صفحات العالم

زيارة كيري والأزمات التي تراوح مكانها

 

د. نقولا زيدان

تفتح زيارة وزير خارجية أميركا الجديد “جون كيري” للشرق الأوسط وبعض بلدان الربيع العربي الباب مشرعاً على مصراعيه للنقاش بشأن السياسة الخارجية الأميركية حيال هذه البلدان. وليس بوسع أحد، ما دامت الأحادية العالمية في قبضة واشنطن أن يتجاهل الأهمية القصوى لهذه المسألة. فبعد حادث 11 9 2001 الخطير واعتماد المجتمع الدولي سياسة الحرب على الإرهاب، وتورط أميركا وحلف شمال الأطلسي في حرب أفغانستان، وحرب العراق (2003) وسقوط نظام صدام حسين أصبحت أميركا طرفاً فاعلاً ومعنياً في شؤون منطقتنا أكثر من أي وقت مضى. ولا يمكننا اطلاقاً في هذا المجال تجاهل اتفاق أوسلو ولا اتفاق كامب دافيد وواي بلانتايشن أيام الرئيسين كارتر وكلينتون وما نجم عنهما من مساعٍ فلسطينية واسرائيلية للوصول إلى اتفاق سلام لم يرَ النور بالكامل بعد. ولا يجوز تناسي تداعيات أزمة احتلال صدام حسين للكويت (1990) والتحالف الدولي الذي قادته أميركا في حرب مدمرة ضد الجيش العراقي. فبعد تورط الأميركيين في هذه الحروب أصبحوا طرفاً أساسياً معنياً في سياسة الشرق الأوسط، بخاصة مع بروز الطموحات الإيرانية المحمومة للاندفاع نحو المتوسط على إيقاع تطوير نشاط مفاعلاته النووية في سعي ملتبس لامتلاكها السلاح النووي. وقد زاد من مخاوف أميركا وأوروبا المتحدة من هذه النشاط تهديدات زعماء إيران ذات الأكثرية الشيعية حيال إسرائيل ولسنا نعتقد بتاتاً بأن بوسع جون كيري هذا الذي خلف هيلاري كلينتون ومن قبلها غوندوليزا رايس، أن يغير إطلاقاً من الثابتة الأميركية الراسخة التي تحكم سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أمن إسرائيل والبترول الخليجي. فحتى اللحظة فإن استراتيجية (Establishment) الأميركية ما زالت هي المساعدة في هذا المجال وعلى ما يبدو فإن السيد كيري مستعد محلياً لخدمة هذه الاستراتيجية وليس بمقدوره بتاتاً إحداث أي تغيير جدي وملموس فيها.

إن المتاعب الداخلية الاجتماعية والاقتصادية لأميركا الغارقة في الديون ومؤسسة “باراك أوباما” المنصبة على رفع المستوى المعيشي للطبقة الوسطى في أميركا (تيسير القروض وخفض الفوائد عليها وتأمين ضمان الشيخوخة) بالإضافة لمشكلة السلاح الفردي الذي يكفله الدستور الأميركي، قد جعل واشنطن غير منهمكة بالقدر المتوقع في هموم الربيع العربي. فالغرق الأميركي لحدّ التناغم والانسجام مع المماحكات المزمنة التي تتقنها طهران مع الوكالة الدولية للطاقة النووية وعقدها الاتفاقات الملتبسة مع نظام العمائم في العراق وتحديدها موعد 2014 لإخراج قواتها العسكرية من أفغانستان قد جعل البيت الأبيض يتخبط في مواقف تبعث على الريبة والقلق حيال الثورة السورية.

إنه لمن السذاجة بمكان أن يتجاهل المرء أن أميركا التي اشتركت في جميع مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري في اسطنبول وتونس وباريس والمغرب راحت تخفف تدريجياً من حماستها في دعم الثورة السورية. بل أكثر من ذلك عندما تمارس ضغوطاً كبيرة على الرياض والدوحة للتخفيف من دعمها للثورة السورية على كافة المستويات والصعد. فالسياسة الخارجية الحازمة لسعود الفيصل ونظيره القطري حمد بن جاسم والتي لم تكتفِ بإخراج النظام الأسدي من اجتماعات جامعة الدول العربية ولجانها الفرعية بل دعت لإنشاء مناطق عازلة آمنة محمية بالدفاعات الجوية الرادعة لغارات النظام الأسدي، قد لاقت صدى مثيراً من واشنطن بالذات. لا بل وصل الأمر بالأميركيين لممارسة الضغوط نفسها على أنقره، ولم يكن نشر بطاريات صواريخ الباتريوت على الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا مع سوريا سوى عمل مسرحي مدوٍ Spectaculaire أكثر من عمل عسكري تصعيدي يهدد النظام الأسدي المتلقي دعماً مطلقاً من موسكو بالسلاح والعتاد والذخيرة وآخر مبتكرات الأنظمة الالكترونية، والذي أصبح رهينة بل دمية بيد طهران وامتدادها اللبناني حزب الله اللبناني الغارق لما فوق أذنيه في القتال الدائر في سوريا الآن. إن أركان الجيش التركي ما زالت بحاجة لقرار سياسي عالي المستوى للإفراج عن صواريخ أرض جو وأرض أرض المرسلة إلى المعارضة السورية الثورية لحماية المناطق المحررة، وذلك بسبب الضغوط الأميركية من جهة ولحسابات تركية داخلية من جهة أخرى. وتلقي المشكلة الكردية بظلالها الداكنة على حقيقة الموقف التركي.

اختار “جون كيري” مصر كمحطة أولى لزيارته الشرق أوسطية. مصر مع ما يعانيه نظام محمد مرسي وجماعة الأخوان المسلمين من متاعب واضطرابات داخلية عارمة، ولا تهزه عميقاً أزمة اقتصادية معيشية خانقة فحسب بل استمرار الحراك الجماهيري الواسع لسياسة الأخوان الاستخبارية وتفردهم بالسلطة في ظل عجز فاضح عن الاضطلاع بأسباب الحكم وإدارة البلاد. وما زالت مدن القناة الثلاث السويس الاسماعيلية بور سعيد في حالة عصيان مدني مفتوح على احتمالات شتى وكأنها حركة انفصالية عن العاصمة المركز بل شاهدنا منذ أيام تبادل إطلاق النار بين الجيش من جهة والشرطة من جهة أخرى.

ـ أن يمنح جون كيري مساعدات عاجلة بقيمة 190 مليون دولار لنظام مرسي أضيفت إليها 60 مليوناً من المساعدات الغذائية قد طمأن رجل أميركا الجديد محمد مرسي بعض الشيء. إلا أن القرض البالغة قيمته 4,8 مليار دولار ما زال معلقاً مع البنك الدولي. ويشترط كيري على مرسي والأخوان تسوية أوضاعهم مع المعارضة الديموقراطية والجيش.

وتحتل المملكة العربية السعودية ودول الخليج مكانة بارزة في زيارة “كيري” هذه. فالسعودية نجحت بجدارة في مساعدة حكومة صنعاء لرد هجمات الحوثيين في صعدة في حركتهم الانفصالية، بل استطاعت إنجاز مهمة الانتقال السلمي للسلطة في اليمن بطن الجزيرة العربية الرخو المتخم بالمتاعب. إلا أن متاعب صنعاء مع “القاعدة” ما زالت تثير قلق الأميركيين البالغ، فالممر المائي عند باب المندب لا يقل أهمية عن مضيق هرمز حيث الأطماع الإيرانية وتهديدات طهران تثير قلق دول الخليج قاطبة. فهل حمل “كيري” في جعبته مشاريع تسلّح جديدة من نمط القبب الفولاذية المتطورة بمواجهة الصواريخ الإيرانية ـ الروسية الصنع؟

إن الصفحة الأكثر سواداً التي تطرح على الشعوب العربية الكثير من الأسئلة وتثير قلقاً بالغاً في نفوسها هي الشكوك المبررة والمنطقية والمحقة حيال حقيقة الموقف الأميركي من الثورة السورية كما أشرنا سابقاً. فما هو الموقف الفعلي والحقيقي للأميركيين حيال الهجمة المحمومة التي تندفع فيها طهران نحو المتوسط مروراً ببغداد ودمشق ووصولاً إلى الوضع اللبناني؟ فلم يعد سراً أن ثمة صفقة أميركية إيرانية قد حولت العراق إلى محمية إيرانية تحكمها حكومة بقيادة نوري المالكي الممتثل لأوامر طهران. كما أن أميركا تتلكأ لحد الميوعة والتماهي مع ما يجري في سوريا من شلال متواصل لتدفق الدم وتواصل المجازر والمآسي. ففي الوقت الذي تقوم فيه موسكو بمبادرات متواصلة لكسر ذراع المعارضة السورية وإكراهها على القبول صاغرة بالتفاوض والحوار مع الحكم الفاشي في دمشق المتمثل ببشار الأسد وطغمته، تتسم سياسة واشنطن بالمراوغة حيال الأزمة السورية. فهي تصور فريقاً محدوداً من الثوار جماعة النصرة كما لو كانوا كل أطياف المعارضة وذلك لتبرر تمنعها وإحجامها أو تلكوئها في تسليم المعارضة أسلحة فعالة بمواجهة ترسانة الأسلحة المتجددة، وتزعم واشنطن أنها تكتفي في الوقت الحاضر بتزويد المعارضة بالمعدات الإلكترونية “النوعية”.

إن الانطباع السائد في المنطقة أن ثمة تفاهماً ضمنياً أميركياً روسياً يغطي الوضع في سوريا وأن سوريا ليست معرضة للتقسيم أو لحركة انفصالية ما. ولكن ماذا عن لبنان حيث حكومة الصناعة السورية عندنا مستمرة رغماً عن إفلاسها الشامل والمفجع على كافة الصعد. وصاحبها الفعلي هو حزب الله الذي يجيد إدخال اللبنانيين في دوامات نقاش كيدية بشأن الهواجس المذهبية وصدقية التمثيل بل يصبح الحزب الشمولي المدعي تمثيل الحق الإلهي أشد أنصار القانون النسبي حرصاً منه على الديموقراطية، تلك الديموقراطية المزعومة التي شهدناها نهار 7 أيار 2008 في شوارع بيروت الغربية وصيدا والشحار؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى