بكر صدقيصفحات سورية

ساحة تقسيم في اسطنبول: بروفا تركية على “ساحة التحرير”

بكر صدقي

1 بدأت الاحتجاجات الشعبية على اقتلاع الأشجار من منتزه ساحة تقسيم، بعشرات جمعتهم دعوات على صفحات فيس بوك وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي. وإذ واجهتها الشرطة بخراطيم المياه وغاز الخردل، اتسعت الحركة التضامنية التي خالطتها أعمال عنف متفرقة، لتتحول أكبر ساحات عاصمة الامبراطورية العثمانية إلى ساحة معركة. وفي غضون بضعة أيام، فاضت حركة الاحتجاجات إلى خارج اسطنبول لتشمل المظاهرات التي وصل عددها إلى التسعين، أنقرة وإزمير وأضنة وعينتاب وأنطاكية وعشرات المدن الأخرى.

لم تقتصر أخطاء الحكومة على استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين، بل زاد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الطين بلةً في ظهوره الأول أمام الجمهور. فقد أعلن برعونة أن البلدية ماضية في مشروعها لإقامة مركز تسوق على قسم من أرض المنتزه، متحدياً مطالب المحتجين الذين وصفهم، فوق ذلك، بالمتطرفين الإيديولوجيين وبأنهم لا يمثلون تركيا الحقيقية حسب زعمه، متهماً خصمه حزب الشعب الجمهوري بالتحريض على الفوضى.

ومن طرائف ردود الفعل الحكومية على الأحداث أن بعض الصحافيين المقربين من الحكومة، كشامل طيار مثلاً، عابوا على شباب المظاهرات خروجهم من حانات بيوغلو القريبة من ساحة تقسيم، وزجاجات البيرة في أيديهم! كم يشبه هذا اعتراض “علمانيين” سوريين على ثورة آذار لأن المتظاهرين خرجوا من الجوامع!

الصحفي المخضرم جنكيز تشاندار، غير المعروف بعدائه للحكومة، وصف خطاب أردوغان كما يلي: “التشابهات بين خطاب أردوغان وخطابات بشار الأسد منذ اندلاع الثورة في سوريا في شهر آذار 2011، تثير الفزع!”، ناصحاً صديقه أردوغان بالعودة إلى خطابات الدكتاتور السوري لإجراء المقارنات المفيدة. وأضاف تشاندار الذي قدم أفضل القراءات للثورة السورية في الصحافة التركية: “هل يدرك أردوغان أنه، بموقفه هذا من أحداث ساحة تقسيم، فقد مصداقيته في سياسته السورية، والأخطر من ذلك أنه يخاطر بالعملية السلمية التي أطلقها مع حزب العمال الكردستاني؟” فخلال أيام معدودات تحول مشهد تركيا من حلم السلام إلى ساحة حرب في ميدان تقسيم، وكثير من الشخصيات الثقافية البارزة التي جندها أردوغان، في إطار “هيئة الحكماء” لتسويق العملية السلمية، سوف يبتعدون عنه لينضموا إلى المعارضة الشعبية المتنامية، وفق تقدير تشاندار.

بلغت فاتورة الاحتجاجات، إلى الآن، عشرات الجرحى ونحو ألف معتقل ستوجه إليهم اتهامات بالإخلال بالنظام العام. أما فاتورتها السياسية فربما تكون باهظة على الحكومة. فالمظاهرات التي بدأت بمطالب بسيطة، أخذت ترفع شعار إسقاط الحكومة، وقد لا تكفي إقالة قادة الشرطة في اسطنبول أو حتى وزير الداخلية لتهدئة النفوس. فقد تحولت ساحة تقسيم، بعد قرار الحكومة بسحب الشرطة منها، إلى إعتصام مفتوح إلى حين تحقيق مطالب المحتجين، في حين استمرت الاشتباكات المتقطعة بين الشرطة والمتظاهرين في مناطق أخرى من اسطنبول كبشيكتاش وشيشلي، ويستمر خروج المظاهرات في عشرات المدن عبر الأناضول.

إنها حركة اجتماعية غير مسبوقة في تركيا، كما يقول مراقبون وخبراء أتراك. فهي حركة غير حزبية، وإن حاولت الأحزاب المعارضة ركوب موجتها كما هو متوقع. تضم اليمين واليسار والإسلامي والعلماني واللاسياسي والمعادي للسياسة ورواد الحانات ورواد الجوامع وطلاب الجامعات جميعاً جنباً إلى جنب، وتعبر عن مظالم متراكمة، ومطالب لم تلق من الحكومات المتعاقبة آذاناً صاغية، ومشاعر غبن وإحباط لم تعالجها الطبقة السياسية. أكثر من ذلك، الطابع الغالب على الحراك هو طابع شبابي، جيل لم يعرف على رأس الحكم غير رجب طيب أردوغان الذي تحول، في غضون اثني عشر عاماً، من نصير للفقراء والمهمشين إلى رجل سلطوي لا يطيق النقد ويكره الصحافة ويتحدث غالباً بنبرة التوبيخ المنفرة. ينقل الكاتب عاكف بكي عن طفل التقاه في الساحة، عمره اثني عشر عاماً، قوله: “لا أريد حاكماً يقطع الأشجار لإقامة مراكز تسوق، أريد حاكماً يغير المكان المقرر لإقامة قصره كي لا يتسبب بقطع الأشجار!” في إشارة إلى مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. أثار هذا الكلام الكبير على طفل بهذا العمر فضول بكي، فسأل الولد: “من أين سمعت هذا الكلام؟” فأجابه الولد قائلاً: “من الفيسبوك”.

أردوغان الطامح إلى تتويج حياته السياسية على كرسي الرئاسة، بصلاحيات موسعة بعد التحول المفترض من النظام البرلماني إلى الرئاسي أو نصف الرئاسي على الأقل، وقع في فخ “الربيع العربي” الذي سانده بقوة في لحظته السورية. فقد استهتر بكل المؤشرات المنذرة بالحريق، وتحدى الرأي العام في أكثر من مناسبة، مستنداً إلى شعبيته الكبيرة التي أبقته وحزبه في الحكم ثلاث دورات انتخابية متتالية. من ذلك مثلاً سياسته السورية التي واجهتها معارضة كبيرة متنوعة المشارب، وإجراءات في قطاع التعليم تزيد من أسلمته، والتقييدات التي فرضها قبل فترة وجيزة على استهلاك الكحول، وإطلاق اسم السلطان سليم الأول على الجسر المعلق الثالث الذي تم البدء بإنشائه فوق البوسفور، بما يثيره هذا الاسم من حساسية سلبية لدى العلويين الذين يبلغ تعدادهم عشرين مليوناً.

رفع أحد الشبان المتظاهرين، مساء أول من أمس، أمام مركز التسوق الكبير “سانكو بارك” في قلب غازي عينتاب، لافتة كتب عليها: “جئنا بعدما شربنا العيران!” في سخريةً مكشوفة من أردوغان الذي كان قد ساجل، قبل أسبوعين، معارضي التقييدات الجديدة على استهلاك الخمور بالقول: “يزعمون أن مشروبنا القومي هو البيرة. هذا غير صحيح. مشروبنا القومي هو العيران!”.

المعارضة العلمانية تعيش بهجتها القصوى، وإن كان من المشكوك فيه أن تكون قادرة على استثمار تمرد الحرية هذا لمصلحتها. لكن المؤكد أن أياماً عصيبة تنتظر أردوغان.

2

كسوري يعيش بلده ثورة حرية ومأساة وطنية وإنسانية فظيعة، لا يسعني إلا أن أضيف أن هذه التطورات تبهج نظام الأسد المترنح في دمشق، على الأقل من باب الشماتة والانتقام، كما تزيد هامش سياسة أردوغان المناصرة لثورتنا ضيقاً. اليساري التركي معراج أورال الذي يقود مجموعة شبيحة علويين في الساحل السوري يطلق عليها اسم “المقاومة السورية” يقال إنها نفذت مجازر البيضا وبانياس الطائفية.. كتب على صفحته على فيسبوك يقول: “في حواري المطول مع محطة سما السورية اليوم، ذكَّرتُ بقولي قبل بضعة أشهر إن الأسد باقٍ وأردوغان سيرحل! ووجهت رسالة إلى بشار الأسد ناشدتُ فيها نبل أخلاقه ليقبل بأردوغان وأعوانه لاجئين سياسيين في سوريا!”

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى