صفحات العالم

ساحة وسويحة


محمد سلام

يدرك العالم كلَه أن نظام الأسد يتهاوى بالسقوط الحر. ويتفق العالم على ضرورة “عصر” هذا النظام قبل سقوطه.

لذلك يتقدم سقوط نظام الأسد بوتيرة هادئة … يدفع ثمنها الشعب السوري الذي لا يقدر وحده على تسريع السقوط، ولكنه، أي الشعب، قادرٌ على إدامة مسار السقوط … حتى النهاية.

في التشخيص:

-1- أميركا والغرب:

تنظر الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط من زاويتين لا ثالث لهما: إسرائيل والنفط.

سوريا لا تملك نفطاً تقدَمه لأميركا. لذلك، فإن نظرة واشنطن إلى سوريا تنطلق من زاوية واحدة هي إسرائيل. مصلحة إسرائيل، أمن إسرائيل، مستقبل إسرائيل.

واشنطن تدرك أن نظام الأسد في سقوطه الحر قدم تنازلين لم يقدَمهما يوماً منذ وصوله إلى السلطة في العام 1970 هما: اعتراف الأسد بحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، أي بحدود العام 1967. واعتراف رامي مخلوف بأن أمن سوريا الأسد من أمن إسرائيل، وليس أمن إسرائيل من أمن سوريا الأسد كما كان يقال.

المكسبان الاسترايجيان يؤشَران، من وجهة نظر أميركا، إلى حقيقة أن هذا النظام “يعطي” في السقوط ما لم يعطه في النهوض، لذلك لا بد من أخذ المزيد منه قبل تهاويه نهائياً.

في هذا الصدد واشنطن تريد من الأسد أن يوقّع معاهدة سلام مع إسرائيل. وتعتقد أنه يمكن أن “يعطي” هذا التوقيع أثناء السَقوط الحر لوقف التهاوي النهائي.

لذلك نلاحظ أن كل المواقف الصادرة عن أميركا حيال نظام الأسد تقوم على ركيزة “ولكن” للرَبط بين فقدانه شرعيته وضرورة تنحيه، من جهة، وتطبيق الإصلاحات أو المبادرة العربية، من جهة أخرى، مع أن واشنطن تدرك أنه غير قادر على تطبيقها.

وأميركا أيضا تستخدم الأسد المترنّح بالسقوط الحر “لتقبض” منه عزل إيران. وتعتقد أنه أثناء ترنحه يمكن أن يعرض الخروج من مساره الإيراني الذي بدأه والده مطلع ثمانينات القرن الماضي.

-2- العرب:

العرب أيضاً يتابعون السقوط الحر لنظام الأسد، ويتابعون باهتمام تنازلاته ويعتبرون أن من شأن هذه التنازلات أن تزيل عقبة رئيسية من أمام مبادرة السَلام العربية.

والعرب أيضا يدركون أنه إذا قطع الأسد المترنّح ارتباطه بإيران فإنهم يحققون بذلك مكسباً عربياً تكتيكياً ضد التمدد الكسروي في بلاد العرب، مع أنهم يشكَكون في قدرة الأسد على القيام بمثل هذه الخطوة لأنه متورط إيرانياً حتى النخاع الشَوكي، ولأن النفوذ الإيراني في سوريا قد تعاظم بعد وفاة الأسد الأب في العام 2000 ووصل إلى مستوى السَيطرة الواقعية على الدولة الأسديَة وإن تحت شعار “شكراً سوريا” الذي كان قد أعلنه أمين عام “حزب السلاح” السيد حسن نصر الله في العام 2005.

كان نصر الله يشكر الأسد باسم إيران لأنه سلمها، واقعياً، زمام الدولة السورية بمجرد هزيمته في لبنان وانسحابه منه.

والعرب يدركون أنه إذا ارتكب الأسد محاولة الخروج النهائي من الرَحم الإيراني، فإن إيران … ستتولى أمره.

لذلك فإن العرب أيضا غير مهتمين بتسريع وتيرة السَقوط الأسدي الحر … والشعب السوري يدفع الثمن.

-3- تركيّاً-إسلامياً:

ينظر الإسلاميون، على تعددهم، إلى التنازلين اللّذين قدمهما الأسد المترنّح لأميركا وإسرائيل، ويدعون له بعدم تسريع تهاويه كي يقدّم المزيد … وصولاً إلى توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل.

الإخوان المسلمون في سوريا، أو ما يعرف بإخوان سوريا، ينظرون إلى أشقائهم “أخوان مصر” ويحسدونهم على “نعمة” ما كان قد حققه الرئيس أنور السادات عبر اتفاقية كامب ديفيد، التي أَكدوا احترامهم لمفاعيلها بعد سقوط حسني مبارك.

الإسلاميون في مصر، الآن، يترَحمون على السادات لأنه أعفاهم من مشقة التعامل مع مسألة السلام مع إسرائيل، فهم ورثوها، ويعلنون احترامهم لها والتزامهم بها، كما ورث الإسلاميون الأردنيون اتفاقية “وادي عربة” ولا يطالبون بإلغائها، بل وكما ورثت تركيا الأخوان، أو حزب العدالة، من تركيا أتاتورك العلمانية رزمة من الاتفاقيات الاستراتيجية مع إسرائيل تتمسك بها وتحافظ عليها.

لذلك فإن الإسلاميين أيضا غير مهتمين بتسريع وتيرة السقوط الأسدي الحر.

ما لم يخطر ببال أحد هو أن الإسلاميين أيضا صاروا براغماتيين، بل أكثر براغماتية … حتى من الأميركيين.

-4- روسيا-والصين:

موسكو وبيجينغ لا تؤيَدان الأسد، بل تعارضان واشنطن والإتحاد الأوروبي تحت عنوان “المنافسة الاستباقيَة” لأنهما تريدان حصَة من شرق ما بعد الأسد المترنَح.

لذلك لا يوجد موقف روسي واحد يقول نؤيَد ما يقوم به الأسد.

ولذلك لا يوجد موقف روسي واحد يقول لا نؤيَد التعددية السياسية والحرية والديمقراطية وتداول السلطة في سوريا.

ولذلك لا يوجد موقف روسي واحد يقول نريد استمرار الأسد في الحكم.

ولكن، لماذا يقول الرَوسي إن العمليات التي ينفذها الجيش السوري الحر ستؤدَي إلى “حرب أهليَة”؟

لأن الروسي يقول، بأسلوبه، إن النظام السوري لم يعد لاعبًا في المنطقة.

ولأن الروسي يقول، بأسلوبه، إن سوريا الأسد، بما أنها لم تعد لاعبا، أضحت “ساحة، وبما أنها ساحة فأنا أيضًا أريد أن أكون أحد اللاعبين في هذه الساحة”.

لذلك استقبل الروسي وفد المعارضة السورية، التي ما كان يقبل باستقبالها لو تيقَن من أن الأسد ما زال لاعباً، فليس من الحكمة في شيء أن تستقبل روسيا الاتحادية “فئرانا” يلاحقها “قط” لاعب!

وعندما تتحوَل دولة إلى ساحة، فإن الأثمان التي يتقاضاها اللاَعبون لا تسدَد دائما في ساحة اللعب، بل نادراً ما تسدَد في ساحة اللَعب، ونحن اللبنانيون “أبناء الساحة” أكثر الناس خبرة في الأثمان التي دفعت في أرجاء الكرة الأرضيَة بدلاً عن اللعب في … ساحتنا.

-5- إيران:

إيران تتابع بدقَة متناهية مسرح الأحداث في الساحة السورية كونها أحد أبرز اللاَعبين فيها.

وطهران تدرك أن أميركا تنظر إليها من زاويتي المصلحة الأميركية في الشرق العربي: من زاوية تهديد إيران لاحتياطي النفط الخليجي العربي، ومن زاوية تهديد إيران لأمن إسرائيل، نووياً وعلى مستوى الفيالق الخارجية (أحزاب السلاح ضمناً).

وما شعار الممانعة، على سخافته، سوى تعبير تلخيصي ضمني عن هذين التهديدين اللذين تمسك بهما إيران.

وإيران تدرك أن أميركا تطمح إلى إقامة “حوار مباشر” معها يتناول النقطتين السالفتين، إضافة إلى مستقبل العراق بعد الانسحاب المقرَر اكتماله مع نهاية هذا العام.

وإيران تدرك أنها لاعب ميداني حقيقي في السَاحات الثلاث: العراق، سوريا، لبنان. لذلك فإنها، كما روسيا والصين، تريد ثمناً أو أثماناً بدلاً من “أتعابها” في اللعب.

السؤال هو: ما هو بدل الأتعاب الذي قد يرضي إيران؟

السؤال هو: ما الذي يجب أن تقدَمه إيران من “ألعاب” كي تتقاضى بدلاً؟

الإجابة، أو الإجابات، عن التساؤلين تقلق أميركا والغرب، العرب، روسيا والصين … والأسد، ولبنان السَاحة أيضاً بجميع لاعبيه.

-6- إسرائيل:

الطرف الوحيد الذي لا تقلقه فرضيَات الإجابات الإيرانيَة هو إسرائيل التي، عبر التحذير من تداعيات سقوط البعث الأسدي، تدعو الأسد عملياً إلى توقيع اتفاقية سلام معها، تفيدها، تفيد الغرب، تفيد العرب، وتفيد الإسلاميين ولكنها في النهاية … تضع الأسد على مسار السَادات.

-7- سوريا:

ولكن الأسد ليس السَادات وسوريا ليست مصر. هذه حقيقة جيوسياسية يعرفها الجميع.

في مصر صعد الرئيس لأن الجيش قرر دفعه إلى أعلى. وتخلَى الرئيس عن سلطاته عندما قرر الجيش أن وجوده على رأس السلطة بدأ يهدد … مصر والجيش.

في سوريا صعد الأسد إلى قمة الهرم في العام 1970 عندما رأت “جماعته” أن صعوده يفيدها. وأجاد البقاء في قمَة هرم السلطة عندما ربط مصالح جماعته بمصالح الغرب والعرب وإسرائيل.

وبالتالي، فإن السَقوط التدريجي الحر للأسد يتيح لجماعته فسحة للتأمل في ما إذا كان بقاؤه في قمة الهرم ما زال يفيدها، أم هو عبء عليها، وبالتالي فإن استمرارها في دعمه – وهو ما لم يعلن حتى الآن- يقامر بمستقبل وجودها بعد … تهاويه.

في سوريا لا يُسقط رأس الهرم إلاَ من وضع الرأس على الهرم.

-8- لبنان:

لبنان مجرَد ساحة. كان ساحة قبل “شكراً سوريا” وبقي ساحة بعد “شكراً سوريا” وهو الآن “سويحة” تديرها حكومة حزب الحاكمين (2) الأسد والخامنئي.

وبالتالي فإن كل ما يصيب السَاحة السورية سيصيب “السُويحة” اللبنانية. وبما أنها “سُويحة” فقد يجد بعض اللاَعبين في الساحة السورية ضرورة استباق تطورات ساحته عبر البدء بها في “السُويحة” اللبنانية.

لذلك يقوم الرئيس نبيه بري بمناشدة العاهل السَعودي التوسط بين لاعبي الساحة السورية. ليس لأن بري يعتقد بأن إصلاح الساحة السورية ممكن، وليس لأن بري يعتقد بأن العاهل السعودي سيهب لإنقاذ من هاجم سفارة المملكة وسفارات دول مجلس التعاون الخليحي، من ضمن هجمات أخرى، بل لأن الرئيس بري يريد أن يحجز لنفسه مقعداً للعب على أرض “السويحة” بعدما ابتلع حزب “شكرا سوريا” مساحة برَي بالكامل، وبعدما تحوَلت سوريا-الأسد، التي كانت تدعمه، إلى … مجرد ساحة …

هل تكون “أماني حقل” بري على مقاس “بيدر” السُويحة؟؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى