صفحات الثقافةوليد بركسية

زنابق دمشقية

 

وليد بركسية

 وسط ضجيج الإعلام وأزيز الرصاص ورياح الموت المجاني التي تهب على سوريا، علا صوت المطرب والملحن إياد الريماوي بصحبة المبدعة بسمة جبر. صوتان اخترقا جدار العزلة التي فرضتها الأحداث الدامية في البلاد، لينشدوا معاً أغنية “بياعة الزنبق” ملامسين بها أوجاع الإنسانية.

 لم يكن مفاجئاً أن تحقق الأغنية نجاحاً كبيراً، وتنتشر عبر الإذاعات ومواقع التواصل الإجتماعي. لوهلة، بدت الأغنية التي تصادفها الأذن في كل مكان، أكثر من كلام ولحن حزين، كأنها ترنيمة، أنشودة يكررها الناس على الملأ أو بينهم وبين أنفسهم، إذ تحمل الأغنية في طياتها نماذج متعددة للوجع السوري، تجمعها “بياعة الزنبق” من شوارع دمشق.

وزاد في شعبية الأغنية ابتعادها عن السجال السياسي، وتركيزها في الشق الإنساني للصراع المشتعل في سوريا. فنرى “البياعة” تضم القاتل والمقتول في زهرة واحدة، فتردد الكلمات بتتالٍ حزين غني برمزية معبرة: “بياعة الزنبق، بساحة الميسات، باعت خمس باقات، وحدة إلي ومني إلك، ووحدة لمين مدري لمين، ووحدة لأرملة الشهيد، ووحدة لأم بتموت ع الزنبق البلدي وبتنوح يا ولدي، وآخر وحدة لقاتل، ناوي يخبي بوراقها جرح القتيل”.

وتستمر الرمزية في الأغنية، فتمثّل بياعة الزنبق، بشكل أو بآخر، دمشق، التي تضم شوارعها وأحياؤها ومركزها وضواحيها، انتماءات سياسية ودينية واجتماعية شتى، وتغدو ثنائية الموت والحياة شديدة الوضوح في الأغنية، تماماً كحضورها الواقعي المخيف في دمشق وسوريا عموماً، لتغدو ترنيمة “البياعة” صرخة إبداعية يائسة في وجه الموت الذي يحصد “الزنابق” قبل ميعادها.

لا تنحصر الرمزية في الأجواء اللحنية للأغنية، بل تفرض نفسها بصرياً أيضاً في الفيديو كليب، إذ اختزنت عدسة المخرج سامر البرقاوي، درجة عالية من الحساسية في تصوير الألم السوري، بما يوائم كلمات الأغنية والحالات التي تركز عليها. في الكليب تتداخل الصور الفوتوغرافية مع مشاهد لريماوي وجبر بالأبيض والأسود. ثلاث فتيات عن الشاطئ، ينظرن إلى البحر متجاهلات عدسة الكاميرا خلفهن. كل ما نراه منهن، ضفائرهن، وصور متتالية لأمهات سوريات بنظرات أمل وألم. خلطة عواطف بصرية، تمتاز بها أغنية لا ادعاء فيها ولا ابتذال، بل بساطة مفرطة، وربما لهذا تزداد تأثيراً في متلقيها.

 في الإطار ذاته، تبدو درجة الاحترافية عالية جداً في تركيبة الأغنية بشكل عام، وهذا يعود دون شك للخبرة الطويلة لدى فريق العمل الذي لم يأت من فراغ. فمؤلف الكلمات، عدنان العودة، شاعر مقل في أعماله الغنائية لكن تجاربه نجحت مع فرقتي “كلنا سوا” و”جين”. أما إياد الريماوي، فصاحب سلسلة من النجاحات المتتالية، في عمله مع فرقة “كلنا سوا” الرائدة بتجديدها الموسيقي في سوريا، إذ قدم معها أربعة ألبومات غنائية وأكثر من 25 أغنية ناجحة، إضافة إلى مساهماته كمولف موسيقى تصويرية لمسلسلات درامية سورية وعربية، ومنها “الغفران” و”مطلوب رجال”، وهذا الأخير شهد تعاونه مع بسمة جبر التي اشتهرت عربياً بعد مشاركتها في برنامج “سوبر ستار” 2004، إضافة إلى غنائها تترات مسلسلات درامية وكرتونية خلال السنوات الأخيرة.

“بياعة الزنبق”، أغنية لألم مستمر ووجع عميق. عمل تثير تفاصيله الدقيقة الإعجاب، وينجح ككل كمتكامل، في غرس أثر عميق لدى المتلقي، وإن كانت الحرب  تخلف دماراً هائلاً على كافة الأصعدة في سوريا، إلا أن الإبداع هناك بدأ يتخذ أشكالاً جديدة للتعبير. إبداع يخرج في إطارات فنية متعددة، تنطلق من بؤس الواقع، لتقدم حلماً بغد أفضل يعيد للسوريين ابتسامتهم المسلوبة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى