صفحات العالم

روسيا والأزمة السورية

 

                                            محمد عباس ناجي

أسباب متعددة

إيران.. صديق أم حليف؟

إصرار على الحل السياسي

نجحت روسيا في أن تتحول إلى رقم صعب في الأزمة السورية، أيا كان السيناريو الذي سوف تنتهي إليه، وهو ما يبدو جليا في الجهود الحثيثة التي يبذلها العديد من القوى الإقليمية والدولية، وكان آخرها الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلي موسكو، لإقناعها بضرورة تغيير موقفها الداعم لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وعجز هذه القوى عن التوصل إلى تسوية تنهي الأزمة بدون دور ما لموسكو.

ورغم أن الأخيرة أبدت مرونة “تكتيكية” في موقفها من الأزمة، بدعوتها إلى إجراء حوار بين النظام السوري والمعارضة، بعد أن كانت ترفض ذلك في البداية، وتلميحها إلى أن “مصير الرئيس السوري نفسه ليس أمرا مهما في الأزمة”، فإن ذلك لا يشير إلى حدوث تغيير كبير في السياسة الروسية، وهو ما اتضح مع تأكيد موسكو -على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف- أن “الجهود الدولية الرامية إلى إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالرحيل ستبوء بالفشل”، وحرصها -في الوقت ذاته- على نفي تصريحات نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف التي أشار فيها إلى احتمال انتصار المعارضة في الصراع المسلح مع النظام السوري.

أسباب متعددة

حرص موسكو على التمترس خلف موقفها الداعم للنظام السوري -رغم كل الضغوط التي تعرضت لها خصوصا في الفترة الأخيرة- يعود إلى اعتبارات عديدة: أولها، تجنب تكرار “السيناريو الليبي”، حيث تعتقد موسكو أنها “خُدعت” بعد موافقتها على صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973 في مارس/آذار 2011، والذي تم استخدامه -في رؤيتها- لإضفاء شرعية على التدخل العسكري لحلف الناتو في الأزمة الليبية التي انتهت بسقوط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وهو ما سبب خسائر اقتصادية ليست هينة بالنسبة لروسيا، حيث كانت ليبيا أحد أهم مستوردي الأسلحة الروسية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما عكسته الصفقة التي عقدتها مع روسيا في عام 2008، وأُلغيت من خلالها ديون الاتحاد السوفياتي السابق على ليبيا، مقابل منح عقود تصل قيمتها إلي 4.5 مليارات دولار لشركات روسية.

وقد دفع ذلك الرئيس بوتين –عندما كان رئيسا للوزراء- إلى توجيه انتقادات حادة للرئيس ديمتري مدفيدف- الذي كان رئيسا للجمهورية- بسبب قبوله القرار الدولي الذي شبهه بوتين بـ”الحملات الصليبية في القرون الوسطي”، منتقدا “النزعة الثابتة” للولايات المتحدة الأميركية التي تقرر بسهولة استخدام القوة على الساحة الدولية، وهو ما رد عليه مدفيدف بأن “هذه التعبيرات تبدو في جوهرها دعوة إلى صدام الحضارات”.

ورغم تأكيد بوتين أن قرارات السياسة الخارجية لا تدخل ضمن صلاحيات رئيس الوزراء، في محاولة لإلقاء مسؤولية الموافقة على القرار على عاتق مدفيدف، فإن الأمر لا يخلو بدوره من تساؤلات عديدة، أهمها كيف يمكن لرئيس وزراء يحظى بنفوذ واسع مثل بوتين لدرجة توافقه مع الرئيس على تبادل المناصب، أن يكون بعيدا عن مجال حيوي يمس المصالح العليا والأمن القومي للدولة مثل مجال السياسة الخارجية، حتى ولو كان الدستور ينص على ذلك.

وفي كل الأحوال، فإن تجنب “السيناريو الليبي” كان أحد الأسباب الرئيسية وراء إصرار روسيا على عدم تكرار الخطأ مرة أخرى في الأزمة السورية، وهو ما بدا جليا في استخدامها حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات لرفض مشروعات قرار تدين نظام الأسد، وكان يمكن -في رؤيتها- أن تهيئ المجال أمام تدخل عسكري دولي لإسقاط النظام السوري على غرار ما حدث في ليبيا.

وثانيها، منع خسارة حليف إقليمي آخر في منطقة الشرق الأوسط، بكل ما يعنيه ذلك من توجيه ضربة قوية للجهود التي بذلتها روسيا -على مدار العقد الأخير- لضمان موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما أن سوريا تمثل “جسر التواصل” الذي يربط روسيا بالبحر المتوسط، فضلا عن أنها توفر لروسيا قاعدة “طرطوس” البحرية، وهي القاعدة الوحيدة لروسيا خارج أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، إلى جانب أنها مستورد رئيسي للسلاح الروسي، حيث جاءت في المرتبة الثانية في قائمة الدول الشرق أوسطية -بعد الجزائر- من حيث صفقات السلاح مع روسيا خلال عام 2011.

وحسب بعض التقديرات، فإن سقوط النظام السوري سوف ينقل سوريا من المرتبة الثانية إلى الخامسة في قائمة المستوردين الرئيسيين للأسلحة الروسية، لا سيما أن ذلك سيعزز احتمالات عدم تنفيذ العقود المبرمة بين الطرفين، لأن القوى البديلة التي يمكن أن تصل إلى السلطة محل النظام الحالي، تبدي امتعاضا واضحا من الدعم الروسي المستمر لهذا النظام.

وثالثها، أن سقوط النظام السوري سوف يحول سوريا -على الأرجح- إلي بؤرة جديدة لتنظيم القاعدة والعديد من القوى المتشددة الأخرى، وهو ما يثير قلقا واضحا لدى موسكو التي سعت إلى استصدار بيان إدانة للهجوم الذي وقع بالعاصمة دمشق في 22 فبراير/الماضي، وأسفر عن مقتل 53 شخصا وإلحاق أضرار بمبان تابعة للسفارة الروسية، وأبدت استياء واضحا لتعمد الولايات المتحدة الأميركية عرقلة مشروع البيان، حيث قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن “واشنطن تتبني معايير مزدوجة”، كما اتهمت من أسمتهم “متطرفين” داخل المعارضة السورية بالرهان على الخيار العسكري، وعرقلة المبادرات التي طُرحت للحوار بين النظام والمعارضة.

إيران.. صديق أم حليف؟

أما رابعها -وربما يكون أهمها- فهو أن سقوط نظام الأسد معناه أنه لم يبق لروسيا “صديق” في منطقة الشرق الأوسط سوى إيران، بكل ما يعنيه ذلك من إمكانية التعرض لابتزاز إيراني، في حالة التباين في التعاطي مع بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك، لا سيما أنه رغم ما يبدو من تقارب في المواقف والسياسات إزاء العديد من هذه القضايا، فإن الخلافات بين الطرفين ليست ثانوية ولا يبدو احتواؤها مهمة سهلة.

وهذا ما يعني أن العلاقات بين الطرفين لا ترقى لمستوى “التحالف” الذي يلزم طرفيه بسقوف إستراتيجية محددة، بل هي علاقات “مصالح” يفرضها التوافق الحالي في مواجهة تهديدات مشتركة، مثل نشر أنظمة صواريخ “باتريوت” على الأراضي التركية، والضغوط القوية التي يواجهها النظام السوري في الوقت الحالي، والتي تعتقد موسكو وطهران أنهما أهداف مباشرة لها.

وقد بدت ملامح الخلافات بين الطرفين جلية في عزوف روسيا عن تنفيذ صفقة صواريخ “أس 300” للدفاع الجوي التي وقعتها مع إيران عام 2008، ليس فقط تجنبا لتصعيد حدة التوتر مع الغرب -وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية- وإنما أيضا لعدم تمكين إيران من الاستمرار في سياستها المتشددة إزاء أزمة ملفها النووي، لا سيما أن حصول إيران على هذه المنظومة الصاروخية معناه تعزيز قدرتها على التصدي لأية ضربة عسكرية محتملة لمنشآتها النووية، وبالتالي دفعها إلى عدم تقديم تنازلات يمكن أن تؤدي إلى تسوية الأزمة، وربما تحفيزها للسعي إلى امتلاك سلاح نووي، وهو “خط أحمر” لن تسمح به موسكو رغم علاقاتها القوية مع إيران.

وبعبارة أخرى، فإن روسيا تدعم امتلاك إيران لبرنامج نووي، خصوصا أنه يحقق لها مكاسب اقتصادية، لكن دون أن يتجاوز الاستخدامات السلمية، لأنها لن تتسامح في كل الأحوال مع وجود سلاح نووي على مقربة من حدودها الجنوبية. وربما يفسر ذلك تجاوب روسيا مع الضغوط الدولية المفروضة علي إيران لإبداء مرونة في الملف النووي، لا سيما ما يتعلق بعمليات تخصيب اليورانيوم حتى مستوى 20%، بل وموافقتها على فرض عقوبات دولية على إيران من داخل مجلس الأمن، وآخرها القرار رقم 1929 الصادر في يونيو/جزيران 2010.

إصرار على الحل السياسي

هذه الاعتبارات في مجملها دفعت روسيا إلى تبني فكرة “الحل السياسي”، كخيار ملائم لتسوية الأزمة السورية، من خلال الدعوة إلى إجراء حوار بين النظام السوري والمعارضة، وقد حاولت إقناع بعض قوى المعارضة بجدوى هذا الخيار، كما سارعت أيضا إلى تأييد مبادرة رئيس “الائتلاف الوطني السوري” معاذ الخطيب بإجراء حوار مع أطراف داخل النظام “من الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء” على خطوات لنقل سريع للسلطة.

لكن الأهم من ذلك هو أن روسيا -مثل النظام السوري- بدأت تستثمر الأزمات العديدة التي تشهدها المراحل الانتقالية في دول الربيع العربي -لاسيما ليبيا وتونس ومصر- من أجل التأكيد على أن تنحي الأسد أو اختفاءه من المشهد السياسي ليس هو الحل الأمثل لتسوية الأزمة، وأن “الباب السحري” لتجنب شبح السقوط في حرب أهلية سورية، هو إجراء حوار بين النظام والمعارضة، يتم من خلاله التوافق على تحديد مستقبل الدولة والنظام معا.

رفض روسيا لفكرة تنحي الأسد يطرح دلالتين مهمتين: أولاهما، أن روسيا ربما توفر الظهير الدولي الذي منع صدور قرارات إدانة من مجلس الأمن ضد النظام السوري، بشكل حال دون تعرضه للاختبار الصعب الذي واجهه النظام الليبي السابق، لكنها في الوقت نفسه ربما لا تستطيع إجبار الأسد على التنحي، في ظل إدراكها للطبيعة الخاصة التي يتسم بها النظام السوري، والتي ترتبط بتشابكات مذهبية وعرقية ومصالح معقدة، تعني في كل الأحوال أن تنحي الأسد ربما يكون كفيلا بسقوط النظام السوري بأكمله.

وثانيتهما، أن موسكو تعتقد أنه رغم الضغوط القوية التي يتعرض لها النظام السوري، ونجاح المعارضة المسلحة في انتزاع مكاسب عديدة منه، فإن ذلك لا ينفي أن القوام الأساسي لهذا النظام لم يتأثر بعد، في ظل بقاء الشريحة الأقوى في الجيش السوري والطبقة التجارية على دعمهما وولائهما القوي للنظام السوري، بما يفرض صعوبات عديدة أمام نجاح المعارضة -في ظل مستوى الدعم الذي تحظى به في الوقت الحالي- في إسقاط النظام، وهو ما يعني على الأرجح أن روسيا لن تقدم على إجراء تغيير رئيسي في موقفها الداعم للنظام السوري، إلا في حالة حدوث تحول مهم في معادلة الصراع القائمة الآن بين النظام والمعارضة.

وربما يفسر ذلك تصاعد الدعوات من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة، فضلا عن تيارات داخل الولايات المتحدة الأميركية، بل وداخل إدارة الرئيس باراك أوباما، بضرورة تسليح المعارضة السورية، ليس فقط لدعم قدرتها على مواجهة الآلة العسكرية الثقيلة للنظام التي تعتبر موسكو مصدرها الرئيسي، وبل أيضا لتمكينها من إلحاق خسائر كبرى بالنظام، بشكل يمكن أن يفرض ضغوطا قوية على القوى المؤيدة له -وفي مقدمتها روسيا- من أجل تغيير موقفها، في إطار معادلة جديدة ستتضح ملامحها خلال الفترة القادمة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى