صفحات سوريةميشيل كيلو

روسيا الغارقة في شبر ماء!


ميشيل كيلو

بدأ قسم متزايد من السوريين يكنون العداء لروسيا، لأن سياساتها خاطئة وغير مفهومة ولا مبرر لها. يعتقد غالبية السوريين أن:

– أميركا لا تريد إخراج روسيا من سوريا، ولا تسعى إلى تقاسم النفوذ فيها معها، ويدللون على صحة ما يعتقدون بالسياسات الأميركية، التي تظهر قدرا جد قليل من الاهتمام الحقيقي بسوريا، ولا تقوم بأي إجراء فاعل ضد نظامها، وتكتفي بتصريحات كلامية متناقضة حول أزمتها، مع أنها كان بوسعها فعل الكثير ضده، لو كانت تريد وضع يدها عليها وإخراج روسيا منها. ويؤمن السوريون بأن روسيا لا تستطيع مواجهة أميركا في سوريا، لو كانت أميركا تريد دخولها مثلما فعلت في العراق، الذي كانت علاقاته مع روسيا من نمط علاقات النظام السوري وأكثر، أو في البلقان، السلافي والأرثوذكسي مثل الروس، والذي حرره هؤلاء خلال الحرب العالمية الثانية، لكن أميركا أخرجتهم منه وجعلتهم يتفرجون من دون أن يفعلوا أي شيء على تفتيت دولة حليفة لهم هي يوغوسلافيا. بما أن أميركا لا تريد إخراج روسيا من سوريا، فإن السوريين لا يفهمون لماذا تصرفت موسكو إلى اليوم وكأن هناك خطرا جديا عليها في عقر دارها، أو كأن دورها الدولي يتوقف على بقائها في بلادنا.

– ولا يريد السوريون إخراج روسيا من بلادهم، الآن وفي المستقبل أيضا. إنهم لا يرون بين أهدافهم تسليم سوريا لأي دولة أجنبية، أو وضعها تحت إبط أي قوة عظمى، لذلك يفكرون في إقامة مصالح متوازنة وعلاقات ودية مع الجميع، ليحفظوا استقلالهم ويصونوا وطنهم، وروسيا لها دور في هذا السياق، خاصة أن السوريين أقاموا معها أحسن العلاقات منذ عام 1954، قبل مأساة الانقلاب البعثي بعشرة أعوام كاملة، وكانوا أول من اشترى أسلحة روسية في الشرق الأوسط، وأول من عقد اتفاقية تجارية معها كانت الأكبر في عصرها بين أي دولة عربية وأخرى أجنبية. والغريب أن الروس يبدون كمن يجهل أو يتجاهل هذه الحقائق، وأنهم يكتفون بمد خيط واه ورفيع يصل من الكرملين إلى القصر الجمهوري بدمشق، من دون أن يمر بأي قطاع من قطاعات الشعب السوري، الذي بدأت سياساته المعادية لهم والمؤيدة لنظامهم تجبرهم على كرهه وحب أميركا.

– أخيرا، صحيح ما يخشاه الروس من أن سوريا يمكن أن تذهب من حالها الراهن إلى مزيد من العنف والفوضى. لكن من يخاف أمرا يبحث عن أسبابه. ولا سبب للفوضى والعنف الحاليين في سوريا غير النظام وسياساته، التي قامت منذ اليوم الأول لثورة الحرية على تحويلها إلى اقتتال داخلي، طائفي وأهلي، وعلى بث أعظم قدر من الفوضى في مختلف أنحاء البلاد، لإخراج الشعب من الشارع وإرعابه، واستعادة الوضع الذي كان قائما قبل الثورة بعد قتل أكبر عدد من السوريات والسوريين.

لو لم يكن الوضع قبل الثورة في حال فوضى كامنة رعاها النظام وغذاها طيلة نيف وأربعين عاما، لما انقض على شعبه الأعزل واستخدم أحدث الأسلحة الفتاكة ضده في كل مكان من وطنه. ولو لم يخطط النظام للفوضى، لما وقعت في سوريا فوضى وحدث عنف. ترى، أي عنف كان الشعب الأعزل سيستخدم، وضد من، وهو الذي خرج أعزل ومسالما للمطالبة بحقوقه وبالإصلاح ولم يخرج مناديا بالموت والدمار لأي كان؟ ومن الذي استخدم عبارة الحرب، ورحب بالحرب في خطابه الأول أمام «مجلس الشعب»، المتظاهرون أم الرئيس شخصيا؟ ومن الذي حكى عن تحول نداء الحرية الشعبي إلى اقتتال طائفي، المتظاهرون أم مستشارة القصر الجمهوري للشؤون الإعلامية والسياسية الدكتورة بثينة شعبان؟ ومن الذي اعتبر حقوق الشعب مؤامرة يجب أن تقمع بالقوة والعنف، ورأى في الحراك الشعبي مجرد غطاء لها، المعارضة أم السلطة؟ ثم من يضمن للسادة في موسكو أن قمع الشعب في سوريا ممكن أولا وجالب للهدوء والأمن ثانيا؟ وما الدلائل التي تؤكد لهم أن المنطقة لن تشتعل بأسرها في حال واصل النظام قمع الشعب بالوتيرة الحالية؟

إن من يزرع الريح يحصد العواصف.. هذه حكمة يعرفها كما يبدو جميع خلق الله عدا ساسة روسيا، وإلا لما تجاهلوا أو جهلوا دور النظام في قلب حراك من أجل الحرية إلى حرب منظمة تشنها سلطته ضد شعب تعلم تماما أنه كان أعزل ومسالما عند بدء مظاهراته. أما النظام، الذي زرع الريح وحولها إلى عواصف، فلا يستبعد أبدا أن يكون هو الذي يتسبب في اقتلاع روسيا من سوريا، التي بدأ صبر شعبها على موسكو يتلاشى، بعد أن ألحقت سياساتها المعادية له أشد الأذى به، وحمت النظام الذي يقتله بالجملة والمفرق!

يغرق الروس أنفسهم في شبر ماء وهم «يعالجون» الأزمة السورية على الطريقة الشيشانية. إنهم كمن ينتحر هربا من الموت، مع أن الموت لن يأتيهم من أي جهة أخرى غير النظام. لماذا تفعل السياسة الروسية ذلك بنفسها؟ يقول عارفون روس إن موسكو تخشى الإسلاميين وفوضى السلاح.. ونقول ردا على أقوالهم: هل يعقل أن الكرملين لا يرى الرابطة بين تصاعد عنف النظام وصعود الإسلاميين، ولا يرى العلاقة بين عنف النظام، الذي يحدث أعظم قدر من الفوضى عرفته العقود الأخيرة في أي صراع، والسلاح الذي لم يجد المواطن العادي ما يدافع به عن نفسه وأهله غيره، وسينتهي دوره بمجرد أن يوقف النظام إجرامه المستشري، الممتد أكثر فأكثر إلى كل متر مربع من سوريا؟

يغرق الروس أنفسهم في شبر ماء. بقي أن يعلموا أننا نستخدم هذا التشبيه في سوريا لنقول إن من يفعل ذلك يكون، بقول مهذب، قليل خبرة، وبكلام صريح.. غبيا!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى