صفحات الناسعلي العائد

سبعة أيام في الرقّة، ما بعد احتلال “داعش: وتواطؤ “النظام”: رايات سوداء كثيرة.. ربما البلاد تصير “تورا بورا”/ علي العائد

 

كان لا بد من المرور في اسطنبول، في طريقي لزيارة الرقة، بعد أكثر من عامين ونصف من الغياب، لاستطلاع أحوال الطريق، وتسقُّط الأخبار عن واقع ما يجري هناك على الأرض، وليس عبر الميديا التي تصغر الحدث أو تضخمه على هوى من يديرها، أو عبر الفيسبوك الذي يغني كل عضو فيه على ليلاه.

اسطنبول ليست بعيدة عن دمشق، أو حلب، فمنطقة «الفاتح» فيها شيء من «المهاجرين» الدمشقية، أو «سيف الدولة» الحلبية؛ وفي سوق «بيازيد» رائحة «الحميدية»، و»البزورية»، وسوق «المدينة» في حلب؛ وفي «أقسراي» شبه من «باب سريجة»، وسوق «ساروجة» الدمشقيين، و»باب الجنان» الحلبي، والأهم من ذلك أن الناس يتشابهون، الملامح نفسها واللباس نفسه؛ «شطارة» التاجر التركي و»صبيانه» في الأسواق هي هي التي تجدها في دمشق، أو حلب، وأساليب المساومة المستخدمة تتطابق في المكانين، وعلى من ينوي الشراء أخذ ما يريد بنصف الثمن الذي يطلبه البائع، إذا كان «غشيماً»، ما يعني أن البائع يفوز في كل الأحوال.

من اسطنبول بدأت أتهيأ نفسياً للسفر إلى مدينتي، الرقة، التي تبعد نحو مئة كيلومتر جنوب معبر تل أبيض الحدودي مع تركيا، فتحادثت مع أصدقاء عن حالة المدينة وأحوال الطريق إليها.

في الثاني من أيلول الماضي، أخذت الطائرة إلى أورفة (سالين أورفا، بالتركية)، ومنها عبر «الدلمش – ميكروباص» إلى أقجة قلعة، وهي الجزء التركي من تل أبيض، حتى ان السكان على الجانب السوري من الحدود يسمونها «تل أبيض التركي».

المسافة من أورفة إلى أقجة قلعة خمسون كيلومتراً، لكنها استغرقت ساعة ونصف في الدلمش، وكانت الطريق تزداد صعوبة ووحشة كلما اتجهنا جنوباً، حتى في هذه يتحقق المعادل الجيوسياسي – الاقتصادي – الاجتماعي لمصطلح «شمال – جنوب»، فالغنى والخضرة والتنظيم والجمال من نصيب الشمال دون الجنوب، الذي يفتقد لكل هذه الأقانيم.

«شيوخ المرحلة»

على الجانب التركي من المعبر، تطالعك وجوه وسمتها الطبيعة بميسمها، وألزمتها شهوة السلطة بقوانين الشك في كل وجه حتى يثبت العكس. سارت الأمور بسهولة، ومشيت حتى أصبحت في الجانب السوري من الحرم الحدودي، ولامست قدماي الأرض السورية بعد غياب 26 شهراً، لكنني لم أسجد لأقبل الأرض، ولم تتلجلج الدموع في عيني، كنت شارداً من دون توقعات، وأنا أتصل بأخي المهندس، الذي يقيم موقتاً في تل أبيض، ويعمل مع منظمة نروجية، تتولى ترميم المدارس والأبنية المتضررة من قصف النظام المدفعي أولاً، ومن ثم من معارك الإسلامويين التي تدور فيما بينهم بين وقت وآخر.

أنهيت المحادثة معه واتفقنا على اللقاء أمام البوابة الحدودية الأخيرة، وفي لحظة واحدة بدأت الإثارة، شباب أقرب إلى طفولتهم من الرجولة يحملون السلاح، بلحاهم الصغيرة التي لا تكاد تغطي وجوههم الطفلة، وشواربهم المحفوفة عنوة، يحيطون بشخص يلقبونه بـ»شيخ»، يجلس على كرسي في ظل محرس، في الثانية والنصف من ظهر يوم الإثنين الموافق للثاني من أيلول/ سبتمبر الماضي.

للإنصاف، قابلني أحدهم بابتسامة وأنا أجر حقيبتي خلفي، وقال وهو ينظر إلى جواز سفري وهو لايزال في يدي «شيخ.. فوت فوت»، فهمت منه أنه لا يريد أن يرى جواز السفر، وكنت أعلم مسبقاً أنهم لا يدققون في وثائق السفر، أما ما فاجأني فهي كلمة «شيخ»؛ اعتقدت أن السبب هو لحيتي، قبل أن أكتشف لاحقاً أنهم استبدلوا كلمة «رفيق»، أو «أستاذ» بـ»شيخ»، إنها المرحلة الجديدة.

وما إن انطلق الميكروباص باتجاه الرقة، حتى بدأت الحواجز. توقفنا على حاجزين في بلدة «عين العروس»، التي لا تبعد سوى ثلاثة كيلومترات عن تل أبيض. في الحاجز الأول، واجهنا عنصر من لواء أحرار الشام «حاشا»، الجسد طفل، واللباس أسود، أما الوجه فيغطيه قناع لا تظهر منه سوى العينين. طلب مشاهدة بطاقاتنا الشخصية، ثم تمنى لنا الوصول بالسلامة، ودخل في غرفة باطونية مسبقة الصنع، مسارعاً إلى نزع قناعه، في جو شديد الحرارة، وهو يولينا ظهره.

عند الحاجز الثاني، صادفنا التفاصيل نفسها، سوى أن المقنع طلب من السائق نقل راكب وإيصاله إلى الرقة، والحرص على راحته، فظننا جميعاً أن الراكب على صلة بالكتيبة التي ينتمي إليها أفراد الحاجز، ولما صادف أن جلس الشاب إلى جانبي شاهدت سحجة على رسغه، وكان يبدو عليه الألم ووجهه الأسمر محتقن غضباً. كل ذلك قبل أن يخرج عن صمته عند الحاجز الثالث، ونعرف أنه كان موقوفاً لساعات عند «حاشا» وما على رسغه هو أثر «الكلبشة»، وأن من اعتقله هو قريب له أراد «إذلاله»، وصادر له بطاقته الشخصية.

تسامح المقنَّع معه، واقتنع برواية الرجل التي أيدها السائق، لكنه وجّه ملاحظة متذاكية إلى شاب صغير يحمل إيصالاً من دائرة الأحوال المدنية، تفيد أنه تقدم بطلب للحصول على بطاقة شخصية، قائلاً «واحد ما عندو هوية.. والثاني جايبلي إيصال من النظام»، وأغلق الباب مشيراً للسائق أن انطلق.

«تل الرقة»

سارت السيارة بين التلال الكثيرة في الطريق إلى الرقة، والرقة محافظة سهلية لا جبال فيها، لكنها غنية بالتلال، والتل في علم الآثار (الأركيولوجيا) هو مدينة أو مسكن غطاه التراب عبر مئات وآلاف السنين وأصبح تلاً. ولذلك كثر في سنوات الثورة السورية الذين يحفرون وينبشون الأرض بحثاً عن الآثار، والمفارقة أن الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» متفقة مع النابشين على أنهم إذا وجدوا ذهباً أو فضة فنصيبها 20 في المئة من قيمته، أما إذا وجدوا تماثيل أو فخاريات أو أختام فلا شأن لها بتلك الأوثان، وفي كل الأحوال هؤلاء المغامرون في حمايتها حتى تلد الأرض مكنونها.

اكتمل نصاب الحواجز إلى ستة قبل الوصول إلى الرقة، عبر تحويلات وطرق فرعية تآكل الإسفلت الذي يغطيها، أو تركت عجلات الشاحنات الثقيلة آثارها عليها، وبعد نحو ساعتين لاح عمران المدينة من بعيد، لكنني لم أدرك حقيقة أننا على وشك الوصول، كما لم أستطع تحديد حقيقة مشاعري قبل أن أرى أهلي بعد ذلك الغياب.

طالعتني مشاهد متناثرة للدمار في المدينة، وهي لا تكاد تذكر أو تُقارن بما حل بحمص، مثلاً، بينما تولى سائق التاكسي الشرح «هذه البناية دمرها صاروخ أطلقته طائرة، وتلك عبر سيارة مفخخة.. هل ترى هذه البراميل؛ إنه بترول مكرر بطريقة بدائية، أنا لا أملأ خزان وقود سيارتي الكورية إلا ببنزين نظامي». عرفت في ما بعد أنه تقاضى مني ضعف الأجرة المعتادة.

في الطريق إلى البيت، طالعت شعارات في الشوارع تعطي فكرة غائمة عن السلطة الجديدة الحاكمة، وعن الأيديولوجيا التي يتبنونها. أنا الآن في الرقة، لكن الرايات السود لا تؤكد أو تنفي إشاعة أن البلاد تتجه لأن تكون «تورا بورا» جديدة.

«فتح» الرقة

ظروف سقوط الرقة من أيدي النظام، واستيلاء الكتائب الإسلامية، بسهولة عليها، خلال ساعتين فقط، تثير شكوكاً، كون الفرقة 17 الواقعة على تخوم المدينة لاتزال «صامدة» بعد 15 شهراً من «التحرير».

يؤكد هذا «الشك» ما كتبه عبدالحميد آل ناصر، وهو أحد أفراد جبهة تحرير الرقة، على صفحته على فيسبوك «عرض علينا النظام قبل تسليم الرقة بشهرين تسليمنا محافظة الرقة بشكل مسرحي وتمثيلي أمام الناس، على أن يكون الاتفاق من تحت الطاولة، ثم ينضم إلينا الشبيحة، وأفراد الجيش الوطني، ونتابع فصول التمثيلية، فرفضنا العرض رفضاً قاطعاً، وفوجئنا بعد شهرين بتطبيقها من قبل فصائل أخرى. وبرر آل ناصر رفض الجبهة لذلك بقوله «أولاً سيكون ذلك خيانة كبرى، ومحاباة للنظام. ثانياً: أدركنا أن ذلك طعم لتدمير المدينة، وخلق الفوضى فيها، وإثبات فشلنا، والتخلص من أعباء كثيرة عن كاهله. ثالثاً: بمجرد الموافقة لم تعد أنت صاحب القرار، وستفرض عليك الأوامر، ولا تستطيع الرفض، لأنه سيقيدك بأساليب كثيرة يهددك بها، فهو ليس غبياً ليتركك حراً من دون قيود. رابعاً: لم يكن في بالنا أن النظام سيلجأ إلى أطراف أخرى للقيام بهذه التمثيلية، وإلا كنا أعددنا عدتنا، ومنعنا تلك الفصائل من دخول الرقة. ولكن للأسف كانت هنالك خيانات بيننا.

«الفقه الداعشي»

رغم شدة خوف الناس من غموض «داعش»، وقلقهم من الاعتقال إن رفعوا الصوت تجاهها، أو تعرضهم للابتزاز، فإن أصواتاً عدة حاولت مواجهتهم، وأما من استطاع مقابلة أحد هؤلاء فواجه نقاشاً فاشياً توسل الدين بمنطق لا يعقله عقل، ولا تستسيغه ذائقة إنسانية، ومن هذه النقاشات قول أحد مشايخ المدينة، الذي رافق أحد الأصدقاء لسؤالهم أين اختفى علم الثورة الكبير، الذي علقه بالأمس على إحدى اللوحات الإعلانية في المدينة، وبعد حل موضوع العلم بطريقة «فانتازية» واسترجاعه، بادر الشيخ إلى تذكير «أبو شيماء»، وهو إما بدوي سوري، أو سعودي، وفق روايتين، ذكَره بأخلاق النبي، وخطاب النص القرآني له «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»، و»وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، فـ»انطعج» أبو شيماء، وبصوت هو أقرب إلى التهديد، قال «مو حافظين من القرآن إلا آيتين، وين آيات السيف.. الإسلام ما انتصر إلا بالسيف».

مكان للتفاؤل

وقتها، لاشيء من حيث المظهر يثير التفاؤل، لكن تفاؤل الإرادة يتفوق على تشاؤم العقل بين الناس، كونهم أولاً وجدوا أنفسهم قادرين على الاختيار والتحدي لأول مرة مع بداية الثورة السورية رغم سعي النظام البعثي والأسدي إلى إماتة هذه الروح منذ 1963، وبخاصة منذ سنوات 1979، 1980، و1981، حين نزلت دباباته إلى الشوارع واستعاض حافظ الأسد عن الاعتقال والإبعاد والقمع وشراء الذمم بالقتل المباشر الفردي والجماعي، الذي انتهى بتدميره حماة في شباط 1981، وقتل فيها ما يتراوح بين 20 ألفاً و40 ألفاً حسب روايات متباينة.

مكان لتركيا

تفاعلت تركيا منذ اليوم الأول للثورة السورية مع وقائعها، مثلها مثل كل جوارها العربي، غير أن الحمية التركية، الرسمية والشعبية، كانت في مكان أقرب من الثورة السورية، وقدمت الحكومة التركية ما لم تقدمه دولة أخرى للاجئين السوريين في مخيمات أقامتها على الحدود بين البلدين، كما تساهلت مع المعارضين الذين يقيمون في تركيا، وأعفت الحكومة كثيرين من إجراءات الإقامة وسهلت عليهم قوانين العمل لمن يريد، كما كانت حاضنة للجسمين السياسي والعسكري للمجلس الوطني وللائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، بالإضافة لدور الحكومة التركية في الحراك السياسي مع الدول الغربية.

لاشك أن تركيا تضررت من إغلاق الطريق البري الذي تسلكه بضائعها المصدرة إلى دول الخليج العربي، كما تأثرت نسبياً من تراجع حركة الصادرات إلى سوريا، ومن توقف استثماراتها التي بدأت بضخها منذ عام 2006، ناهيك عن تأثير الاضطراب السياسي والعسكري في دولة جارة عليها، غير أن ذلك غير مقدر رقمياً، فالأراضي السورية المحررة تعتمد كلياً منذ ما يقرب من سنتين ونصف على استيراد البضائع التي تحتاجها من تركيا، كما أن تهريب النفط إلى تركيا عبر الناقلات من المناطق المحررة نشط، بل وأدخل الناس إلى منطقتي الشمال والجزيرة مصافي نفط آلية صغيرة، ومطاحن صغيرة، وأدوية، ومستلزمات الطبخ الكهربائية بعد ندرة الغاز المنزلي، والأقمشة بعد توقف معظم معامل حلب عن الإنتاج، هذا بالإضافة إلى أوجه كثيرة من النشاط الاقتصادي.

في الاتجاه الآخر، استوردت تركيا من سوريا كتلة بشرية هائلة، وهذه الكتلة في جزء لا يستهان به هي سياح. وإذا ما استثنينا مئات آلاف اللاجئين الذين يسكنون المخيمات، هنالك ضعف هذا العدد يسكنون في مدن ديار بكر، وأورفة، وأنطاكيا، وعينتاب، والريحانية، واسطنبول، ومدن تركية أخرى، ويشكل هؤلاء المقيمون «السياح» كتلة شرائية تضاف لزخم الاستهلاك في تركيا الذي ازداد بنجاح حكومة حزب العدالة والتنمية في مضاعفة الدخل الفردي السنوي خمس مرات منذ مجيئهم إلى الحكم، كما يشكل التجار والصناعيون منهم رافعة للاقتصاد التركي، خصوصاً ممن استطاعوا النجاة بأنفسهم وأموالهم قبل أن تدخل حلب في مسار الثورة بعد 16 شهراً من بداية الثورة.

لا يمكن الجزم إن كانت تركيا في المحصلة استفادت، أو خسرت، اقتصادياً، من تأييدها الثورة السورية، كما لا يمكن التأكيد إن كان مبدأ هذا التأييد للثورة أخلاقياً، أم منظومة مصالح غير معلنة في مناهضة نظام بشار الأسد، لكن النتيجة تبقى أنه لولا الدعم التركي للثورة لكان وضع الثوار والناس على الأرض أصعب بكثير مما هو عليه الآن. بالمقارنة، هيمنة حزب الله على الإرادة السياسية للدولة اللبنانية ليست في حاجة لشرح، كذلك الوضع العراقي وطغيان القرار الإيراني على الإرادة العراقية المسلوبة، وأما الأردن فلا حول له ولا قوة، يقول شيئاً مسؤول فيه في المساء، ويقول عكس ما قال الأول مسؤول آخر في الصباح، ووضع مخيم الزعتري الصحراوي هو الأسوأ صيفاً وشتاء من بين كل مخيمات اللجوء السوري.

تركيا.. مرة أخرى

ما إن انطلق الميكروباص في السابعة والربع من صباح يوم 9 أيلول/ سبتمبر حتى أوقفنا مقنع عند حاجز جسر الرومانية الذي لا يبعد أكثر من مئتي متر عن مركز الانطلاق، وتسمية الجسر هنا نسبة إلى شركة رومانية كانت تعمل في استصلاح أراضي حوض الفرات في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي.

وأول احتجاج من المقنع على الحاجز كان بسبب جلوس امرأتين شابتين في حضن إحداهما طفل رضيع إلى جانب السائق الذي تربطه بهما علاقة قرابة. اقتنع المقنع حين نبهه السائق أنه لا يوجد نساء غيرهما في السيارة ومن الأفضل ألا تجلسان بين الركاب. سأل عن الحقائب على ظهر السيارة، وعندما لم يستطع تحريك إحدى الحقائب لثقلها، قال «ما بدي تتأخروا أكثر.. الله معكم». بهذه البساطة يتحكم أطفال بمخارج ومداخل المدينة، وبهذه العفوية البلهاء يحاولون ضبط الأمن في مدينة تنازعتها أهواء الكتائب الإسلامية القاعدية في معظم تشكيل ولاءاتها.

الطريق، التي يفترض أنها طريق معبدة، كانت من الوعورة لتدلل على الإهمال الواقع على مدينة الرقة ومحافظتها ليس في سنوات الثورة فقط، بل خلال عقود متوالية مضت، وأما الوجوه في السيارة فكانت هادئة صامتة على غير عادة المسافرين من الرقة إلى تل أبيض، كما خبرتها في مرات عديدة متباعدة، حيث يكثر صخب الركاب، ونكاتهم التي ليس لها ضابط، حتى إن بعض الركاب الذين يلتقون لأول مرة، يستطيعون في جولة تعارف أولى إيجاد قاسم مشترك من خلال الأصل العشائري، أو صديق مشترك، أو شخصية عامة من إحدى العشيرتين، وحبذا لو كان ذلك القاسم المشترك شخصية جديرة بالهجاء، لتسري بين معظم الركاب نار النميمة، حاصدة تاريخ الشخص المعني.

هنا، كانت الوجوه باردة، والطريق البالغ 100 كم نظرياً امتد إلى أكثر من ذلك بسبب التحويلات والطرق الفرعية التي يحاذر فيها السائق الأماكن التي يتواجد فيها مقاتلون من الإسلاميين، أو من أتباع النظام في جيوب حول الفرقة 17 على تخوم الرقة، أو في أنحاء ناحية عين عيسى المحاصر فيها اللواء 93.

كانت الحواجز في الصباح الباكر ثلاثة فقط على طول الطريق، وفور الوصول إلى تل أبيض، توجهت إلى البوابة الحدودية، يرافقني أخواي وصديق لهما، في محاولة لمساعدتي في الدخول إلى تركيا واللحاق بموعد الطائرة.

الساعة تشير إلى موعد فتح البوابة في التاسعة صباحاً، لكن الدخول ممنوع، والحجة الأولى أن البوابة من الجانب التركي لاتزال مغلقة. الحشد أمام البوابة كان يفوق ألف شخص. والمتبع أن يسمحوا للمنتظرين بالعبور حسب الأولوية، للجرحى أولاً، ثم للمسافرين ممن لديهم بطاقة طائرة، ثم لحملة الجوازات، وأخيراً لمن لا يحملون جوازات، هكذا كانت تجري الأمور دائماً، لكن في ظل الحديث عن ضربة جوية أميركية للنظام في وقتها أصبح العبور صعباً.

ظل عناصر البوابة يماطلون المسافرين، فلا هم سمحوا، ولا هم منعوا بشكل قاطع، غير أن أشخاصاً كانوا يدخلون ممن له واسطة، أو ربما يكون تاجراً ولهم مصلحة معه، في تشابه فاضح مع ممارسات عناصر النظام وموظفيه في المعابر الحدودية، وفي مطار دمشق الدولي نفسه، حيث تختلط المزاجية بالابتزاز، وأما من كانت لديه مشكلة فعليه بشجاعة تقديم رشوة معتبرة، أو غير معتبرة (500 ليرة/ ما يعادل 10 دولارات في وقتها) لتتيسر أموره حتى لو كان مخالفاً للأنظمة العامة في البلد، أما السببان الوحيدان اللذان قد يمنعان الموظفين المرتشين من ممارسة فسادهم فهو المنع من السفر، بقرار محكمة، أو لأسباب سياسية، حيث تكون الأسماء الممنوعة من السفر معممة في قوائم على المخارج الحدودية للدولة، البرية والبحرية والجوية، لكن تبقى لكل قاعدة شواذ، ولكل شيء ثمن، ماعدا ما يتعلق بالسياسة والولاء لفقه الطاعة البعثي.

() كاتب سوري.

() مصوّر فوتوغرافي سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى