صفحات العالم

روسيا وخيار إسقاط النظام السوري


محمد السعيد ادريس

يبدو أن الموقف الروسي المتصاعد الخاص بالأزمة السورية سيفرض على كل الأطراف مراجعة حساباتها، وبالتحديد بالنسبة لخيار إسقاط النظام في سوريا، وهذا الموقف لا ينسحب فقط على الموقف الروسي الرافض بشدة لأي تدخل دولي عسكري في سوريا عبر مجلس الأمن أو من خارجه، ولكن ينسحب أيضاً على الموقف من إمكانية إسقاط الأسد عبر تفاعلات داخلية، أبرزها بالطبع الدعم الإقليمي والدولي لحركة الانشقاق التي تحدث في صفوف الجيش السوري، وإحداث تحول نوعي في أداء المعارضة السورية، وتحويلها من معارضة سلمية مدنية إلى معارضة مسلّحة .

هناك دوافع كثيرة لهذا الموقف الروسي، بعضها داخلي خاص بطموحات رئيس الوزراء فلاديمير بوتين للعودة إلى منصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية خلال مارس/ آذار المقبل، وسط تصاعد حركة رفض شعبية قوية للحزب الحاكم وزعامته، لذلك فإن بوتين سيكون أكثر حرصاً من أي وقت مضى على تأكيد جدارته بزعامة روسيا قوية، وليس لزعامة روسيا ضعيفة خاضعة للهيمنة الأمريكية، ولذلك سيضع نصب عينيه حتمية اتخاذ مواقف قوية وصلبة للدفاع عن مصالح روسيا الحيوية، وعلى الأخص في الشرق الأوسط . لكن باقي الدوافع وأهمها له علاقة أولاً بالاستراتيجية الكونية الجديدة لروسيا التي لها علاقة بالتحليل الروسي لما يحدث من تغيرات بكل ما يحدث من إعادة توزيع لعناصر القوة بين القوى الدولية الكبرى ومكان روسيا ضمن هذه القوى، وبالذات ما يتعلق بالتراجع الأمريكي والأوروبي، والصعود الصيني والهندي، ما يحفز روسيا إلى الاندفاع نحو فرض نفسها كقوة دولية قادرة على المنافسة، وعلى الاندفاع أيضاً نحو تقوية تحالفها مع كل من الصين والهند في مواجهة القوى الغربية الأمريكية والأوروبية، وما له علاقة ثانياً بتطورات تتصاعد وتتدافع في إقليم الشرق الأوسط على هدي من تطورات التفاعلات والاضطرابات السياسية والأمنية في عدد غير قليل من دول المنطقة بفعل ربيع الثورات العربية .

فروسيا تدرك أنها أضحت معنية أكثر من غيرها من القوى الدولية بدفع أبهظ أثمان تلك التطورات، حيث إن أبرز ما يحدث الآن من تفاعلات ضمن هذه التطورات باستثناء ما حدث في كل من تونس ومصر يخص دولاً حليفة أو على الأقل صديقة لروسيا، وعلى الأخص ليبيا وسوريا وإيران، وهنا يكمن الخطر . فروسيا استوعبت درس سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا والخسائر الروسية التي ترتبت على سقوط هذا النظام، كما أنها استوعبت أن القرار الدولي الذي صدر عن مجلس الأمن ومكّن حلف شمال الأطلسي (الناتو) من التدخل العسكري في ليبيا ضد نظام القذافي تحت غطاء المظلة الجوية، ما كان له أن يصدر لولا التراخي الروسي في رفض هذا القرار، ولذلك فإن روسيا لم تعد مستعدة لقبول قرارات جديدة من مجلس الأمن ضد كل من سوريا وإيران .

أكثر من ذلك، أن روسيا تدرك مدى الترابط بين سوريا وإيران، وكيف أن إسقاط أي من النظامين سيؤدي بالضرورة إلى سقوط الآخر، أو على الأقل هزيمته بكل ما سوف ترتبه مثل هذه الهزيمة من تراجعات في السياسات وفي التحالفات التي ستدفع روسيا أثمانها . فسقوط النظام في سوريا سيؤثر سلبياً في كل من “حزب الله” في لبنان، وحركة “حماس” في قطاع غزة، ما يهيئ لدولة مثل “إسرائيل” فرص الانقضاض عليهما، ومن ثم امتلاك القدرة على شنّ حرب ضد إيران، من دون خوف من الدعم السوري واللبناني والفلسطيني، ما قد يجعل خسائر “إسرائيل” في الحدود المقبولة، خصوصاً إذا كانت الولايات المتحدة طرفاً في مثل هذه الحرب .

ما يحدث الآن من تسخين أوروبي وأمريكي وإقليمي ضد إيران تعتبره روسيا إنذاراً بالخطر لحليفها الإيراني، وهذا يدفعها للتصلب في الدفاع عن النظام السوري أولاً مترافقاً مع الدفاع عن النظام في إيران، اعتقاداً بأن الخطر يتركز الآن على سوريا، وأن سقوط النظام في سوريا سيهيئ الغرب و”إسرائيل” لشن الحرب على إيران، حسب ما سبق أن قرأته صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية في سبتمبر/ أيلول الماضي، من أن سقوط النظام السوري سيكون ضربة قاضية ل”الهلال الشيعي” الذي يسبب رعباً كبيراً في الدول السنية، على حد وصف الصحيفة . ولعل هذا ما حفّز ديميتري روغيزين سفير روسيا المنتهية ولايته لدى حلف شمال الأطلسي ليعلن أن “أي تدخل عسكري مرتبط بالبرنامج النووي الإيراني يعتبر تهديداً لأمن روسيا الوطني”، وقوله ما معناه أن “إيران جارة لنا ولا يمكن أن نقبل بأي عدوان عليها” .

هذا الموقف الروسي من أي عدوان على إيران ينسحب على الموقف الروسي من أي عدوان على سوريا، حيث تركز روسيا على عرقلة أي مشروع غربي يطالب أو يسمح بالتدخل الدولي ضد سوريا .

فقد اعتبر غيناوي غاتيلوف نائب وزير الخارجية الروسي أن الرؤية الغربية تتعارض مع رؤية بلاده بالنسبة لسوريا، معتبراً أن التعديلات التي عرضوها على مضمون المشروع الذي أعدته روسيا في مجلس الأمن بالنسبة للأزمة السورية تهدف إلى تغيير نظام الأسد، وأن موقف بلاده يختلف تماماً عن الموقف الغربي من الملف السوري . وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعلن موقفاً مشابهاً بالنسبة لمشروعات القرارات الغربية التي يجري إعدادها ضد إيران، حيث اعتبر أن العقوبات ضد النظام الإيراني قد استنفدت بالكامل، كما اعتبر أن “ما يجري في إيران أشبه بالمحاولة للإطاحة بالنظام”، وأكد أن “التهديد بمزيد من العقوبات ضد إيران، بعد أن فعل مجلس الأمن الدولي كل ما يمكن اعتباره ضغطاً عقابياً بخصوص البرنامج النووي الإيراني، ناهيك عن التهديد بضربات جوية، معناه إبعاد إمكانية الوصول إلى حل تفاوضي” هذه التصريحات الروسية لم تأت عفوية، بل جاءت مصحوبة بتحركات فعلية، وبالذات بالنسبة لسوريا، ففي الوقت الذي قامت فيه حاملة الطائرات الروسية “الأميرال كوزينتسوف” ومجموعتها المقاتلة بزيارة مرفأ طرطوس، وقيام وزير الدفاع السوري العماد داوود راجحة بزيارتها، وتأكيد السفير الروسي في دمشق أن “زيارة حاملة الطائرات الروسية إلى سوريا دليل على عمق الصداقة والتعاون بين البلدين”، وتأكيده أيضاً على “الرغبة المشتركة في تطوير التعاون المثمر بينهما في المجالات كافة”، في هذا الوقت بالتحديد وصلت إلى سوريا سفينة روسية محمّلة بأسلحة وصفت بأنها “على درجة كبيرة من الخطورة”، ما دفع الإدارة الأمريكية للإعراب عن قلقها، وطالبت موسكو بالحصول على إيضاحات حول حمولة هذه السفينة، وهناك معلومات أخرى تقول إن روسيا زودت سوريا بصواريخ “إس 300” أرض-جو المضادة للطائرات، تحسباً لأي تدخل لحلف الناتو في سوريا .

الواضح أن روسيا استوعبت مؤخراً درس سقوط الحليف العراقي، ومن بعده الحليف الليبي، وأنها باتت واعية بأن سقوط المزيد من الحلفاء سيكون بمثابة سقوط جديد لروسيا، وهذا أمر يتعارض كلية مع ما تسعى “روسيا الجديدة” إلى إعادة تأسيسه من دور صاعد في إدارة النظام العالمي . والمعنى المباشر لهذا كله أن أمر النظامين السوري والإيراني أضحى مرتبطاً بالصراع الأوسع بين القوى الدولية والإقليمية .

ومن هنا فإن خيار إسقاط النظام السوري الذي تريده أمريكا وأوروبا وتنتظره “إسرائيل” وأطراف إقليمية أخرى أو تشارك في ترتيباته، أضحى متعذراً وربما مستحيلاً، ما يفرض على المعارضة السورية ضرورة إعادة مراجعة الخيارات والحسابات، مع الأخذ في الاعتبار ما سوف يصدر عن الاجتماع المقبل لوزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم 22 يناير/ كانون الثاني الجاري، حيث سيتم البحث بشأن وضع بعثة المراقبين العرب، ودعوة أمير قطر وآخرين لإرسال قوات عربية إلى سوريا “لوقف القتل” هناك، وهو الاجتماع الذي سيراجع مدى وفاء سوريا بالتزاماتها وتعهداتها الخاصة بقبول المبادرة العربية على ضوء تقرير رئيس بعثة المراقبين العرب، وأيضاً على ضوء قرار العفو العام عن “الجرائم المرتكبة” الذي أصدره الرئيس السوري يوم الأحد 15 يناير الجاري .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى