سلامة كيلةصفحات سورية

زمن الثورات.. الآن/ سلامة كيلة

تبدو الثورات التي حدثت في بعض البلدان العربية منعزلة، كأن الأمر يخص منطقة لا رابط لها فيما يجري في العالم، ولهذا لا يفهم سبب الاندفاع العالمي لـ “إطفاء الحريق” الذي اشتعل في تونس يوم 12/17/ 2010.

المسألة أكبر من أن ترتبط بالمنطقة فقط، وهي أعمق غورا “مما تبدو على السطح”، الأمر الذي يفرض أن تفهم في أفق أوسع، وأن يجري تناولها من منظورات تتجاوز السطحية الرائجة، وبالتالي أن ننظر إلى “كل العالم”.

في التاريخ ليست الثورات هي السمة الغالبة، بل هي لحظات ويجري “تجاوزها”، لكنها لحظات أعمق من أن تمرّ دون أثر، على العكس من ذلك فإن أثرها سيكون عميقا جدا، فالشعوب “تريد العيش”، لكنها توضع في ظروف تدفعها إلى الثورة.

والملاحظ للتاريخ العالمي منذ نشوء الرأسمالية يلمس بأن “دورة الثورات” حدثت كل خمسين سنة، ونتيجة أزمات عالمية انعكست على تعقيد الأوضاع المحلية لتنفجر الشعوب التي تكون قد راكمت الكثير من الاحتقان.

هذا لا يعني أنه خارج ذلك لم تحدث ثورات، فقد حدثت ثورات خارج هذه الدورة، لكن لم تتخذ طابعا عالميا.

فالأزمات المحلية يمكن أن تؤدي إلى نشوب الثورة، وأصلا الوضع المحلي هو الأساسي في نشوبها، لكن يظهر بأن العالم كله ينهض حينما تصبح هناك “أزمة اقتصادية عالمية”.

والصراع الطبقي قائم ما دام الاستغلال هو السمة السائدة، ويمكن أن يفضي إلى الثورة، لكن تصبح هناك سمة لزمن معيّن حين تكون هناك أزمة في الرأسمالية، وحين كان يشتدّ الصراع بينها.

ثورات سنة 1848 -1850 في أوروبا (بعد الثورة الفرنسية، وكاستمرار لها) ارتبطت بـ”أزمة التجارة العالمية” التي حدثت حينها، وكانت علامة فارقة في تاريخ أوروبا، حيث أفضت إلى إسراع عملية التصنيع وتطور الرأسمالية، التي استفادت من الثورات كي تفرض حكما يدعم تطورها الصناعي في مواجهة تطور إنجلترا الذي سبق ذلك. لهذا نهضت فرنسا ثم ألمانيا صناعيا.

بمعنى أن الثورات لم تعلن “انتصار البروليتاريا”، تلك الطبقة التي خاضت الثورة، بل أعلنت انتصار الرأسمالية في البر الأوروبي.

نهاية القرن شهدت أزمة أخذت تعيشها الرأسمالية، خصوصا بعد التطور الصناعي الذي شهدته ألمانيا، والذي أدى إلى تدافع كبير للاستحواذ على المستعمرات، وقاد إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، ومن ثم اندلاع الثورة السوفيتية في روسيا، وبدء توسع الشيوعية عالميا.

ولقد حققت الثورات هنا انتقال مجتمعات كانت مازالت متخلفة زراعيا وتعيش ظروف القرون الوسطى إلى الحداثة، أي إلى الدولة الصناعية الحديثة رغم أن “مطامح وادعاءات” القائمين عليها كانت تتمثل في تحقيق الاشتراكية.

هذا الأمر أسَّس لتحقيق تطور كبير في مناطق شاسعة من العالم، وإلى نشوء “قوى عظمى” هي روسيا والصين.

أواسط القرن العشرين شهدنا نهوضا ثوريا جديدا على ضوء تراجع وضع البلدان الرأسمالية القديمة وانهيار الاستعمار، وبدء تقدّم أميركا للسيطرة على العالم وقيادة العالم الرأسمالي ضد الاشتراكية ومن أجل وقف زحفها.

فقد استمرت “الثورات الاشتراكية” بعد روسيا، حيث انتصرت الصين سنة 1949، وبدأت الثورة في الهند الصينية (فيتنام وكمبوديا ولاوس)، لكن نهضت أيضا “حركات التحرر الوطني” التي شملت بلدانا عديدة في آسيا وأفريقيا.

في ثورات أواسط القرن التاسع عشر كانت النتيجة -كما أشرنا- هي الانتصار النهائي للرأسمالية في أوروبا، وتحقيق تصنيعها، وبالتالي اكتمال تطور الرأسمالية، الذي أفضى مع نهاية القرن إلى تشكلها في نمط عالمي إمبريالي، حيث فرضت سيطرتها على العالم، وباتت تسدّ أفق التطور في كل المناطق التي لم تصبح رأسمالية بعد، سوى اليابان التي لحقت بالتطور نهاية القرن التاسع عشر.

وبهذا تشكل العالم على أساس انقسامه إلى مراكز رأسمالية صناعية حديثة، وأطراف زراعية متخلفة وتابعة، هي مصدر المواد الأولية (الزراعية، مثل القطن والحرير، وكذلك القمح)، وسوق السلع التي تنتجها المصانع الرأسمالية.

احتجاز التطور هذا فرض أن تكون ثورات بداية القرن العشرين “جذرية”، أي اشتراكية، حيث تكيفت الرأسمالية الناشئة في الأطراف مع التكوين الجديد، فركزت نشاطها في قطاع “غير منافس” مادامت عاجزة عن المنافسة نتيجة عدم التكافؤ في التطور، أي ركزت نشاطها في التجارة والبنوك والخدمات، وباتت جزءا من “الدورة الاقتصادية” للمراكز الرأسمالية، وخاضعة لمصالح هذه المراكز.

وهو الأمر الذي فرض أن تحمل الثورات مطالب أبعد من الرأسمالية، ما دام المطلوب هو حل مشكلات الفقر والتخلف، لهذا كانت الاشتراكية هي البديل الممكن.

لكن إذا نظرنا إلى التجربة الآن، سنلمس بأن هذه الثورات حققت فقط ما حققته الرأسمالية في دورة الثورات الأولى، أي أنها حققت التصنيع والحداثة.

وبالتالي بتنا نشهد تحوّل روسيا والصين إلى دول إمبريالية، بعد أن فرض التطور الذي تحقق باسم الاشتراكية إلى إزالتها، لكن سنلمس كذلك بأن كتلة هائلة من العالم كانت مهمشة ومفقرة وتعيش “القرون الوسطى”، باتت اليوم صناعية وحديثة، وأيضا تنافس في إطار النمط الرأسمالي، وبالتالي فقد توسع التطور العالمي ولم تتحقق مطامح المفقرين.

ثورات أواسط القرن العشرين كانت فاشلة في تحقيق أي تقدّم في بلدان “التحرر الوطني”، وهي السمة التي حكمت تلك الثورات رغم استمرار الثورات الاشتراكية، من الصين إلى الهند إلى كوبا.

ومع توسّع الاشتراكية إلى أوروبا الشرقية بقوة الجيش السوفيتي، فقد أسقطت تلك النظم “الإقطاع” وحاولت بناء صناعة وتحديث التعليم، لكن مطامح الفئات التي حكمت كانت أسرع في النهب من أن تسمح للتطور بأن يأخذ مجراه كما حدث في البلدان الاشتراكية، فعادت الدول إلى أحضان الرأسمالية كتابع دون منجز حقيقي.

الآن، مع بداية القرن الجديد كان واضحا بأن أزمة الرأسمالية في تفاقم، حيث تتالت الانهيارات المالية منذ ثمانينات القرن العشرين، وكان واضحا بأن انهيار النظم الاشتراكية قد فتح الباب لدور أميركي يريد الهيمنة المباشرة على العالم من أجل تجاوز أزمته الاقتصادية.

لكن الأزمة انفجرت في 15 سبتمبر/أيلول سنة 2008، وأفضت إلى انهيار مالي هائل بات على الدولة أن تمنع انهيار البنوك هائلة الضخامة خشية الانهيار الكلي.

ولأن الرأسمالية باتت متشابكة، والرأسمالي متداخل، فقد عنى ذلك أزمة ضخمة في النمط الرأسمالي ككل.

لهذا نجد أن كل البلدان الرأسمالية القديمة مأزومة، وتعيش على هاجس الانهيار، نتيجة أزمة الاقتصاد الذي بات يشهد “انفجار الفقاعات” بعد أن سيطرت المضاربة على مجمل النشاط الاقتصادي، ومن ثم نتيجة تراكم المديونية على الدول التي باتت تحاول أن تحمل تعثرات البنوك، والتي أصبحت في وضع الخطر نتيجة وصول المديونية سقفا بما لا تعود الدول قادرة على سداد فوائدها.

هذه الأزمة كانت المدخل الذي فجّر التراكمات التي نشأت منذ عقود سابقة في العديد من البلدان العربية، دون أن تصل إلى نهاياتها، على العكس من ذلك ما زال الأمر يتعلق ببداية.

ونجد كذلك بأن السياسة الاقتصادية التي تتبعها البلدان الرأسمالية لتجاوز أزمتها من خلال فرض التقشف تدفع إلى تململات في بلدان جنوب أوروبا، وشرقها، حيث يمكن أن يقود ذلك إلى ثورات فيها.

ويطال هذا الأمر الكثير من بلدان العالم، في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا كذلك، وبالتالي فما ظهر بأنه خاص في البلدان العربية سيبدو عاما يطال العالم، وربما هذا السبب هو الذي جعل شعوب العالم (وفي البلدان الرأسمالية خصوصا) تميل إلى “تقليد” الثورات العربية، وجعلها ترى فيما يجري هنا الحلم الذي يسكنها، وميدان التحرير بات رمزا للحشود التي تريد إسقاط النظم وتغيير واقعها.

إذن، نحن في بداية موجة ثورية كبيرة ربما تكون الأضخم في التاريخ، لكن ما هي وجهتها؟ وجهتها هي ضد الرأسمالية بالضرورة، فالرأسمالية هي التي صنعت هذا العالم الذي لم تعد الشعوب قادرة على العيش فيه.

ولا شك في أن كل عناصر الحداثة لا بد من أن تتمفصل مع ذلك لكي تتحقق، ربما كما حدث مع روسيا بداية القرن العشرين.

لكن ما هو مهم هنا أن نرى الثورات العربية في هذا الأفق، وأن نتوقع المآلات انطلاقا من أن الرأسمالية باتت تعاني أزمة عميقة تفرض تمرّد شعوبها وكل شعوب العالم، وهو الأمر الذي لا يسمح بأن تجهض الثورات، وأن تفرض تحقيق تغيير جدي.

ما ينقص هو البديل. في بداية القرن العشرين كان البديل واضحا ومبلورا وله وجود واقعي، وفي أواسط القرن التاسع عشر كانت البرجوازية في قمة صعودها، أما الآن، فنحن في زمن الثورات، لكن لم يتبلور البديل الذي يؤسس لانتصارها.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى