أكرم البنيصفحات مميزة

رياح التغيير والخصوصية السورية!


أكرم البني

عشر نقاط يمكن أن تكثف خصوصية الانتفاضة السورية وأهم ما يميزها بالمقارنة مع الثورات والانتفاضات العربية الأخرى:

أولا: إن إنكار أسباب الأزمة والرفض المزمن للمعالجات السياسية وإصرار أهل الحكم على خيار القوة العارية لسحق الانتفاضة أو على الأقل لكسر شوكتها، طبع الحالة السورية بطابع لم تقاربه الحالات المحايثة. وتحديدا لجهة التكلفة الباهظة في أعداد الضحايا والجرحى والمعتقلين، لقاء تكرار مشهد بسيط يجمع بين مظاهرات شعبية تختلف في أحجامها وأشكالها، يخرج بعضها يوميا وغالبيتها أيام الجمع، للتعبير عن مواقف الناس وشعاراتها، تواجهها قوات عسكرية وأمنية تنتشر في معظم مناطق البلاد، لا تتوانى عن استخدام العنف المفرط ضد المحتجين، فتكبدهم الخسائر تلو الخسائر، ليعاودوا – وبعزيمة لا تلين – التظاهر من جديد.

ثانيا: ثمة استخدام للتنكيل الشديد والعنف المعمم وبلا حساب، ليس فقط لقمع المتظاهرين، وإنما الأهم لمنعهم من تصعيد أشكال احتجاجاتهم مثل الدعوة للإضراب العام أو للتجمع والاعتصام الدائم في ساحة عامة، كما كان حال ساحة التحرير في مصر أو ساحة التغيير في اليمن، إلى جانب تركيز جهود نوعية ضد الأماكن الأكثر نشاطا وزخما، أو التي شهدت أوسع المظاهرات، فشهدنا حالات حصار واجتياح تعرضت له مدن درعا وحمص ودير الزور وحماه وغيرها، ورهان على أن يحطم العنف الهائل روحها ويئد احتجاجاتها ويحولها إلى عبرة لمن يعتبر.

ثالثا: لم تكن قضية الفقر والعوز والبحث عن فرص العمل هي ما حرك الشارع السوري بل المزاوجة بين شعاري الكرامة والحرية، ما يظهر نوعية معاناة السوريين وما يكابدونه، فهم لم يحرموا فقط من حقوقهم الإنسانية البسيطة، بل مورست بحقهم أنواع القهر والإذلال، وكلنا يتذكر أن «الشعب السوري ما بينذل» كان أول شعار أطلقه المتظاهرون، وأن عبارات التحقير والاستهتار هي التي زادت حدة الاحتقان وحفزت الاحتجاجات الأولى لأهالي درعا.

رابعا: إلى جانب سياسة التعتيم ومنع وسائل الإعلام العربية والأجنبية من دخول البلاد ومتابعة الأحداث عن كثب، زج النظام بكل أدواته الإعلامية في معركة مفتوحة للدفاع عن سياساته وتغطية ممارسات القمع وامتصاص ردود الفعل، فشهدنا تلاعبا فظا وغير مسبوق بالوقائع وتحميل الآخرين كامل الآثام وتبرئة الذات، والأنكى توجيه اتهامات وشتائم مخجلة لكل من يحاول عرض الحقائق، أقلها اعتبار ما يقوم به تشهيرا وعداء يرتبط بأجندة معادية لمصالح الوطن والمجتمع.

خامسا: رغم شدة القهر والتنكيل حافظت الانتفاضة بصورة مثيرة للإعجاب على سلميتها، وإذا استثنينا بعض ردود الفعل العنيفة والمحدودة، فقد رفض الحراك الشعبي بوجه عام الرد على العنف بعنف مضاد، وحتى أدان كل من يلجأ إلى السلاح. ما أفشل رهان أصحاب الخيار الأمني على دور العنف المفرط والاضطهاد المعمم في إثارة ردود فعل موازية، وفي استنفار الغرائز المتخلفة واستفزاز بعض المتطرفين ممن يتحينون الفرصة لحمل السلاح، واستخدامهم ذريعة لتبرير العنف والطعن بأخلاق الانتفاضة السلمية.

سادسا: الجهود الخاصة التي بذلت للتأكيد على وطنية الاحتجاجات وأنها عابرة للقوميات والأديان والطوائف والمذاهب، فإلى جانب شعاراتها ضد الطائفية ولإبراز وحدة هموم البشر وإيمانهم المشترك بالحق في الكرامة والحرية ورفضهم للتفرقة والتمييز، رأينا شعارات باللغتين العربية والكردية تنادي بالديمقراطية والمساواة في غير حشد ومظاهرة، ما أفشل الجهود الحثيثة التي بذلت لتأجيج الفتنة والصراعات المتخلفة ولإثارة الحساسيات القومية وتاليا لتشويه الاحتجاجات الشعبية وحرفها عن جوهرها السياسي.

سابعا: اجترحت الانتفاضة السورية حضورها من رحم منظومة سياسية بالغة التعقيد تحكمها الشعارات الوطنية ومواجهة المخططات الصهيونية وتحرير الأرض المحتلة، ونجحت بصدقيتها وحساسيتها الوطنية في الرد على محاولات الطعن وعلى الدعايات التي تصور ما يجري على أنه أفعال متآمرين ومندسين يرتبطون بأجندة خارجية، إمبريالية وصهيونية، غرضها النيل من الموقف السوري الممانع.

عادة ما تنجح النخبة الحاكمة في توظيف شعاراتها عن المقاومة والتحرير لسحق دعاة الحرية والديمقراطية، لكنها اليوم أخفقت وكشف عنفها المفرط حقيقة أن تمظهرها بالمظهر الوطني الحريص، هو سلاح لضبط الأوضاع الداخلية وليس للمواجهة في الخنادق وساحات القتال، أو أشبه بحصان تمتطيه لتصل إلى مآربها في حماية ما جنته من مكاسب ومغانم وتعزيز أسباب سلطانها.

ثامنا: نهضت الانتفاضة السورية وترعرعت لأشهر طويلة كأنها تواجه مصيرها وحيدة، فعلى الرغم من حالة الجفاء بين النظام السوري وبين معظم الدول العربية والأجنبية ومؤسسات الشرعية الدولية، لم يرق رد الفعل العربي والعالمي إلى مصاف شدة الأزمة وعمقها، فالأول بقي صامتا ومترددا، والثاني عانى من تشتت وحسابات سياسية أعاقت إعلان موقف أممي يدين أخلاقيا هذا التوغل في القمع والتنكيل، الأمر الذي منح أصحاب الخيار الأمني هامشا واسعا للحركة، وترك الباب، مشرعا لمزيد من العنف، إن لجهة حجم القوة المستخدمة أو لجهة الزمن والفرص المتاحة.

تاسعا: لا تزال المعارضة السورية ضعيفة وعاجزة عن اللحاق بالاحتجاجات الشعبية وقد أنهكتها سنوات طويلة من القمع والسجون والإقصاء، وأورثتها حزمة من الأمراض حدت من دورها وأضعفت فاعليتها. ولا يغير من هذه الحقيقة ازدحام المشهد المعارض بهذا العدد من المبادرات والمشاريع السياسية والمؤتمرات إن داخل البلاد أو خارجها، لكن ربما يفتح باب الأمل لظهور وحدة سياسية معارضة تلقى أوسع قبول بين الناس وقادرة على توحيد جهود الجميع وأدوارهم في فعل متكامل مع الحراك الشعبي، والأهم قادرة على مسك زمام المبادرة في مسار التغيير الديمقراطي.

عاشرا: التنسيقيات، هذه التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة السورية وانتشرت في كل موقع ومكان ما جعلها عصية على الاعتقال، وبدت كشكل تنظيمي مرن نجح نسبيا في تحويل المظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة، وأيضا في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهام وتوحيد إيقاع النشاطات.

ويبدو للعيان أن هذه التنسيقيات قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم أنها تمكنت من ملء الفراغ الذي خلفه ضعف المعارضة وأشاعت إحساسا بين المحتجين والمتظاهرين، بأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاما نكرة، وأن تضحياتهم لا تذهب هدرا، وأن ما تسطره انتفاضتهم من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية هو موضع تقدير وإعجاب كبيرين، وأن ثمة شعوبا كثيرة تتعلم منها وتترقب على أحر من الجمر لحظة نجاحها!

* كاتب سوري

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى