مراجعات كتب

روزا ياسين حسن والممسوسون/ جمال شحيّد

 

 

بعد مجموعة من الروايات، أشهرها “حراس الهواء” و”بروفا”، تطلّ علينا روزا ياسين حسن في رواية جديدة عنوانها “الذّين مسّهم السحر: من شظايا الحكايات” (دار الجمل، 2016)، تعالج السنوات الثلاث الأولى من عمر الثورة السورية. لقد قسّمت الكاتبة روايتها إلى 34 فصلاً تغطي هذه السنوات اللافتة في تاريخ الثورة. ويبدأ 31 فصلاً بحرف الجر “عن” الذي يحدّد موضوع الفصل: “عن الكافيتريا…”، “عن مفاتيح المدينة…”، “عن الرجل البخّاخ…”، “عن القنّاصة… وعن المراجيح المنصوبة على الدبابات”، “عن المآلات والنهايات…”، كأنّ كل فصل قطعة “بزل”، وإذا جمعت هذه القطع تتشكّل المشهديّة التي رامتها الكاتبة. ويُغطّي الفصل الأول عام 2011، في حين أن الفصول الباقية تتحدّث عن وقائع عامي 2012 و 2013.

تركّز الكاتبة في عنوان الرواية وفي تضاعيف متنها على المسّ السحري الذّي أصاب الجميع: “لقد أصابتنا غواية العصيان، مسّنا السحر بقوته، لحظة التغيير وحلم الحرية، كلّنا، المعارض للنظام والموالي له ومَن بينهما، الأبيض والأسود والرمادي والملون، كلّنا مسّنا السحر، وسيبقى يلاحقنا كذاكرةٍ ملحّة. لن نعود كما كنّا قبلاً، لا يوجد أحدٌ في الدنيا عاد بعد مسّ السحر كما كان قبله!” (من خاتمة الرواية). ولكن إذا أردنا أن نفهم كيف تغيّرت الأحوال في سوريا، لابدّ من تتبّع شخصيات الرواية الكثيرين وتطورهم.

تبدأ الرواية من جَرَمانا [وهي ضاحية تقع في الغوطة الشرقية شرقي دمشق ويقطنها الكثير من الدروز والمسيحيين، ويربو عدد سكانها على المليون ونصف]. وتحديداً تبدأ من “كافتيريا ابن البلد” لصاحبها الجديد “عبد اللطيف مسعود” الموالي للنظام، بعد أن كان يستثمره سابقاً المعارض “عمران أبو العزم”، وبعد أن كانت الكافتيريا تدعى “مقهى جرمانا” ويؤمها عدد من المعارضين الشباب الذين “يتكلمون طوال الوقت. يتناقشون بحدة، يتصايحون في أحيانٍ كثيرة”. وتقع الكافتيريا في بناية “تسكنها عائلة مسيحية (أم بييرو شاهين) وعائلة حمصية وأخرى ساحلية ورجلٌ خمسيني أعزب، وفيها أيضاً شقة للدعارة تديرها امرأة ستينية تشغّل ثلاث صبايا، كل صبية أبشع من الثانية”، ويحميها أكبر الرؤوس في المنطقة. ونادل الكافتيريا هو الشاب الكردي “ميغان حاجو” الذي يسكن في حيّ الحجر الأسود. ويتعرف القارئ على زبائن المقهى من خلال عيني ميغان ومراقباته. ذات مساء، رأى شباباً ملثّمين بكفيات تخفي وجوههم ويهتفون “علّا الطير، علّا الطير، باي باي يا بشار تصبح على خير”. وبدأ إطلاق النار عليهم، عندها “راح ميغان يهرول كالممسوس بين البيوت لاهثاً مرتعباً”. وتصوّر لنا الكاتبة التطورات التي بدأت تظهر على ميغان طغير المسّيس” وأفراد عائلته الكردية، لاسيّما أمه التي كانت تنعت المتظاهرين بـ”المخربين” ثم راحت تصلّي لهم: “الله يحمي شباب البلد لأمهاتهم”.

وراحت لائحة القلق والترقب تنبعث من دمشق: “يوم رأس السنة للعام الجديد 2012 لا يشبه أي يوم رأس سنة مرّ على دمشق قبلاً! دمشق لا تشبه دمشق أبداً! كأن لعنة الزمن أصابتها، غيّرت مزاجها، خرّبته”. ويزداد قتل المتظاهرين “وتمرّ أخبار الموت وجلسات التعزية”، ويدمن السوريون على نشرات الأخبار، وتزداد الحواجز والمتاريس “دمشق أشبه بثكنة عسكرية”، ويكبر حجم المظاهرات السلميّة الحاشدة، ويلعلع الرصاص: رصاص القتل ورصاص الأعراس.

وترتفع في الشوارع لافتات المؤيدين والمعارضين وتهدر الهتافات ويطلق الجنود الأعيرة النارية على المتظاهرين: “يحاولون كسر رؤوسنا، لكنّنا سنكسر رؤوسهم أولاً”، ويغادر “علويو المساكن” وفي المعضمية، بيوتهم ويستأجرون في بلداتٍ أكثر هدوءاً. وهكذا يلجأ العميد العلوي “بهجت حسون” إلى جرمانا، كما عادت عائلات رجال الأمن العلويين إلى الساحل. ولكن بعضهم قرّر البقاء: “المهم أن نُري هؤلاء الكلاب أن النباح على أسيادهم أمر لا يمرّ بسهولة. والله لنفرجيهم ولله”. وتتوالى التهم من هنا وهناك: “جيش معظمه فاسد، أمن فاسد، وبلد يتناهبها اللصوص”؛ “أعداء سوريا هم إسرائيل وأمريكا وتركيا وقطر والسعودية… لذلك هم يدعمون التّطرف الديني… لِم لَم ينتظروا على الرئيس قليلاً لينفّذ إصلاحاته؟ لِمَ!”. وتكثر شعارات الثائرين والممانعين: “الشعب السوري واحد”، “سوريا بدها حريّة”، “سورية حرّة حرّة والبعث يطلع برا”. وتردّ اللجان الشعبية بشعار “العلوية عالتابوت والمسيحية عبيروت”، وتذكّر بفتاوى “ابن تيمية” و”الغزالي” التي تعلن “تكفير العلويين وإحلال دمائهم ونسائهم وأموالهم وأولادهم”. وتنقطع الدروب بين الحارات كما انقطعت العلاقة بين أصدقاء العمر، لأسباب طائفية: “السنّة يكرهون العلويين، وهؤلاء يكرهون السّنة”. ويكرر بعض أنصار النظام: “فقط لو انتظر الشعب على الرئيس قليلاً لقام بالإصلاحات… كان سيطهّر البلاد من العناصر الفاسدين في الأمن والجيش”. وتحتدم المظاهرات وتتلون ساحاتها بالضحايا والمصابين: “هؤلاء لا يفهمون إلا بالقتل. لا ينفع الكلام معهم”.

وقرّبت الثورة القلوب من القلوب، وتصدياً للتطييف صار الحب وربما الزواج بين أبناء وبنات الطوائف المختلفة وارداً: “لو كنت أؤمن بالغيبيات لآمنت بأن قوة قدرية غيّرت ما في القلوب”.

ويخيم شبح الموت على شتى فئات الشعب السوري: “اتصل بي شاب غريب وقال لي افرحي يا خالتي افرحي… ابنك استشهد فداء للوطن… بس والله يا أمي ما فرحت، ما فرحت، قلبي انشلع، تنتّف، وحسيت روحي رح تطلع. يا ويلي، مهند الحنون الطيب يموت! يا قهرة قلبي يا بني”، هكذا تقول أم أحد القتلى العلويين. وفي مجلس عزاء في الساحل، يرفع أحد الشبان المفجوعين صوته: “حدا يقول لي ليش شبابنا يموتون كل يوم، ومن أجل من؟ سيصيرون ثلاثين ألف شاب علوي”. ولما أخرجه المعزّون علّقت أم ريما بصوت عالٍ: “الله ينتقم من اللي كانوا السبب”. وتضيف ابنتها: “لكن هو معه حق أمي…”. فانبرت إحدى المعزيات تقول لها: “انبسطتِ! مات خيك. ومن قتله؟ الإرهابيون الذين تدعميهم يا خائنة”.

وتنقلنا الرواية من “القصير” [حيث ازداد عدد الشباب الذين لا يملكون سمعة جيدة، بعد أن هرب معظم أهاليها بسبب القصف]، إلى اللجاه في جنوب البلاد، و”بصر الحرير” تحديداً. ويقول أحد شبانها “المظاهرات هي المكان الوحيد الذي أشعر فيه بإنسانيتي، لذلك لن أعود إلى البيت حتى لو كانت نهايتي استشهادي. وعلى فكرة الكثير الكثير من الشباب مثلي”. وتدريجياً تتحول الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة: “لن تستطيع يا صديقي رد الشبيحة والأمن إلا بهذه الطريقة”. وتحدثنا الرواية عن الرجل البخّاخ الذي ما هو إلاّ ميغان نادل مقهى جرمانا الذي تحوّل من إنسان لا مسيّس إلى مؤيد للثورة، وراح في الليل يبخّ الشعارات: “يا حماة مصياف معاكي للموت”، “عاشت سوريا حرة”، “طال الزمن أم قصر، الشعب سوف ينتصر”… وتعرّج الرواية على وضع الفنانين المؤيدين للثورة، ومنهم “لينا شماميان” الملاحَقة التي لجأت إلى غرفة في نهاية “حي الأمين”؛ ومنهم أيضاً الخطاط منير الشعراني الذي خطط قلمه “الحر للحر يَصحبُ”؛ والفنان يوسف عبدلكي الذي بلوحته “رأس السمكة” اختزل المسيرة المأساوية لثورة لا بد من أن تنتصر. وراح الدم يسفك في كل مكان: “حينما تحل لغة الدم تغيب لغة العقل”.

وتنتقلنا إلى حماه التي استيقظت ذاكرتها بعد عقود، وإلى صوت إبراهيم القاشوش الذي يصدح بهتافات تدعو إلى رحيل النظام. وتستشهد الكاتبة بمحمود درويش القائل: “خذوا ما شئتم من دمنا وارحلوا… أيها المارون بين الكلمات العابرة، اجمعوا أسماءكم وانصرفوا… حاصر حصارك لا مفرّ”. وشوهد على جدار مجاور للمقبرة العبارة التالية: “حماه ضحت في 1982 بـ50 ألف شهيد، وسوف تضحي في 2011 بنصف مليون شهيد”.

وتصوّر لنا الرواية سطو عناصر النظام على بيوت الأغنياء في الغوطة وحمص، فيؤول أثاثها إلى ما سمّي بـ”التعفيش” أو بـ”سوق السنّة”. وتصف لنا سلوك رجل الأمن: لا يدفع مقابل ما يأخذه، “ففي النهاية هو يحمي البلاد وناسها”، يشرب العصير مجاناً، يتناول المثلجات كما يحلو له، يستقل سيارات الأجرة مجاناً، لا يدفع في الكافتيريا أو المطعم ويطلب ما يشاء، ويعاشر المومسات مجاناً. وتتكلم الرواية عن “الوجه النوراني” لصورة الرئيس؛ وهذا يذكر بظاهرة التأليه التي انتشرت في أوساط الأجهزة والعلويين البسطاء من أن الرئيس مرسل من السماء.

وكردة فعل على تعميد البلاد باسم الرئيس، وكذلك المؤسسات والمشاريع الكبرى، يقول “عصام”: “بعد أن تنتصر الثورة سنعيد تسمية كل الأماكن في بلدنا. مكتبة الأسد ستغدو المكتبة الوطنية. وجسر الرئيس سيغدو جسر دمشق… كل الساحات والشوارع المسماة باسمه ستتغير، ستصبح بأسماء الشهداء، مثلاً ساحة حمزة الخطيب، شارع غياث مطر، صرح القاشوش الوطني”. وتظهر منظمات جديدة كـ: “الائتلاف الإسلامي المسيحي العلماني”.

وتصف لنا الكاتبة الأضرار الفادحة التي أصابت البيئة: “بين جرمانا والمليحة لم تبق شجرة واحدة توحّد ربها”؛ وهذا ما حصل لاحقاً مع سهل الزبداني الذي قطعت أشجاره ونُقلت جذوعها للبيع. “بساتين صحنايا صارت بنايات. بساتين الزيتون سلامتك”. ولا تغفل الرواية عن التطرق لبعض تفاصيل البنية التحتية للثورة: نقل المؤن والسلاح، وتنقّل عناصر الجيش المنشقين والملتحقين بالثورة، التصنيع البدائي لبعض الأسلحة والقنابل والقذائف.

وفي أوساط المعارضة، تقول الرواية، ثمة عدد لا يستهان به ممن أصروا على أن الثورة يجب أن تبقى سلمية وغير مسلحة. فهذا “عمران أبو العزم” طلب من أحد الخطاطين أن يكتب له عبارة المسيح: “أحبوا أعداءكم، واطلبوا الرحمة لمن يلعنوكم، وادعوا الله لمن يسيئون معاملتكم” ثم علقها في “مقهى جرمانا”، عندما كان يديره. وفي جلسة نقاش يردّ عليه أحدهم: “إنْ أتى من يغتصب لك زوجتك أستاذ ويحرق بيتك ويطلق الرصاص على ابنك فهل تظل حاملاً لغصن الزيتون؟”. ويعلّق أحد الشبان على انكفاء المثقفين عن الثورة: “هل تريدون كروت دعوة للثورة أستاذ؟” فيعلّق “خليل أبو العزم”: “لا صوت للعقل في خضم هذا الجنون”.

وتتوقف الروائية عند بعض المجازر، من خلال أحد غاسلي الموتى الذي غسل 90 جثة سقطت في “الحولة”، وبكى لمقتل الأطفال الذين حضرهم للدفن. ويعلّق أحدهم قائلاً: “لا أعرف كيف لهذه الناس أن تنسى، ما ممكن تنسى أبداً!! أفكر كيف سنرجع لنعيش سوية، جنباً إلى جنب مع الذين قتلوا أولادنا؟ صعبة كتير. كيف العالم سيرجع مثل العالم؟ صعبة كتير كتير”. وتتعاقب أخبار الموت والخطف والاعتقال والتعذيب: “الموت يحاصر كل السوريين كما يحاصر سوريا!”. وتنقلنا الرواية أيضاً إلى مجزرة “التريمسة” قرب حماه، ونشاط الصحفيين الذين ضورّوا ونقلوا كل شيء. وراحت تنزل في عدد من المناطق لافتات إسلامية “قائدنا للأبد سيدنا محمد”، رداً على “إلى الأبد” التي ما برح النظام يسدّ بها أفواه السوريين.

وتصف لنا الروائية سيماء “التشبيح” في اللاذقية: “رأس حليقة، لحية طويلة غير مشذّبة، كرش كبير، وبنطال عسكري مموّه”. هذه صورة “أبو ريبال” اللاذقاني؛ وتعلّق: “لا أفهم اليوم ما السبب الكامن وراء كل تلك الغطرسة والعنجهية وعدم الاكتراث التي تنثال منهم [الشبيحة]… كانت اللاذقية ملكاً مستباحاً لهم يفعلون فيها ما يشاؤون. فهم القانون والدولة وهي ملك أيمانهم”.

وتدور نقاشات حامية بين مقاتلي الجيش الحر “حول مَن تعرّضت منطقتُه للظلم أكثر من غيرها زمن حكم الأسد الأب ثم الابن”. وقال أحدهم: “النظام يعطي ميزاته للعلويين وجماعته”، فيردف آخر: “النظام يعطي ميزاته لمن والاه يا صاحبي. هناك قرى للعلويين أفقر من الفقر”. ويعلّق آخر: “والله ما كنا نعرف سنّي من علوي قبل هالأيام… عايشين سوا… لكن النظام غذّى الطائفية”. “هذه الطائفية لن تضرّ بالنظام بل ستضرّنا نحن. ستخرب بلادنا”. “عند العلويين ناس ضد الحرب، وعندنا ناس ضدنا، في كل مكان هناك علويون ضد النظام كما هناك سنّة مع النظام… حربنا مع النظام سياسية وليست طائفية. الطائفية لن تجر علينا إلا ويلات وويلات”.

وفي الفصل الثامن والعشرين، تروي لنا الكاتبة قصف النظام لمخيّم اليرموك ومعاناة الأطباء في “مستشفى فلسطين” الذي قَبِلَ باستقبال الجرحى، في حين أن “مستشفى حلاوة” رفض استقبالهم. ثم ننتقل إلى قصف “الحراك”، وقصة “سليم أبو رزنة” الذي دمّر بيته، فراح يقنص جندياً كل ليلة، إلى أن استشهد. وتصور لنا الكاتبة مشاهد الرعب لدى المفجوعين، وفرار الناس باتجاه الحدود الأردنية: “شعب من اللاجئين نحن، قال أحدهم، كأننا نحمل ذاكرتنا ونمضي بها، أو كأننا نمضي كي نحمي ذاكرتنا!”.

ولا تتردد الكاتبة في فضح التجاوزات التي حصلت في أوساط الزعران الذين اندسوا في الثورة وراحوا يخطفون الناس رغبة في الفدية، التي تصل أحياناً إلى الملايين: “يمتطون الثورة ليقوموا بسرقاتهم، يعتقدون بأنهم هكذا يتغيّرون إلى ثوار بدل أن يكونوا مجرمين”. وفي الفصل الثلاثين والواحد والثلاثين، تنقلنا الكاتبة إلى أجواء المداهمات وسجون النظام: ثلاثون ألف معتقل في سجن واحد تابع للمخابرات الجوية. و”مقرات طلائع البعث تحولت إلى مراكز اعتقال، المستشفيات كذلك، والمدارس وكل مكان لا يخطر ببالك حوّلوه إلى مركز للاعتقال، الجميع يُعتقل، حتى الأطفال… رأيت الكثير من الأطفال في الزنازين تحت”. “في الزنزانة كان ثمة أكثر من مئتي شخص يتراكمون فوق بعضهم بعضاً… منهم من لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، ومنهم شيوخ تجاوزوا السبعين”. ويتعرف الدكتور خالد السباعي في المعتقل على الشاب البخّاخ “ميغان حاجو” الذي كلمتنا الراوية عنه في الفصول الأولى والذي قتل لاحقاً في السجن.

وتنقلنا الكاتبة إلى أجواء الفصائل الإسلامية: تأسيس الهيئة الشرعية، الاعتماد على الشريعة، الحجر على النساء، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا تنسى أن تحدثنا عن تنظيم الأكراد أنفسهم لإقامة دولتهم وتحقيق الحلم القومي الكردي.

وفي نهاية الرواية، نعود إلى جرمانا وأحوالها الجديدة: “مسلحو جرمانا هم سلطتها وحاكموها اليوم”. “عمران أبو العزم” أصيب بذبحة قلبية فنصحه الأطباء أن يبتعد عن توتر دمشق وقلقها وألا يستمع إلى نشرات الأخبار أو يقرأ الصحف. فعلق قائلاً: “إذا لم أستمع إلى نشرات الأخبار ألن أسمع أصوات القذائف والصواريخ طوال الوقت؟ ألن أسمع أصوات العزاء كل يوم؟ ألن أسمع لعلعة الرصاص والانفجارات؟” “صار منظر الشبيحة في جرمانا يثير غضبي بشكل لا يوصف. كل شيء يثير غضبي، الناس، الشوارع، ما يحدث، المأكولات، ما وصلنا إليه… كل شيء”.

وتحدثنا الرواية عن النزوح الجماعي من الغوطة إلى جرمانا، يقول أحد النازحين: “إنه نزوحنا الثالث… لا تقلق، اعتدنا على الشرشحة والشنشطة من مكان إلى آخر، نزحنا من الحجر الأسود إلى يلدا، ومن يلدا إلى المليحة، ومن المليحة إلى هنا”. هذا من جهة، ومن جهة تحدّثنا الرواية عن اللافتات التي يعلقها الشبيحة على الشرفات: “الشعب السوري بوحدته الوطنية وحب قائده عصيّ على المؤامرات”. وراح الناشطون يشعرون بأنهم كفئران محشورة في زاوية وعليهم أن يغادروا؛ فتعلق إحداهن: “لمن نترك دمشق؟ الجميع يغادرها! لمن نتركها؟ للنظام؟ للعفن؟ للتطرف؟ للأغراب الذين يأتون يومياً إليها للجهاد؟”.

وتنتهي الرواية بنص جميل عن السحر والسوريين الممسوسين. وبما أنها رواية تجمع شظايا الذاكرة، تقول الكاتبة: “الذاكرة تغصّ بمئات آلاف الراحلين، آلاف النعوات في كل المدن، آلاف ماتوا أيضاً بدون نعوات، فلا يوجد من يطبع لهم النعوات ويوزعها. ذاكرة معتمة منهكة، والانتظار ثقيل يخيم على الجميع”. ذاكرة حية ونشطة تستنكر ذلك الوطن المشروخ والمتعب والمتروك للحزن وللموت. ولكنها ذاكرة تترك بصيص أمل، ولو طال الانتظار.

*  *  *

أرادت روزا ياسين حسن من خلال الشخصيات الكثيرة التي تملأ فصول الرواية أن تقول لنا: إن سوريا بشتى مكوناتها الاجتماعية والدينية والعرقية هي التي تروي، وإنها من خلال كثرة الأماكن التي تظهر على خريطة سوريا – هي التي تروي تغريبة لثورة ستخلق سوريا الجديدة، مهما طال الزمن. إنها بواقعيتها تؤرّخ لمأساة سوريا التي سيكشف قادم الأيام تفاصيلها.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى