا أعتقد بأن كل الكتّاب مصابين بشكل أو بآخر بلعنة “كاساندرا”! لكن عدم تصديق الناس لها لا يعني أن تكفّ العرافة عن نبوءاتها، ولا يعني أن يكفّ الكتّاب عن الكتابة، هي حالة جدلية دائمة من الفعل وإقصائه، من محاولات الفهم ومحوها، من اجتراح الحلول ونقضها، هذه إحدى مهمات الكتّاب دائمة التوالد.

كتبت من الروايات «أبنوس» و«نيغاتيف» و«حراس الهواء» و«بروفا» وصولاً إلى «الذين مسّهم السّحر». سؤالي: هل تُعدّين هذه الروايات (روايات توثيقية) أم هي (روايات تاريخية) أم ماذا؟ وما هي ملامح مشروعك الروائي بعد خمسة أعمال؟

ببساطة، ما يشغلني هو كتابة تاريخ موازٍ للبشرية خارج/مناقض للتاريخ الرسمي الذي يكتبه المنتصرون الأقوى، تاريخ سرّي ممتع يشعل القارئ بالفضول، تكتبه الشخوص المختلفة والمتباينة، المتلاقية أحياناً والمتصارعة أحياناً أخرى، فالتاريخ هو ما نحكم نحن بكونه تاريخاً. نص بلا بطل فالكل أبطال هنا، نص مليء بالأسئلة ولا يقدّم الإجابات الجاهزة، نصّ يزيح بقعة الضوء باتجاه الأماكن المعتمة المنسية، ونص يتموّج ويتلاعب بتقنيات فنية كثيرة ومعقدة أحياناً. نص شاهد! والأهم نصّ يؤكد بأنه ما من شعوب تمثّل كتلة واحدة، كل مجموعة ثقافية هي تنوّع من البشر المختلفين في دواخلهم اختلاف حبات الرمال. الهامش بكل تنوعاته يثيرني للكتابة عنه.

أنجزت هذه الرواية، بدعم من مؤسستين ألمانيتين هما: “هاينريش بول” و”هامبورغ شتيفتونغ”، وذلك بعد عثرات عديدة في طريقك إلى النشر ورفض عدد من دور النشر العربية نشرها. ما هي أسباب تعثر صدورها؟

الدعم كان باستضافة المؤسستين لي ولابني في منحة للكتابة لمدة سنة بدأت فيها بكتابة الرواية. كنت خارجة للتو من الجحيم السوري في أوائل سنة 2013 وكانت الكتابة سلاحي لقول ما أؤمن به، كما كانت حاميتي من الغرق في شعور الذنب القاتل، ذاك الذي يشعر به كل ناجٍ من مجزرة. الكتابة ساعدتني على اتقاء الموت غرقاً في النوستالجيا، وما زالت حتى اليوم. إذاً الدعم كان مؤقتاً قبل أن نضطر كمعظم السوريين في المنافي لطلب اللجوء. أما لماذا لم تقبل بعض الدور العربية نشرها، فأعتقد بأن الأمر يتعلّق بالوضع السوري الشائك، والحسابات السياسية والاصطفافات والقراءات التي لا تنظر أحياناً إلى محتوى النص بقدر ما تهمّها موقف كاتبه وشخصه، بمعنى قراءة خارجية وليس داخلية للنصوص.

طاولت رواياتك آليات الحذف أو المنع كما في روايتي «أبنوس» و«حراس الهواء»، كيف كنت تقودين نصك للتملص من عيون الرقابة؟ وهل فقدت اليوم، بعد الخروج من الوطن وغياب سقف الرقابة، متعة التلاعب على حبال الخطوط الحمراء التابعة لأمن النظام؟

بالنسبة لي ولمن قرأ نصوصي السابقة، التي كتبتها في بلدي سوريا، فأنا لم ألعب كثيراً على حبال الخطوط الحمراء، ولم أراوغ التابويات كثيراً ولا كتبت نصوصاً متنكّرة بأزياء مواربة، على الرغم من اعترافي بأن بعض تقنيات التلاعب الترميزية تخلق آداباً ممتعة. لكني مع ذلك أعتقد بأن النص الروائي يصطدم كل يوم بتحدٍ حقيقي يتمثّل في كيفية انقلابه على ذاته، وتطوير تقنياته من داخله وليس من خارجه فقط. بمعنى أن النص الروائي الساكن غير المتطوّر بشكل دراماتيكي مستمر سيسجن كاتبه في حدود أعماله السابقة، الأمر الذي أخشاه جداً. التحدي الأكبر لكل روائي هو إبقاء النص الروائي مفتوحاً دوماً على تأويلات وقراءات أخرى، كيف يخرجون في كل عمل من أسر العمل الذي سبقه، وكيف ينجحون في اجتراح تقنيات روائية جديدة تبقي الرواية على شكلها الحالي: ذلك الفن الذي لا يكفّ عن التطوّر باطراد، المستغلّ لكل الفنون الأخرى، الانتهازي والديمقراطي بآن. إذاً الأمر لا يتعلّق هنا بمراوغة التابوهات فحسب بقدر ما يتعلّق بمراوغة السكون والثبات في النص.

تقيمين منذ أربع سنوات في ألمانيا، فكيف أثّر المهجر على نتاجك الأدبي؟ وإلى أي مدى مازلت معنية ككاتبة اليوم بسوريا، في راهنها تحديداً؟

الوطن كما أراه مكان متخيّل دوماً، أقرب إلى تصوّر ميتافيزيقي طوباوي. والرحيل عن مواطن غذائنا الروحي، أن نشعر بأننا فقدنا بلحظة كل ما نعرفه، يجعلنا نصطدم بإعادة تعريفه: ما هو الوطن؟! بالنسبة لي سوريا ليست قطعة أرض، ليست جغرافية أثنية فحسب، بل هي ذاكرة، ونحن ببساطة كائنات من ذاكرة، نكتب كي لا تتبدّد ذاكرتنا، ونعيش لنبني هذه الذاكرة، ونحارب كي لا تمتصّنا هذه الذاكرة نفسها كثقب أسود قاتل. علاقة جدلية معقدة، مما يعني ببساطة أن الموضوع ليس خياراً، ولسنا مخيّرين في أن نكون معنيين بالوطن أو لا!

أما التغيير الذي طال كتاباتي فمازلت بحاجة لوقت كي أتلمّس ما تغيّر في دواخلي، فما بالك في كتاباتي! لكن ما أستطيع أن ألاحظه بأني بتّ أكثر اعتناءاً وانتباهاً إلى تفاصيل لم أكن أكترث بها قبلاً، كانت أشبه بالبديهيات حين كنت أعيشها فيما مضى. كما لمحت مواطن جمال وقبح في ثقافتنا كنت أعيشها دون تفكيك.

ببساطة هناك الكثير من البديهيات المعلّبة تغيرت عندي. تغيّر منظور أو زاوية الرؤية يجعلك ترى الكثير مما كان غائباً عنك وأنت في خضمّه، تفقد أشياء وتكتسب أشياء أخرى. والزمن هو الذي يقرّر في النهاية، الزمن الذي يعشق اللغة ويسامح كل من تعيش اللغة بفضله، حسب قول “و.ه.أودن”، وهذه قناعتي.

هل صحيح أن الكتابة الرّوائيّة هي حرفة تستدعي اللجوء الكامل إلى الإطمئنان النفسي والمكاني، وهي تأتي غالباً في وقت لاحق للأحداث الكبرى؟

لا، لا أعتقد ذلك، الأمر يعتمد على طبيعة الكتّاب وأساليب معالجتهم للنصوص. التنوّع الزماني والمكاني والنفسي يخلق نصوصاً روائية مختلفة متباينة، وهذا أمر جيد ويغني المشهد الإبداعي. فترة الكمون والتخمّر، إذا صحّ التعبير، مهمة للغاية في تفكيك أكبر للأحداث وفي قراءة متأنية وهادئة بعيداً عن ضجيج الجنون ورائحة الموت، ولكن الكتابة في خضم العاصفة ينتج أيضاً جمالاً خاصاً لا يبتعد عن رائحة الدمّ الواخزة ولا حرارة الأرواح! لكل منها لذعته الخاصة. المهم أن لا يخضع النص إلى أية اعتبارات خارجة عن الإبداع، أن لا يفسح المجال للخوف أو الضغينة الشخصية أو الهوى الشخصي. بمعنى أن لا يكون الكاتب/الكاتبة إلا بوق نفسه وليس بوقاً لأي حزب أو إيديولوجيا أو طائفة أو دين أو انفعال آني خارج إبداعي، باختصار أن يكون وفياً لروحه الروائية. والذي يحدّد جمال النص، سواء كُتب بعد سكون العاصفة أو في خضمّ جبروتها، فهو النصّ ذاته، كيف كُتب؟ وما هي تقنياته؟ وما الأسئلة التي طرحها؟ أفضّل أن أقرأ النص من داخله على قراءته من الخارج كما سبق وقلت.

إلى أيّ مدى يمكن للكتابة الإبداعيّة أن تتجاوز سيول الدم وتقترح إبداعها في مواجهة المستبد؟

أنا أؤمن بقوة الكلمات، أؤمن بالتعويذات السحرية اللغوية، التي لا يكون تأثيرها بالضرورة آنياً، بمعنى الكلمة مقابل الرصاصة، بل ربما احتاجت لأجيال قادمة كي تتحقّق. الحكايات ببساطة لا تنقذنا من الكوارث التي ترتكبها الإنسانية، ولا تحمي الإنسانية ذاتها من صنوف الألم والقهر، لكن يمكنها، كتعويذات سحرية لغوية، أن تكون أشبه بناقوس الخطر، أن تحذّرنا من الآتي ومن العتمة في دواخلنا، أن تنبئنا عبر تفكيكها للواقع ومآلاته ودواخله. ربما ببساطة تجعلنا الكتابة يقظين حيال ما يحصل ولا نذهب في التنويم الجماعي للضمير الإنساني. ربما لن يسمعها أحد كما سبق وقلت، لكن يكفي أنها تنقذ معاناتنا من الذهاب في النسيان، وقد تقرؤها أجيال قادمة، وتعمل على تعريف تجاربنا بالكلمات، وربما تقترح حلولاً وسيناريوهات بديلة كي نبقى أحياء!

يقول “روبرتو كالاسو” جملة فيها من المفارقة المضحكة المبكية ما فيها، يقول: “الحياة التي لا تُدعى الآلهة إليها ليست جديرة بالعيش!”، إذاً ستكون أهدأ وأكثر اطمئناناً لكنها خالية من براكين القصص. هذه رؤية مبالغ بها، ولكن ربما استطعنا استغلال الشقّ الإيجابي من معاناتنا لتوليد المزيد من الحكايات.

ثمة طفرة تشهدها الرواية السورية الشابة مؤخراً. برأيك ما هي أهم العوامل التي أدت إلى ذلك؟ وما هي نظرتك لواقع الرواية الشبابية في سوريا؟

جدار الخوف سقط باختصار على الرغم من كل الآلام السابقة واللاحقة لسقوطه، وربما كانت الويلات التي حدثت وتحدث في سوريا هي السبب الرئيسي لانهيار حاجز الخوف، وتكسير التماثيل المكرّسة، ليس الأنظمة والسلطات فحسب، بل أيضاً أجيال من الكتّاب المكرّسين الذين كانوا يشكّلون باعتقادي حاجزاً نفسياً للكتّاب الجدد. هناك غنىً واضح في المشهد الإبداعي السوري اليوم، بغض النظر عن القيم الفنية المصاحبة لكثرة النصوص، وهذا سيتغربل مع الزمن. لكن الأهم أن يحاول الكتّاب الجدد عدم قتل آباءهم بهذا المعنى، بل تجاوزهم باتجاه نصوص مبتكرة أكثر جدة. فأنا أرى اليوم بأننا نفقد الكثير إذا لم نستفد من التجارب السابقة، فنحن ببساطة ما علّمتنا إياه التجارب السابقة جماعياً وفردياً. سلسلة ذهبية كل حلقة منها متعلّقة بالأخرى وتخلق جمالها. ربما هذه هي إحدى الأشياء التي تغيّرت في رؤيتي للمشهد الأدبي اليوم.

كيف جاءت فكرة ترجمة روايتك «حراس الهواء» إلى اللغة الألمانية ثم تحقّقها مؤخراً؟ ولماذا هذه الرواية تحديداً؟ ماذا عنى لك ذلك؟ وهل في الأفق مشاريع لترجمة أعمال أخرى؟

«حراس الهواء» ترجمت إلى ثلاث لغات: الفرنسية والإيطالية وأخيراً الألمانية، «أبنوس» ترجمت أيضاً إلى الألمانية، و«الذين مسّهم السحر» في طريقها للترجمة كذلك. بالنسبة لي الترجمة ليست مطمحاً بحدّ ذاتها، إنما طريق للوصول إلى قارئ آخر، أي إلى ثقافة أخرى. الهجين دائماً أجمل، وخلخلة مركزية الثقافات بنصوص جديدة من ثقافات مغايرة تغني المشهد الإبداعي دوماً. أن تقرأ ثقافات أخرى نصوصنا، هذا يعني أن ثقافتنا استطاعت اختراق عقول لم تعرفنا، واختراق آراء بنيت واكتملت ونحن اليوم بكلماتنا نحاول تغييرها. الترجمة طريق إلى ضفة أخرى، كتابة أخرى للنصوص، وهذا أمر جيد باعتقادي لأي روائي. المهم أن لا نقع في مطبّ الكتابة بغاية الترجمة، فهذا فخّ قاتل بالنسبة لأي كاتب. الترجمة لا تجعل من النصوص الرديئة جيدة، كما أن غيابها لا يقلّل من أهمية النصوص الجيدة، هي كما قلت طريق للوصول إلى ألسنة أخرى، وكلما ازدادت الترجمة إلى لغة ما كلّما ازدادت تلك اللغة غنى وثقافة بتنوّع المصادر التي ترفدها.

لماذا تكتبين وماذا تنتظرين من الكتابة الإبداعية؟

أكتب ببساطة لأني لا أجيد شيئاً آخر، الكتابة بالنسبة لي نوع من الاحتفال بالحياة على طريقتي، نوع من تبجيل تنوّع الحياة وغناها، والتملّص من أسر المكان والزمان والهوية المغلقة. الكتابة وسيلة لمعرفة ذاتي كما معرفة الآخر. ليس لدي وهم الخلود بالكتابة، ولكن لدي إيمان بأن الصوت لا يتبدّد في الكون، والكلمة قد تصل إلى روح أخرى في عالم آخر وزمن آخر أجهله.

حين أكتب عن الذاكرة باعتبارها الحبل الذي يصلنا بمخازن الماضي، والذي يلفّ أحياناً حول رقابنا حتى يخنقنا، فأنا أريد بذلك قتلها: قتل الذاكرة/النوستالجيا بكتابتها، وبالغوص فيها حتى الأقاصي! إذاً هو نوع من الحياة ولكن في عالم الكلمات. يشغلني مفهوم الذاكرة الآن، ما يتمّ تذكره هو ما حدث وما لا نتذكره لم يحدث! بمعنى أنه ما من قصة حدثت حين لا نتخيّلها، وما يتمّ تذكره هو الحاضر الذي نعيش فيه.

أخيراً، ما الذي يشغلك هذه الأيام على صعيد الكتابة؟

تشغلني الكتابة عن العيش على التخوم، بين عالم الواقع وعالم الفانتازيا، كما تشغلني الكتابة عن تعدّد الهويات، عن الآخر الذي يشكّلنا، والذي نخاف منه بقدر ما نخاف ممّا في أنفسنا، فالآخر هو نحن بشكل من الأشكال، وفهمنا له يعادل فهمنا لأنفسنا، ولتلك الزوايا المعتمة والمخبّاة في دواخلنا.

——————

مقطع من «الذين مسّهم السّحر» بعنوان “عن الرجل البخاخ وأحاديث الجدران” لروزا ياسين حسن

مقطع من «الذين مسّهم السّحر» بعنوان “عن الرجل البخاخ وأحاديث الجدران” لروزا ياسين حسن

روزا ياسين حسن: لسنا مخيّرين في أن نكون معنيين بالوطن أو لا!

“احتفالية فلسطين للأدب” في دورتها العاشرة تضع سؤال المستقبل والحرية في بؤرة النقاش

صدور ثلاثة كتب لبول أوستر بترجمة سامر أبو هواش

في تلك الليلة حالما عاد “ميفان” من لقائه مع الأستاذ محبطاً متآكلاً، سأل أمه عن مفتاح غرفة الخرداوات تحت الدرج، تذكر بأن أخاه “شيران حاجو” كان يطلب إليه قبل سنوات أن يذهب لبخّ رقم هاتفه المحمول على الجدران كدعاية لعمله في حفر الآبار. كان يبخّ جملة واحدة على كل الجدران: (حفر آبار) ثم الرقم. تذكّر بأنه كان قد اشترى صندوقاً فيه دزينة من البخاخات الملونة قبل أن يقرر العمل في مدينة “حمص”. بالفعل كان صندوق البخاخات ينتظر “ميفان” في زاوية غرفة الخرداوات، كأنه يناديه ليخلّصه من حالة الجمود القاتل التي يعيشها. كان حلاً سحرياً صندوق البخاخات ذاك، ذلك أن السلطات حظرت بيع البخاخات بعد أن راحت الشعارات المعارضة تملأ جدران المناطق المشتعلة، في “الحجر الأسود” كما في معظم المناطق المحيطة. ثمة وظيفة جديدة راح يعاني منها رجال الأمن، تتمثل في محو الشعارات التي تتخم الجدران. كانت سياراتهم تدور كل ليلة لمحو ما كُتب، يدورون في كل حارة، يبحلقون في الأسوار المتفرقة. في البداية كانوا يدهنون الجمل بالطلاء الأبيض. يحملون سطول الطلاء في سيارات الجيب ومعها الفراشي. ثم لم يعد هناك متسع من الوقت والهمّة للطلاء، فصاروا يبخّون فوق الجمل بالأسود ليطمسوا معالم الكلمات. شعار فوق شعار، جملة فوق جملة، أتخمت جدران المنطقة بالمساحات السوداء، وتحوّلت إلى بقع سوداء عملاقة.

“ميفان” يراقبهم كل ليلة من شباك المطبخ. يطفئ الضوء ويسدل الستارة ثم يراقبهم من شقّ صغير في القماش. يأتون بعد منتصف الليل ليقوموا بمحو الأصوات المكتوبة حوالي الساعة الثانية فجراً من كل ليلة. هذا يعني أن كتابة الشعارات بعد هذا الوقت قبل الشفق بقليل، حيث العتمة أعتى من أي وقت آخر في الليل، ستجعل ما يُخطّ على الجدران ينتظر الغادين صباحاً إلى أعمالهم أو مدارسهم. كأنك تصرخ بدون صوت بما تريد قوله، ويسمعه الجميع، أو يُجبر الجميع على سماعه! هذا بالضبط ما أغوى “ميفان حاجو” في الفكرة كلها، اقشعر جسده بالكامل كأنه في لحظة نشوة. كانت الفكرة التي يبحث عنها منذ زمن دون أن يدري. سيستطيع أن يؤلف الروايات بدل أن يقرأها. لن يكون الأمر بحاجة إلى إكمال التعليم، ستكون الجدران، لا صفحات الكتب، ميدانه. المعرفة هنا لم تعد حكراً على الكتب، صارت معروضة في الشارع ومتاحة للجميع. هذا ما قرره “ميفان” واقشعر جسده من جديد:

أن يكتب ما يريد من الآخرين قراءته، والحيطان صفحاته البيضاء التي تنتظره بفارغ الصبر. لا انقطاع التيار الكهربائي ولا الحصار سيعيق إيصال الكلمات للناس، إنها أمام أعينهم مسفوحة على الجدران!

في بيت “شيران” لاقى اليوم صباحاً أحد أصدقاء أخيه المقرّبين، يطلقون عليه “أبو علي الفهد”، كان فيما مضى شديد الفقر يعمل سائق سيرفيس على خط “الحجر الأسود- البرامكة”. قيل بأنه قدِم من ريف “حلب” قبل سنوات طويلة، هارباً من جريمة قتل ارتكبها على تخوم قريته. في “الحجر الأسود” ألفى مكاناً مكتظّاً رحباً مليئاً بالمفاجآت، كان أولها عجوز نازح من “الجولان” زوّجه ابنته العانس وأعطاه سيرفيساً قديماً، كان كل ما يمكله، ليعمل عليه في ورديات ليلية. بعد ذلك قرر “أبو علي الفهد” أن يستقرّ في جنته الطارئة: “الحجر الأسود”. لكن زوجته التي تشبه خنزيراً أسود، حسب تشبيهه الدائم لها، جعلته يقضي نهاره في ملاحقة النساء الدمشقيات أينما كنّ. كان لديه صاحبة حبيبة في كل منطقة من ريف “دمشق”، ويحاول جاهداً أن يحصل على صاحبة من أهل المدينة الأوائل: أينما تريد لدي واحدة. كل امرأة من مكان لديها نكهة خاصة لا تتواجد في الأخرى. نساء المعضمية مثلاً لا يشبهن نساء داريا. وصاحبتي في جرمانا لا تشبه تلك التي أواعدها من ركن الدين”. ويقهقه “الفهد” كازّاً بأسنانه على مبسم نبريش الأركيلة.

حينما يسأله “ميفان” عن السبب الذي يحدو بكل أولئك النسوة لإقامة العلاقات معه، كان يجيبه بصوت فخور: “الفحولة… الرجولة. الرجال يظنّون إنهم بالمال يكسبون النساء! مخطئون، الفحولة هي السبب. تستطيع امتلاك قلب أصعب امرأة إن كنت فحلاً… عقل المرأة بين فخذيها”.

ويقهقه بصوت أعلى فيشاركه “شيران”، شقيق “ميفان” الذي لبث يستمع إلى حوارهما، الضحك. فيما لا يستطيع “ميفان” أن يعثر على أي سبب للضحكهما الهيستيري.

لكن “أبو علي الفهد” لم يعد فقيراً كما كان. في بدايات 2012 كانت النقود تفيض بين يديه! وتزيد يوماً بعد يوم! لكن “ميفان” لطالما شعر بالخوف منه، جسده الضخم، صوته الغليظ، ومشيته التي تشبه مشية مصارع غاضب. لا يجرؤ أحد على الكلام معه. مرة ضرب رأس رجل بالجدار كاد يقتله. يستطيع حمل رجل بيد واحدة. كان “أبو علي الفهد” من أكثر زعران “الحجر الأسود” شهرة، واليوم هو من أكثر زعماء الكتائب المسلّحة شهرة.

القتال بقلوب سباع لا تخاف الموت لأمثالنا. هؤلاء المخنثون لن يستطيعوا حمل السلاح. سيظلون هكذا كالحريم يندبون مصيرهم!!

صاح “أبو علي الفهد” إثر “ميفان” الذي ترك الجلسة فجأة.

قبل شهور قليلة مات أهله جميعاً في قذيفة نزلت على بيتهم في ريف “حلب”. رحلت العائلة بأكملها، ولم يتبق إلا أخوه الصغير الذي كان في وضع نفسي غير متوازن. قال لـ”شيران” إن من يلتحق بهم في الجيش الحر، ويدافع عن بلده وشرف أهله من السوريين، هو وحده من يستحق صفة رجل، وغير ذلك هو أشبه بعالة يستحسن أن تنقبر في البيت.

إنها الطريقة الوحيدة التي أمامنا، أعداء الله أولئك لن يذهبوا إلا بالدم، ونحن لها.

لكن “ميفان” كانت لديه طريقته الخاصة في الثورة.

وما هي طريقتك يا فهيم؟

سأله “الفهد” متهكماً. “ميفان” ظل صامتاً، لن يبوح لأحد بسره. لكن “الفهد” استمرّ في محاولاته لجرّ “ميفان” إليهم، أخبره عن عملية نوعية سيقومون اليوم بها، سيغيرون على بيت أحد الأثرياء المتعاملين مع النظام في المنطقة، ويستخدمون غنائمهم في حربهم ضد النظام، وطلب من “ميفان” أن يبدأ مشواره معهم بهذه العملية.

جسمك صغير وخفيف، تستطيع أن تساعدنا بالكثير.

صاح “الفهد” لكن “ميفان”، أيضاً، لم يستجب!

في الليلة الأولى أحسّ “ميفان حاجو” بأنه عارٍ تماماً أمام الليل وعناصر النظام، أمام الخوف وقلة المعرفة. خرج بعد الساعة الرابعة صباحاً، حمل أحد البخاخات داخل جاكيته، لفّ رأسه بكفية بيضاء مرقّطة بالأحمر، كانت كفية المرحوم والده وقد فكّر بأنها ستهبه الحظ الطيب ربما. أول جدار لاقاه في وجهه كان جدار المدرسة الابتدائية القريبة. ثمة مساحة لا بأس بها يستطيع أن يكتب عليها ما يريد. أخرج البخاخ وهمّ بالكتابة، لكنه للحظات، لدهشته، لم يعرف ماذا يكتب! تلفّت حوله، كان الشارع خاوياً إلا من الصقيع والكلاب الشاردة! صوت الأذان راح يصدح بصلاة الفجر. فكّر بكل شيء، بوقت الخروج، بثيابه، بالأمان، بتكتيك حركته، بكل شيء إلا بالجمل التي سيكتبها! لكنه، وبحركات سريعة، قرر كتابة أول ما خطر بباله:

“حرية… حرية”.

تلكّأ البخاخ قليلاً، فخرجت الأحرف سوداء مجعّدة على السور المطروش بالأبيض. ركض إلى الأمام حيث مجموعة من المحلات التجارية المغلقة، الغلق المعدني الخالي من اللون أغراه بالبخ فكتب، هذه المرة بحروف أقل تجعيداً:

“عاشت سوريا حرة”، ثم أكمل إلى الأمام مهرولاً.

“عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”، على السور الطويل الذي يحيط بخزان الماء.

صار البخاخ أكثر سلاسة في يد “ميفان”، طاوعه أخيراً بدون تجعيدات. صارت الكلمات تنساب سوداء على الجدران والأسوار وغلق المحلات، على الأبواب والشاخصات واللافتات، حتى على الأرصفة وإسفلت الطرقات. كل مساحة مسطحة كان من الممكن أن تكون صفحة بيضاء تنادي بخاخ “ميفان” أن سطّر حروفك عليّ.

قبل أن يشقّ الضوء بدقائق كتب ميفان: “لن نركع”، وعاد مهرولاً إلى البيت.

في الصباح وهو في طريقه إلى فرن الخبز كانت سيارات الأمن تصطف على جانب الطريق، يمحو عناصرها بانفعال ما كتبه بخاخه الأسود في أرجاء الحارة. أنظار الناس أيضاً كانت تقف لثوان كي تقرأ ما هو مكتوب.

لقد وصلت الرسالة. شعر “ميفان” بهواء عليل مشبع بالفرح يلج جسده بعزم. كان يبتسم رغماً عنه. أحسّ بأن ثمة معنى جديداً لكل ما سيأتي لم يكن له وجود في روحه سابقاً.

في الفجر الثاني تلفّح “ميفان” بكفيته من جديد وخرج ليكتب. كان قد قرر ما عليه أن يكتب:

“طال الزمن أم قصر، الشعب سوف ينتصر”.

قرأها في إحدى صفحات التنسيقيات على الفيسبوك. قرر أن يعيد كتابتها بقلمه، ستصبح من إبداعه حينما يضعها على الجدران ويقرؤها الناس هنا.

“القذافي طار طار ضبّ غراضك يا بشار”.

مع الزمن صارت الجدران البيضاء تلهمه بكتابات أخرى، بشعارات مغايرة تختلقها روحه بلحظتها، كأنه وحي ينزل عليه بعد الساعة الرابعة فجراً وينتهي بشروق الشمس.

لكن المغامرات الليلية تلك لم تكن تنتهي دوماً بسلاسة. لاقته دوريات الأمن أكثر من مرة، في إحدى المرات اقتربت رصاصات عناصرها كثيراً منه حتى أصابوه في ساقه، شحفتها الرصاصة، لسعته بحرقة مؤلمة. لكنه قفز إلى سور بيت مهجور وغاب في العتمة. اشتم رائحة عرق العنصر الذي رماه بالرصاص، سكنت أنفه، وجعلته يتحوّل من شاب مولع بالكتابات إلى رجل بخاخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ذلك الجرح، الذي أحدثته الرصاصة المارقة على ساقه، ترك ندبة لن تمحى في جسده، كما في روحه. عند الفجر عاد مسرعاً وهو يحجل إلى البيت. ضمّد الجرح سريعاً لئلا تراه أمه، واندسّ في السرير. كان عليه أن يتغيّب في الليلة التالية بسبب ساقه المتورمة، وذاك الألم الممضّ الحارق فيها. ليلة واحدة هي، وعاد الرجل البخّاخ إلى بخّاخه من جديد.

بعد أسابيع قليلة راح يخطّ تحت الشعارات التي يكتبها: “رمح”، اسم يميّزه، يعطيه تعريفاً موحداً لكل ما يكتبه. اسم جمعه من لملمة حروف جملة: “ثائر من أجل الحرية”.

مع مرور الشهور صار “رمح” الشغل الشاغل لحيّ “الحجر الأسود”. ليس الحي وحده بل كل المناطق المجاورة: مخيم اليرموك، القدم، والعسالي.. وراحت صفحات الفيسبوك تضع شعارات الرجل البخاخ “رمح”، والمناطق الأخرى تستقي من تلك الأسطورة التي اسمها “رمح” قصصاً متعددة متشابهة.

“فقط في سوريا يتمنى المعتقل الموت”

جملة كتبها بالبخّاخ الأحمر على جدار المقبرة، أبكت الكثير من الأمهات الغاديات صباحاً إلى سوق الخضار، تذكّرن أبناءهن المعتقلين، أولئك الذين لم يغيبوا عن ذواكرهن يوماً، وفكّرن وهنّ يمسحن عيونهن، للمرة الألف ربما، كيف سيكون حال أبنائهن في عتمة المعتقلات الآن، وهل سيقدّر الله لهنّ أن يكحّلن عيونهن بمرأى الأحباب؟!

في الأيام التي سبقت الدعوة لإضراب الكرامة ملأ “رمح” جدران الحي وزواياه:

“إضراب حتى النصر”.

كان أصدقاء “ميفان” يحدثونه عن ذلك المدعو “رمح”، يخترعون القصص ويؤلفون الأخبار. يهمس له واحد بأنه رآه البارحة. يسرّ له آخر بأنه كان صديقه المقرّب فيما مضى ولكن السنين الغدارة فرّقتهما. كان “ميفان” يهزّ رأسه ببلادة، ويحلم بالساعة الرابعة فجراً وبملمس البخّاخ الأملس المعدني بين أصابعه.

” البلد يحكمها ولد”

“بالفيتو أو بدون الفيتو… بشار الأسد خلص زيتو”.

منذ أن قرر “ميفان” ما قرره لم ينبلج فجر بدون أن يخرج للكتابة. مرّت حملات الاعتقال، دوريات الأمن، ليالي قصف المدفعيات، تشييعات، مظاهرات، أيام انقطاع التيار الكهربائي، حصار الجيش الأخير للحي، ولم يتغيب رغم كل ذلك إلا ثلاثة أيام: اليوم الأول حينما أصيبت ساقه، واليوم الثاني كان حينما وصله نبأ “أبو الليث” صديق أخيه “شيران”:

كان “أبو الليث” قد اختفى في ليلة ما. زوجته وأطفاله، الذين أرسلهم إلى أقارب زوجته في لبنان، راحوا يتصلون به مراراً دون أن يصلهم أي رد. أخوه “أبو ليلى”، الذي كان قد انتقل للعيش في حي “الإنشاءات” في بيت والد زوجته بعد دمار بيته، استطاع الوصول إلى حي “دير بعلبة” عابراً مدينة “حمص”. نجا بأعجوبة من رصاصة قناص أزّت بجانب أذنه وهو يركض ملتوياً بين الأزقة الهامدة. اتصل بشقيق زوجته “مصعب محمود” ليأتيه مسرعاً، فتسلل الأخير تحت جنح الليل محتضناً رشاشه ليقبع حتى الصباح إلى جانب صهر لم تغمض له عين. كانت الوساوس تتناهشه بوحوش جائعة: هل يكون “أبو الليث” قد اختطف؟! أم ذهب مع الثوار؟! هل يكون رجال النظام قد نجحوا باعتقاله بطريقة ما؟! أم هو في مهمة سرية لا غير؟!

عند شقّ الفجر خرج الرجال للبحث، “مصعب” مايزال يتشبث برشاشه و”أبو ليلى” استلّ بندقية أخيه، وعبر البساتين القريبة انطلقوا.

هناك على التخوم سحابة من الدخان القاتم ما تزال تتصاعد من غرفة متطرفة كانت فيما مضى مستودعاً لأدوات الزراعة. إلى الغرفة العابقة برائحة لحم محروق وهباب دخل “أبو ليلى” ومعه “مصعب” وشابين من شباب “دير بعلبة”. شيء ما جذبهم ليدخلوا تلك الغرفة المحايدة المتضبّبة.

سبع جثث متفحّمة ملقاة على الأرض والدخان يتصاعد منها.

لسبب ما تقدّم “أبو ليلى” يحاول تقليبها، وهو مايزال يغلق أنفه وفمه بظاهر ساعده. لم يتبين أي ملمح من ملامح البشر الذين كانوا قبل الحرق، كانت أيديهم موثوقة إلى الخلف، ويبدون هامدين كأنهم ماتوا قبل الحرق. الجثة الثالثة بدون معالم كذلك، لكن التفاتة سريعة حانت منه استطاع أن يلتقط فيها ساعة فضية اللون في معصم الجثة الأسود. ساعة تشبه ساعة “أبو الليث”!!… لا، إنها ساعة “أبو الليث”، يعرفها جيداً فهو من انتقاها قبل سنتين من محلّ صغير في السوق الطويل وأهداها لـ”أبو الليث” في عيد ميلاده الخامس والثلاثين.

لكن لم يكن هذا “أبو الليث”! لم يكن وجهه هذا المنتفخ المحروق الملقى على الأرض! لم يكن جسده هذا المشلوح كخردة مسودّة! لم تكن رائحته تلك القبيحة المثيرة للغثيان.

راح “أبو ليلى” يجسّ الجثة، يقلّبها، لم يعد يشعر بما حوله، تكثّف المكان بها وبرائحتها، رأسه يضجّ، عيناه تحرقانه بالهباب، قلبه ينتفض في صدره ويكاد يختنق بأنفاسه!

كان “أبو الليث” قد مات حرقاً.

اليوم الثالث الذي لم يخرج فيه “ميفان حاجو” ليبخّ شعاراته على جدران حي “الحجر الأسود” كان يوم اعتقاله.

قبل ذلك بيوم ألحّ “سعيد حسين” على باله بإصرار، اشتاق إليه كما يشتاق لأمه. قرر أن يغدو إلى بقاليته في مدينة “جرمانا” ليراه. كانت الطريق صعبة للغاية، حواجز الأمن والجيش تقسّم “دمشق” إلى شظايا صغيرة منفصلة. أصوات القصف على “بيت سحم” و”عقربا” القريبة تهزّ “جرمانا” وطريق المطار، شيء يشبه القلق والرعب يعمّ شوارعها، والازدحام يزداد ويزداد.

“سعيد حسين” كان جالساً وراء المكتب يسرد في الشارع كعادته. بدا لـ”ميفان” أكبر من عمره بسنوات، وترهلات جديدة ومتعبة تخطّ وجهه، لكنه مازال بشوشاً محبباً. حينما لمحه “سعيد” على باب البقالية شهق من الفرح، خرج من وراء المكتب واحتضن الشاب طويلاً. حينما تركه كانت عيناه رطبتين.

قضى “ميفان” ساعات في بقالية “سعيد”، تحدّثا عن كل شيء إلا عما يفعله “ميفان” اليوم ببخاخاته. كلما كان “ميفان” يصمت كان “سعيد” يستحثّه للكلام. حدّثه الشاب عن نهاية “أبو الليث” وبكى. بدا “سعيد” حزيناً. حدّثه “سعيد حسين” بدوره عمّا يحصل، عن الخوف الذي راح يتنامى في دواخل أهله، وعن إلحاحهم عليه بأن يعود إليهم ويترك “دمشق” لويلاتها.

ولن تذهب؟!

لا، بالتأكيد لن أذهب… أنا لم أؤذ أحداً لذلك لن يؤذيني أحد.

قال “سعيد” إنه بات مقتنعاً اليوم بأن النظام أخطأ، أخطأ كثيراً، لكنه لا يستطيع أن يقوم بشيء ضده فهذا واجبه الوطني. في النهاية هو نظام قاتل إسرائيل وأميركا، وحمى الأقليات. كان قد سمع بهذه الفكرة من برنامج حواري تمّ عرضه مؤخراً في قناة “الميادين”.

هذا كله كذب صديقي سعيد…

كيف كذب؟!

يعني لا هو يقاتل إسرائيل ولا يحميكم!!

عيب هالحكي ميفان… عيب.

لا مو عيب… سعيد هذه الحقيقة، بس أنتم تضعون طميشات البغال على عيونكم… وتمشون كالبغال أيضاً…

بدا اللوم في عيني “سعيد”، فاعتذر ميفان من فوره.

ميفان يا حبيبي أنا اشتقت لك كثيراً، دعنا لا نختلف في هذه الأمور. كل منا لديه قناعاته ولكنا أصدقاء…

وقام ليجلب زجاجتي كولا كي يشربا معاً.

حين عاد “ميفان حاجو” إلى “الحجر الأسود” كان يشعر بالقهر. رؤية “سعيد حسين” أثلجت روحه قليلاً، لكنه بات يقتنع أكثر فأكثر بأن هناك أشياء تتفكك، تنهار، وتتدمّر، وبأنه لم يكن يتخيّل أن يأتي يوم ويتعارك مع “سعيد” أو يشعر بالشفقة عليه. هل كانت البلد ستؤول إلى ما آلت عليه لولا كل ما حدث؟!

في الليل راحت تلحّ عليه جملة ظلّ يرفضها طويلاً، لكنه هذه الليلة كان ممتلئاً بها وهو يبخّها باللون الأسود على الجدران. لون قاسٍ كقلبه لحظتئذ، قلبه المفعم بالحقد والكآبة والغضب كما لم يكن يوماً:

(الشعب يريد إعدام الرئيس)

(الشعب يريد اعدامك بشار)

في تلك الليلة استطاعت إحدى دوريات الأمن أن تلقي القبض على الرجل البخّاخ “رمح” على مفترق طريق معتم ماضِ باتجاه الحقول على مشارف حيّ “الحجر الأسود”.

 

موقع رمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى