صفحات الناس

سأدعو بخشوع/ باسل الحمادة

 

 

ذلك المساء قبل الرحيل، أطلّت أمي من خلف شاشة الحاسوب، لتقول: اخلد إلى النوم، فالعمل بانتظارك في الصباح.

وفي الموعد نفسه، وعند كل صباح، كانت تقيم حواجزها في طريقي، وتشهر أسلحتها وتطلق كمّاً من الأدعية والتمتمات أسمع منها ذكر الله، وتواجهني برشقةٍ من الأسئلة اليومية: أين هويتك؟ مفاتيحك؟ هاتفك؟ وعند التيّقن بأنّني على أتم الاستعداد تخفض مقبض الباب، لأعبر من خلال أحضانها، حاملاً دعاء أكرّره، وأنا أنزل الدرج وصوّتها يصدح به خلفي.

إلا أنّ ذلك اليوم ردّدته متهكّماً مبتسماً، مواسياً كتعويذة، فقد هرب مني الخشوع، تعويذة لم يدم فعلها طويلاً، فما إن وصلت إلى عملي بقليل، حتى أطلّت علينا رؤؤس لزوار لم يعد الفجر موعدهم، زوّار لا يعرفون للإنسان والزمان والمكان أيّ حرمة، فوهات بنادقهم تضغط على أجسادنا، وإذ بالأصفاد تكبّل يديّ مع زميلي، وكان السؤال: هويتك وين يا حيوان؟ مفاتيحك وين يا حيوان؟ هاتفك وين يا حيوان؟ فكلنا في نظرهم سواسية، ونحمل الاسم نفسه.

هناك تنتظرنا سيارة من الدفع الرباعي لتقودنا جميعاً مكدّسين، وتعبر زحمة العاصمة، وكانت مدّة كافية لنخفي مائة دولار في ثقب معطف صديقي الأربعيني وثلاث آلاف ليرة كنت سأهم في رميهم لولا حذاقة صديقي ذاك، ولكنها لم تكن كافية لنحفظ كلّ الأجوبة قبل الاستجواب، فما هي إلا ساعات فقط، وإذ بألسنتنا تنطق بما لا يهوى العقل، فلسان الكرباج كان أكثر فصاحة مما قد تنطق به ألسنتنا مجتمعة أو تضمره عقولنا وقلوبنا.

في بهو الانتظار، كانت صورتان لا تفارقاني، الأولى، والتي ما زالت تمرّ في مخيلتي هي لعنصر الأمن، وهو يسرق خلسة من درج مكتبي كيساً من الأدوية للسيدة رزان زيتونة، منعت حواجز الأمن نفسها إدخالها إلى الغوطة. والثانية لهاتفي المركون بجانبي الذي لم يهدأ رنينه، حين لم تجرؤ يدي على لمسه تجرأت عيني (على الرغم من وجهي المحشور في الزاوية) لتقرأ عدّاد المكالمات التي لا تنتهي من ست الحبايب، فكلمتها صامتاً ومتمتماً وراجياً أن تسمعني (لا تقلقي عليّ بعد اليوم فدعائك ردّدته)، وكرّرتها مراراً، لأدخل في زنزانتي، وأنا متحصّن من تجارب مرّ بها أفراد أسرتي وكثيرون من أصحابي. دخلت الزنزانة واثقاً مفتخراً وازناً، وألقيت السلام على جمهور المعتقلين المكدسين، لعلّي أشق طريقاً إلى أرواحهم التعبة، فلم يجد ذلك السلام ثغرة يتخلّل منها إلى أحد منهم فارتد إليّ حاملاً صمتهم، ذلك الصمت الذي جعلني أشعر بأنّني هنا في عالم آخر لا حياة فيه، عالم يخيّم عليه حزن أسود بلون الجدران، مما أثقل همّتي وطأطأ رأسي. تكدست مع المتكدسين، هنا انهارت جميع التحضيرات والتحصينات الذهنية، لأجد نفسي غارقاً في واقع فيه الغلبة للظالم على المظلوم بكل ما يحمل الظلم من معانٍ مفجعة وفجّة.

هناك في ظلمة المعتقل كانت مقومات الحياة في الزنزانة أربعاً، حجر وخبز وماء وهواء، إنها ياعزيزي بضع ميلمترات من الأحجار المرصوفة وفتات خبز ورشفات ماء ونسمة هواء تأتيك من شراقة في الباب كافية لمن يستحوذها ليكون من سادات وأمراء غرفة الاعتقال.

هذا ما بدأت أفهمه بعد أيام، مع أنّ فكرة التعايش مع ذلك الواقع المرّ أشدّ مرارة إلا أنّها أصبحت حقيقة مفروضة، فلا مانديلا مرّ بزنزانتنا ولا غيفارا تكدّس فيها مع تلك الأجساد المكدّسة، وإلا لما بقيت الثورية ثوبهم.

على الرغم من ضيق المكان كان هناك متسع لمخيلاتنا بأن تحلّق نحو باب الزنزانة لتعانق زميلا ًسيفرج عنه، أو تحلّق إلى موائد سيمد فيها من الفاكهة الطازجة ما لذّ و طاب، أو على الأقل بضعة أباريقٍ من ماء بارد، وكانت تكفي إشاعة واحدة يستحدثها أحدنا لتعيش مخيلاتنا متعة الأمل ولو لبضع ثوان، ولكن هناك عند باب الزنزانة ذاته ينقطع الوحي، ولا تُسمع إلا صراخ وصراخ وصراخ ممزوج بأنين ودعاء وترّجي، هناك خلف ذاك الباب كانت تقبع الشياطين.

في ساعات الليل المتأخرة، وفي أثناء دوريتي في الاستيقاظ كانت تخطئ بضع روائح عطور نسائية طريقها عابرة نحو أنوفنا حاملة معها رائحة دخان سجائرهم لتستمر إلى حين، ومن ثم تتلاشى رويداً لتبحث أنوفنا عن مصدر عفن آخر من نوع مختلف.

هذا يومي الواحد والأربعون، ساعات من التحقيق مرّت، وتوّجت ببصمة عليها آثار عصا خضراء من تلك التي تستخدم في التمديدات الصحية. أما اليوم الثاني والأربعون بصمتُ وبعض زملائي على دفتر من الاعترافات. اليوم الثالت والأربعون، وفي الخامسة صباحاً تقريباً حلّقنا بأقدامنا نحو باب الزنزانة المفتوح لنعانق صديقي في العمل والأصفاد وصديقاً في زنزانة أخرى (الصيدلاني) وحالة من الذهول والسكر تعترينا، لتوقظنا بضع شتائم وتهديدات، لتتم بعد ذلك خياطتنا بجنزير طويل واحد يجرنا بعيداً عن ظلمة المعتقل، ولكن أول ما كان يشغلني هو سماع صوت أمي أخبرها أنا بسجن عدرا، الحمد لله ياربي، الحمد لله ياربي، أمي ادعي لي، أعدك أن أردّد دعاءك، ولكن هذه المرة سأدعو بخشوع”.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى