سهيل حدادصفحات سورية

زوبعة المعارضة في فنجان النظام السوري

 

سهيل حداد

أطلق رئيس الائتلاف السوري المعارض معاذ الخطيب قنبلة من العيار الثقيل، لم تصعق أقرب المقربين إليه فحسب، وإنما تطايرت شظاياها لتصيب أروقة النظام السوري الذي تفاجأ بالمبادرة السياسية ـ الإنسانية التي ترد على مبادرته السياسية ـ الأمنية بكثير من النشوة والارتياح.

لقد شكلت تغريدات الخطيب في فصل الشتاء القارس حدثاً ساخناً، أغضب معظم الحلفاء والأصدقاء وأدخل البهجة إلى قلوب الخصوم والأعداء، قلب الطاولة رأساً على عقب، كردة فعل وجدانية وإنسانية غير محسوبة النتائج من الناحية السياسية .. ردة فعل انفعالية ضد مواقف الدول التي أدارت ظهرها إلى الثورة السورية متنكرة لما قطعته إليها من وعود في الدعم والمساندة بكافة الوسائل اللازمة حتى تحقيق أهدافها، استنكار غاضب وحملة على المجتمع الدولي ضد محاولات إذلال الشعب السوري والنيل من كرامته باختزال الثورة السورية وتصويرها ثورة للجياع والمحرومين وصندوق للتبرعات ‘نازحين ولاجئين’ يعالج النتائج دون النظر في الأسباب.

إن موافقة الشيخ الخطيب للتفاوض مع موفدين ذوي صلاحية من قبل النظام السوري ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، شريطة أن يطلق النظام سراح مئة وستين ألف معتقل ومنح جوازات سفر جديدة للسوريين في الخارج أو تمديدها لمدة عامين على الأقل، قلل من سقف التوقعات والمطالب السياسية، وكسر حاجز إمكانية التفاوض مع النظام من حيث المبدأ دون أي مقابل أو ثمن سياسي يخدم الثورة السورية، الأمر الذي أحدث ردود أفعال وانقسامات في الآراء بين مؤيد ومعارض لها، لما تحمل تلك التصريحات من تأويلات مختلفة وأوجه متعددة قادرة على المناورة والتلون بجميع ألوان فصول السنة، ولقناعة البعض أن الحوار والتفاوض مع النظام السوري لن يجدي نفعاً، الأمر الذي دفع البعض للوقوف إلى جانب تلك التصريحات لاعتبارات وحسابات مختلفة ‘مغامرة لعبة الكراسي’، وصمت البعض تحت وقع قبة الصدمة، وتحفظ البعض مكرهاً لاعتبارات خارجة عن إرادتهم بانتظار الأجواء المناسبة للخروج عن صمتهم، مما يدق ناقوس الخطر في تفاعل هذه الإشكالية وينذر بإعادة صراع الديوك من جديد.

إن النظام السوري الطرف الآخر في المعادلة السياسية يعيش نشوة الاختراق ويراقب ويتربص إفرازات ذلك الحراك على الضفة الأخرى دون أن ينتظر ما ستؤول إليه الأحداث في صفوف المعارضة السورية التي راهن على خلافاتها وانقساماتها وصراعاتها خلال الفترة السابقة، ولم يدخر جهداً بكافة الوسائل المشروعة والغير مشروعة في اختراقها و تعميق تلك الخلافات والتناقضات منعاً لتماسكها ووحدتها. فهو ماض في الطريق الأمني دون هوادة، حيث يستمر في قصف المدن والبنى التحتية والمنشآت الحيوية والأحياء الأهلة في السكان ليهجر أهلها إلى المخيمات خارج الديار وليشرد الأطفال والنساء والشيوخ في العراء ويدمر المستشفيات والمخابز ويقصف الجامعات والمدارس دون أي رادع أخلاقي أو إنساني أو قانوني وتحت مرأى جميع دول العالم والمنظمات الإنسانية والحقوقية.

لقد نجح النظام السوري في جر الثورة الشعبية السورية السلمية في بدايتها وفق أجندته التي يتقنها وتمرس عليها خلال تجاربه السابقة داخليا وخارجيا، وتمكن من تحويل الشعارات السلمية للثورة السورية إلى حمل الألوية والرايات المسلحة حيث يمتلك الخبرة والتجربة في استخدام العنف وكم الأفواه وقتل المعارضين واعتقال من يقررون أن يحلموا بغد أفضل، وتهديد المغتربين ورجال الأعمال وحتى حلفائه الذين يخالفونه في الرأي بمصادرة أموالهم والتعدي على أعراضهم واعتقال أقربائهم والانتقام منهم بكافة الوسائل القذرة.

ها هو النظام ينجح مجدداً في جر المعارضة السورية التي فرض عليها طريق الكفاح المسلح وأخرجها من عباءتها السلمية البيضاء، يدفعها مرة أخرى نحو أجندته ‘دوامة التفاوض والحوار ومن ثم المصالحة والمسامحة’.. محاولاً تقسيمها إلى مجموعات متناحرة غير قادرة وغير مؤهلة على وضع البديل السياسي والعسكري لمستقبل سورية الجديدة، مما ينزع عنها دولياً وداخلياً إمكانية الاعتماد عليها ويعزز مواقعه من جديد.

إن طبيعة النظام السوري لا يمكنه أن يتعايش مع شريك له في الحكم والسلطة، لذلك فهو غير قادر على أن يحاور إلا نفسه ولن يقبل بولادة كـــيان سياسي جديد يفقده السلطة لاعتبارات اجتماعية وطبقية وطائفية، وأي حوار مرتقب مع المعارضة السورية لن ينجب إلا مســـخاً قديماً بلباس جديد تحت مسمى أخر..وخاصة أنه يعيش انفراجاً كبيراً بإخفاق الســــياسة الدولـــــية في إسقاط حكمه بعد مرور ما يقارب العامين على انطلاقة الثورة.

كما أن طبيعة النظام السوري لا يمكن أن تتغير في بنيته وركائز وجوده القائم على الدولة الأمنية التي تحتكرها طبقة ربطت جميع مصالحها وعوامل بقائها بالشبكات المخابراتية الدولية الفاعلة على الساحة العالمية خلال عشرات السنين، هذه القوة الصلبة تتصارع اليوم في الساحة السورية لتحديد نوعية وطبيعة وتوجهات النظام في المرحلة القادمة ومدى المكاسب والمصالح التي يمكن أن تحصل عليها، صراع بين نظام مخابراتي قديم يتمثل في الدول الحليفة للنظام السوري ونظام مخابراتي وافد جديد يصارع بقوة لتغيير قواعد اللعبة، وما الحلول السياسية المنتظرة إلا مخارج لنهاية هذا الصراع المخابراتي الدولي على سورية ، وطالما أن هذا الصراع المخابراتي ما يزال قائما وحادا في المواقف ولم يصل إلى نقاط اتفاق حول شكل النظام السياسي والأمني المخابراتي القادم في سورية وتحديد علاقاته وصلاته وارتباطاته إقليميا ودولياً، فلن تكون هناك حلولاً سياسية في المنظور القريب.

إن النظام الأمني المخابراتي الحليف للنظام السوري في فترة الحرب الباردة ساهم في بناء منظومة أمنية قوية في سورية مكنت السلطة من أن تحكم الوطن والشعب بقبضة من حديد، الأمر الذي دفع النظام الحاكم إلى تسخير كافة مقدرات الدولة السورية على مدى أربعين عاماً لتقوية الحكم في السلطة على حساب إضعاف مؤسسات الدولة وانتشار الفساد والمحسوبيات وتفكيك مكونات المجتمع المدني، وفق هيكلية أمنية وعسكرية مخابراتية لها ارتباطات دولية تحدد هويتها وتحافظ على عوامل وجودها والسهر على حمايتها وتأمين كافة المتطلبات الاقصائية اللازمة لضمان بقائها في السلطة، الأمر الذي أسس وحدد معالم الطريق والضوابط لأي نظام حكم قادم على المدى البعيد مهما بلغ درجة الحكمة والإصلاح في أن يتمكن أو يتجاوز الركائز الأساسية التي يستند عليها أركان النظام السوري. ‘مات حافظ الأسد جسداً ..لكن نظامه ما زال يحكم من القبر’.

ولعلنا نذكر جميعا ما صرح به وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم على المبادرة العربية آنذاك ‘أن من يريد الغوص في التفاصيل عليه أن يتعلم السباحة أولاً’ كما أن تصريح وزير المصالحة في حكومة النظام السوري علي حيدر رداً على مبادرة معاذ الخطيب مؤخراً ‘بأن إطلاق سراح مئة وستين ألف معتقل هو كلام إعلامي ومبالغ فيه وعلى الائتلاف ورئيسه تقديم جدول بكافة أسماء هؤلاء المعتقلين للبحث فيه’ وهنا يؤكد الوزير حيدر ‘أن فرخ البط عوام’ حيث أن ملف المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية ما زال يشكل جرحاً دامياً في ضمير الإنسانية منذ أواسط السبعينيات وحتى وقتنا الحالي.

نحن نقدر دوافع رئيس الائتلاف أحمد معاذ الخطيب الإنسانية وخيبة أمله في المجتــــمع الدولي تجاه دعم الثورة السورية وضرورة البحث عن حلول مجــدية تساهم في تحريك الملف السوري عربياً ودوليا، ونقدر الصراحة والشفافية التي تميز بها في التمرد عن السبل المألوفة في أروقة السياسة بشكل أيضاً غير مألوف ولكن اجتهاد البوصلة السياسية التي وجهته نحو الهدف لم تكن للأسف دقيقة في هذه المرحلة الحرجة من عمر الثورة السورية.

إن سياسة النظام السوري قذرة ولا تعترف بالنزاهة والأخلاق النبيلة، لا تعرف معنى الشفقة والرحمة الإنسانية، ولا تؤمن بالعدالة وحرية الشعوب، تحكمها القوة والمصالح الغير أخلاقية والغير مشروعة في أغلب الأحيان ولعل تاريخ النظام السوري مليء بالصور والأمثلة الكثيرة على ذلك. وأي مبادرة سياسية لا تراعي طبيعة النظام لن تنجح أو ترى النور مهما كانت الدوافع ومدى حجم التنازلات.

من رحم هذا النظام الذي هيأ كل المتطلبات اللازمة للقمع والقتل منذ عشرات السنين تحسباً لهذه الظروف.. ولدت الثورة السورية المباركة بعملية قيصرية لم تأخذ البعد الكافي للترتيب والتنظيم واكتساب الخبرة وحسن الإدارة .. من رحم هذا النظام كسر الشعب حاجز الخوف والصمت وقرر السير نحو الشهادة أو النصر مهما كانت التضحيات.. لذا لا بد للمعارضة أن ترتقي إلى مستوى التضحيات الجسام التي يقدمها الشعب السوري في نضاله ضد نظام الحاكم في سورية، وأن يرتفع بمسؤولية أكبر إلى روح العمل الجماعي بعيدا عن اتخاذ القرارات الفردية الغير محسوبة بشكل دقيق من جهة، وإلى لغة العمالة والتخوين من جهة ثانية، حتى لا تنعكس سلباً على أداء المعارضة ووحدتها وتخريب كل الانجازات التي تم تحقيقها داخلياً وخارجياً وتقديم الهدايا والعطايا المجانية للنظام والعودة مجدداً إلى معاناة نقطة الصفر.

‘ كاتب وباحث سوري في جمهورية ألمانيا الاتحادية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى